التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ ٱلۡجِنَّ وَخَلَقَهُمۡۖ وَخَرَقُواْ لَهُۥ بَنِينَ وَبَنَٰتِۭ بِغَيۡرِ عِلۡمٖۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ} (100)

وبعد أن ذكر - سبحانه - تلك الدلائل الدالة على عظيم قدرته ، وباهر حكمته ووافر نعمته . واستحقاقه الألوهية ، أتبعها بتوبيخ المشركين والرد عليهم بما يرشدهم إلى الطريق القويم لو كانوا يعقلون فقال - تعالى - : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ . . . } .

قوله { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن } أى : وجعل هؤلاء المشركون لله - سبحانه - شركاء فى الألوهية والربوبية من الجن .

وفى المراد بالجن هنا أقوال :

أحدها : أنهم الملائكة حيث عبدوهم وقالوا إنهم بنات الله وتسميتهم جنا مجازاً لاجتنانهم واستتارهم عن الأعين كالجن .

والثانى : أن المراد بالجن هنا الشياطين . ومعنى جعلهم شركاء أنهم أطاعوهم فى أمور الشرك والمعاصى كما يطاع الله - تعالى - .

والثالث : أن المراد بالجن إبليس فقد عبده قوم وسموه ربا ومنهم من سماه إله الشر والظلمة وخص البارى بألوهية الخير والنور . وقد نقل هذا الرأى عن ابن عباس ، وقد قال الرازى عن هذا الرأى أنه أحسن الوجوه المذكورة فى هذه الآية .

أما ابن كثير فقد رجح الرأى الثانى وقال : فإن قيل كيف عبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام ؟

فالجواب : أنهم ما عبدوها إلا عن طاعة الجن وأمرهم لهم بذلك كقوله : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً } وكقوله { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابني ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } وتقول الملائكة يوم القيامة : { سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } وقال - سبحانه - { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن } ولم يقل : وجعلوا الجن شركاء لله . لإفادة أن محل الغرابة والنكارة أن يكون لله شركاء . ولو قال وجعلوا الجن شركاء لله لأوهم أن موضع الإنكار أن يكون الجن شركاء لله لكونهم جنا . وليس الأمر كذلك ، بل المنكر أن يكون لله شريك من أى جنس كان .

وجملة : { وَخَلَقَهُمْ } حال من فاعل { وَجَعَلُواْ } مؤكدة لما فى جعلهم ذلك من كمال القباحة والبطلان .

أى : وجعلوا لله شركاء الجن والحال أنهم قد علموا أن الله وحده هو الذى خلقهم دون الجن وليس من يخلق كم لا يخلق ، وعليه فالضمير فى خلقهم يعود على المشركين الذين جعلوا لله شركاء .

وقيل الضمير للشركاء أى : والحال أنهم قد علموا أن الله هو الذى خلق الجن فكيف يجعلون مخلوقه شريكا له ؟

وقوله { وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أى : واختلقوا وافتروا له بجهلهم وانطماس بصيرتهم بنين وبنات من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب ، ولكن رمياً بقول عن عمى وجهالة من غير فكر وروية . أو بغير علم بمرتبة ما قالوا وأنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقادر قدره ، وفيه ذم لهم بأنهم يقولون ما يقولون بمجرد الرأى والهوى وفيه إشارة إلى أنه لا يجوز أن ينسب إليه - تعالى - إلا ما قام الدليل على صحته .

قال الراغب : " أصل الخرق قطع الشىء على سبيل الفساد من غير تدبر ولا تفكر ، قال - تعالى -

{ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا } وهو ضد الخلق لأن الخلق هو فعل الشىء بتقدير ورفق " .

ثم ختمت الآية الكريمة بتنزيه الله - تعالى - عما نسبوه فقال - تعالى - : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ } أى : تقدس وتنزه وتعاظم عما يصفه به هؤلاء الضالون من الأجداد والأولاد والنظراء والشركاء .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ ٱلۡجِنَّ وَخَلَقَهُمۡۖ وَخَرَقُواْ لَهُۥ بَنِينَ وَبَنَٰتِۭ بِغَيۡرِ عِلۡمٖۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ} (100)

95

وعندما يبلغ السياق إلى هذا المقطع ؛ وقد عرض على القلب البشري صفحة الوجود الحافلة بدلائل وجود الله ، ووحدانيته ، وقدرته ، وقد غمر الوجدان بتلك الظلال الكونية الموحية ، وقد وصل الضمير بقلب الوجود النابض في كل حي ، الناطق ببديع صنع الخلاق . . عندما يبلغ إلى هذا المقطع يعرض شرك المشركين ، فإذا هو غريب غريب في هذا الجو المؤمن الموصول بمبدع الوجود . ويعرض أوهام المشركين فإذا هي سخف تشمئز منه القلوب والعقول . وسرعات ما يعقب عليها بالاستنكار . والجو كله مهيأ للاستنكار :

( وجعلوا لله شركاء الجن - وخلقهم - وخرقوا له بنين وبنات بغير علم . سبحانه وتعالى عما يصفون ! بديع السماوات والأرض ، أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ؟ وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ) . .

وقد كان بعض مشركي العرب يعبدون الجن . . وهم لا يعرفون من هم الجن ! ولكنها أوهام الوثنية ! والنفس متى انحرفت عن التوحيد المطلق قيد شبر انساقت في انحرافها إلى أي مدى ؛ وانفرجت المسافة بينها وبين نقطة الانحراف التي بدأت صغيرة لا تكاد تلحظ ! وهؤلاء المشركون كانوا على دين إسماعيل . . دين التوحيد الذي جاء به إبراهيم عليه السلام في هذه المنطقة . . ولكنهم انحرفوا عن هذا التوحيد . . ولا بد أن يكون الانحراف قد بدأ يسيرا . . ثم انتهى إلى مثل هذا الانحراف الشنيع . . الذي يبلغ أن يجعل الجن شركاء لله . . وهم من خلقه سبحانه :

( وجعلوا لله شركاء الجن - وخلقهم - ) !

ولقد عرفت الوثنيات المتعددة في الجاهليات المتنوعة أن هناك كائنات شريرة - تشبه فكرة الشياطين - وخافوا هذه الكائنات - سواء كانت أرواحا شريرة أو ذوات شريرة - وقدموا لها القرابين اتقاء لشرها ؛ ثم عبدوها !

والوثنية العربية واحدة من هذه الوثنيات التي وجدت فيها هذه التصورات الفاسدة ، في صورة عبادة للجن ، واتخاذهم شركاء لله . . سبحانه . .

والسياق القرآني يواجههم بسخف هذا الاعتقاد . . يواجههم بكلمة واحدة :

( وخلقهم ) . .

وهي لفظة واحدة ، ولكنها تكفي للسخرية من هذا التصور ! فإذا كان الله سبحانه هو الذي ( خلقهم ) فكيف يكونون شركاء له في الألوهية والربوبية ؟ !

ولم تكن تلك وحدها دعواهم . فأوهام الوثنية متى انطلقت لا تقف عند حد من الانحراف . بل كانوا يزعمون له سبحانه بنين وبنات :

( وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ) .

و " خرقوًا أي : اختلقوا . . وفي لفظها جرس خاص وظل خاص ؛ يرسم مشهد الطلوع بالفرية التي تخرق وتشق !

خرقوا له بنين : عند اليهود : عزير . وعند النصارى : المسيح : وخرقوا له بنات . عند المشركين : الملائكة . وقد زعموا أنهم إناث . . ولا يدري أحد طبعا لماذا هم إناث ! فالادعاءات كلها لا تقوم على أساس من علم . . فكلها ( بغير علم ) . .

( سبحانه وتعالى عما يصفون ) . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ ٱلۡجِنَّ وَخَلَقَهُمۡۖ وَخَرَقُواْ لَهُۥ بَنِينَ وَبَنَٰتِۭ بِغَيۡرِ عِلۡمٖۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ} (100)

عقبه بتوبيخ من أشرك به والرد عليه فقال : { وجعلوا لله شركاء الجن } أي الملائكة بأن عبدوهم وقالوا : الملائكة بنات الله . وسماهم جنا لاجتنانهم تحقيرا لشأنهم ، أو الشياطين لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله تعالى ، أو عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم ، أو قالوا الله خالق الخير وكل نافع ، والشيطان خالق الشر وكل ضار كما هو رأي الثنوية . ومفعول { جعلوا } { لله شركاء } والجن بدل من { شركاء } أو { شركاء } الجن و{ لله } متعلق ب{ شركاء } ، أو حال منه وقرئ { الجن } بالرفع كأنه قيل : من هم فقيل الجن ، و{ الجن } بالجر على الإضافة للتبيين . { وخلقهم } حال بتقدير قد ، والمعنى وقد علموا أن الله خالقهم دون الجن وليس من يخلق كمن لا يخلق . وقرئ { وخلقهم } عطفا على { الجن } أي وما يخلقونه من الأصنام ، أو على شركاء أي وجعلوا له اختلافهم للإفك حيث نسبوه إليه . { وخرقوا له } افتعلوا وافتروا له . وقرأ نافع بتشديد الراء للتكثير . وقرئ " وحرفوا " أي وزوروا . { بنين وبنات } فقالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله ، وقالت العرب الملائكة بنات الله . { بغير علم } من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه ويروا عليه دليلا ، وهو في موضع الحال من الواو ، أو المصدر أي خرقا بغير علم . { سبحانه وتعالى عما يصفون } وهو أن له شريكا أو ولدا .