وبعد أن وصف - سبحانه - ذاته بأنه هو التواب الرحيم عقب ذلك ببيان من تقبل منهم التوب ، ومن لا تقبل منهم فقال : { إِنَّمَا التوبة . . . . . عَذَاباً أَلِيماً } .
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 17 ) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 18 )
والتوبة : هى الرجوع إلى الله - تعالى - وإلى تعاليم دينه بعد التقصير فيه مع الندم على هذا التقصير والعزم على عدم العودة إليه .
والمراد بها قبولها من العبد . فهى مصدر تاب عليه إذا قبل توبته .
والمراد من الجهالة فى قوله { يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ } : الجهل والسفه بارتكاب مالا يليق بالعاقل ، لا عدم العلم ، لأن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة .
قال مجاهد : كل من عصى الله عمداً أو خطأ فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته .
وقال قتادة : اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شئ عسى الله به فهو جهالة عما كان أو غيره .
قال - تعالى - حكاية عن يوسف - عليه السلام - : { رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين } وقال حكاية عن موسى - عليه السلام - { أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين } وقال - سبحانه - مخاطبا نوحا - عليه السلام - { فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } ووجه تسمية العاصى جاهلا - وإن عصى عن علم - أنه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما عصى ربه ، فلما لم يستعمل هذا العلم صار كأنه لا علم له ، فسمى العاصى جاهلا لذلك ، سواء ارتكب المعصية مع العلم بكونها معصية أم لا .
والمعنى : إنما قبول التوبة كائن أو مستقر على الله - تعالى - لعباده الذين يعملون السوء ، ويقعون فى المعاصى بجهالة أى يعملون السوء جاهلين سفهاء ، لأن ارتكاب القبيح مما يدعو إليه السفه والشهوة ، لا مما تدعو إليه الحكمة والعقل .
وصدر - سبحانه - الآية الكريمة بإنما الدالة على الحصر ، للإِشعار بأن هؤلاء الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ، هم الذين يقبل الله توبتهم ، ويقيل عثرتهم .
وعبر - سبحانه - بلفظ على فقال : { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله } للدلالة على تحقق الثبوت ، حتى لكأن قبول التوبة من هؤلاء الذين { يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } من الواجبات عليه ، لأنه - سبحانه - قد وعد بقبول التوبة ؛ وإذا وعد بشئ أنجزه ، إذ الخلف ليس من صفاته - تعالى - بل هو محال فى حقه - عز وجل - .
ولفظ { التوبة } مبتدأ . وقوله { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ } متعلق بمحذوف خبر . وقوله { عَلَى الله } متعلق بمحذوف صفة للتوبة .
أى : إنما التوبة الكائنة على الله للذين يعملون السوء بجهالة . . .
وقوله { بِجَهَالَةٍ } متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل { يَعْمَلُونَ } أى : يعملون السوء جاهلين سفهاء . أو متعلق بقوله { يَعْمَلُونَ } فتكون الباء للسببية أى : يعملون السوء بسبب الجهالة .
وقوله { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } أى ثم يتوبون فى زمن قريب من وقت عمل السوء ، ولا يسترسلون فى الشر استرسالا ويستمرئونه ويتعودون عليه بدون مبالاة بإرتكابه .
ولا شك أنه متى جدد الإنسان توبته الصادقة فى أعقاب ارتكاب للمعصية كان ذلك أرجى لقبولها عند الله - تعالى - وهذا ما يفيده ظاهر الآية . ومنهم من فسر قوله { مِن قَرِيبٍ } بما قبل حضور الموت . وإلى هذا المعنى ذهب صاحب الكشاف فقال : قوله : { مِن قَرِيبٍ } أى : من زمان قريب . والزمان القريب : ما قبل حضرة الموت ألا ترى إلى قوله { حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن } . فبين أن وقت الاحتضار هو الوقت الذى لا تقبل فيه التوبة ، فبقى ما وراء ذلك فى حكم القريب . وعن ابن عباس : قبل أن ينزل به سلطان الموت . وعن الضحاك : كل توبة قبل الموت فهى قريب . وفى الحديث الشريف : " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " - أى ما لم تتردد الروح فى الحلق .
والذى نراه أن ما ذكره صاحب الكشاف وغيره من أن قوله { مِن قَرِيبٍ } معناه : من قبل حضور الموت ، لا يتعارض مع الرأى القائل بأن قوله { مِن قَرِيبٍ } معناه : تم يتوبون فى وقت قريب من وقت عمل السوء ، لأن ما ذكره صاحب الكشاف وغيره بيان للوقت الذى تجوز التوبة فيه ولا تنفع بعده ، أما الرأى الثانى فهو بيان للزمن الذى يكون أرجى قبولا لها عند الله .
والعاقل من الناس هو الذى يبادر بالتوبة الصادقة عقب المعصية بلا تراخ ، لأنه لا يدرى متى يفاجئه الموت ، ولأن تأخبرها يؤدى إلى قسوة القلب ، وضعف النفس ، واستسلامها للأهواء والشهوات .
وقوله : { فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } بيان للوعد الحسن الذى وعد الله به عبادة الذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من قريب .
أى : فأولئك المتصفون بما ذكر ، يقبل الله توبتهم ، ويأخذ بيدهم إلى الهداية والتوفيق ، ويطهر نفوسهم من أرجاس الذنوب ، وكان الله عليما بأحوال عباده وبما هم عليه من ضعف ، حكيما يضع الأمور فى مواضعها حسبما تقتضيه مشيئته ورحمته بهم .
وقوله { فأولئك } مبتدأ . وقوله { يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ } خبره .
وأشار إليهم بلفظ { أولئك } للإِيذان بسمو مرتبتهم ، وعلو مكانتهم ، وللتنبيه على استحضارهم باعتبار أوصافهم المتقدمة الدالة على خوفه من خالقهم عز وجل - وقوله { وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } جملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها .
على أن الإسلام لا يغلق الأبواب في وجه الخاطئين والخاطئات ، ولا يطردهم من المجتمع إن أرادوا أن يعودوا إليه متطهرين تائبين ، بل يفسح لهم الطريق ويشجعهم على سلوكه . ويبلغ من التشجيع أن يجعل الله قبول توبتهم - متى أخلصوا فيها - حقا عليه سبحانه يكتبه على نفسه بقوله الكريم . وليس وراء هذا الفضل زيادة لمستزيد .
( إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب . فأولئك يتوب الله عليهم . وكان الله عليما حكيما . وليست التوبة للذين يعملون السيئات ، حتى إذا حضر أحدهم الموت قال : إني تبت الآن ، ولا الذين يموتون وهم كفار . أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ) .
ولقد سبق في هذا الجزء حديث عن التوبة . في ظلال قوله تعالى في سورة آل عمران : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم . . . ) وهو بجملته يصح نقله هنا ! ولكن التعبير في هذه السورة يستهدف غرضا آخر . . يستهدف بيان طبيعة التوبة وحقيقتها :
إن التوبة التي يقبلها الله ، والتي تفضل فكتب على نفسه قبولها هي التي تصدر من النفس ، فتدل على أن هذه النفس قد أنشئت نشأة أخرى . قد هزها الندم من الأعماق ، ورجها رجا شديدا حتى استفاقت فثابت وأنابت ، وهي في فسحة من العمر ، وبحبوحة من الأمل ، واستجدت رغبة حقيقية في التطهر ، ونية حقيقية في سلوك طريق جديد . .
( إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم . وكان الله عليما حكيما ) . .
والذين يعلمون السوء بجهالة هم الذين يرتكبون الذنوب . . وهناك ما يشبه الإجماع على أن الجهالة هنا معناها الضلالة عن الهدى - طال أمدها أم قصر - ما دامت لا تستمر حتى تبلغ الروح الحلقوم . . والذين يتوبون من قريب : هم الذين يثوبون إلى الله قبل أن يتبين لهم الموت ، ويدخلوا في سكراته ، ويحسوا أنهم على عتباته . فهذه التوبة حينئذ هي توبة الندم ، والانخلاع من الخطيئة ، والنية على العمل الصالح والتكفير . وهي إذن نشأة جديدة للنفس ، ويقظة جديدة للضمير . . ( فأولئك يتوب الله عليهم ) . . ( وكان الله عليما حكيما ) . . يتصرف عن علم وعن حكمة . ويمنح عباده الضعاف فرصة العودة إلى الصف الطاهر ، ولا يطردهم أبدا وراء الأسوار ، وهم راغبون رغبة حقيقية في الحمى الآمن والكنف الرحيم .
إن الله - سبحانه - لا يطارد عباده الضعاف ، ولا يطردهم متى تابوا إليه وأنابوا . وهو - سبحانه - غني عنهم ، وما تنفعه توبتهم ، ولكن تنفعهم هم أنفسهم ، وتصلح حياتهم وحياة المجتمع الذي يعيشون فيه . ومن ثم يفسح لهم في العودة إلى الصف تائبين متطهرين .
{ إنما التوبة على الله } أي إن قبول التوبة كالمحتوم على الله بمقتضى وعده من تاب عليه إذا قبل توبته . { للذين يعملون السوء بجهالة } متلبسين بها سفها فإن ارتكاب الذنب سفها وتجاهل ، ولذلك قيل من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته . { ثم يتوبون من قريب } من زمان قريب ، أي قبل حضور الموت لقوله تعالى : { حتى إذا حضر أحدهم الموت } وقوله عليه الصلاة والسلام : " إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر " وسماه قريبا لأن أمد الحياة قريب لقوله تعالى : { قل متاع الدنيا قليل } . أو قبل أن يشرب في قلوبهم حبة فيطبع عليها فيتعذر عليهم الرجوع ، و{ من } للتبعيض أي يتوبون في أي جزء من الزمان القريب الذي هو ما قبل أن ينزل بهم سلطان الموت ، أو يزين السوء . { فأولئك يتوب الله عليهم } وعد بالوفاء بما وعد به وكتب على نفسه بقوله { إنما التوبة على الله } { وكان الله عليما } فهو يعلم بإخلاصهم في التوبة { حكيما } والحكيم لا يعاقب التائب .