التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيۡهِنَّۚ وَإِن كُنَّ أُوْلَٰتِ حَمۡلٖ فَأَنفِقُواْ عَلَيۡهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأۡتَمِرُواْ بَيۡنَكُم بِمَعۡرُوفٖۖ وَإِن تَعَاسَرۡتُمۡ فَسَتُرۡضِعُ لَهُۥٓ أُخۡرَىٰ} (6)

ثم أمر - سبحانه - الرجال بأن يحسنوا معاملة النساء المطلقات ، ونهاهم عن الإساءة إليهن بأى لون من ألوان الإساءة فقال : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ . . . } والخطاب للرجال الذين يريدون فراق أزواجهن ، والضمير المنصوب فى قوله { أَسْكِنُوهُنَّ } يعود إلى النساء المطلقات .

و { مِنْ } للتبعيض ، والوجد : السعة والقدرة .

أى : أسكنوا المطلقات فى بعض البيوت التى تسكنونها والتى فى وسعكم وطاقتكم إسكانهن فيها .

قال صاحب الكشاف : قوله : { أَسْكِنُوهُنَّ } وما بعده : بيان لما شرط من التقوى فى قوله : { وَمَن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ .

. } كأنه قيل : كيف نعمل بالتقوى فى شأن المعتدات ؟ فقيل : { أَسْكِنُوهُنَّ } .

فإن قلت : فقوله : { مِّن وُجْدِكُمْ } ما موقعه ؟ قلت : هو عطف بيان لقوله { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } ، وتفسير له ، كأنه قيل : أسكنوهن مكانا من مسكنكم مما تطيقونه .

والسكنى والنفقة : واجبتان لكل مطلقة . وعند مالك والشافعى : ليس للمبتونة إلا السكن ولا نفقة لها ، وعن الحسن وحماد : لا نفقه لها ولا سكنى ، لحديث فاطمة بنت قيس : " أن زوجها أبتَّ طلاقها ، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا سكنى لك ولا نفقة . . . " " .

ثم أتبع - سبحانه - الأمر بالإحسان إلى المطلقات ، بالنهى عن إلحاق الأذى بهن فقال : { وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ . . } .

أى : ولا تستعملوا معهن ما يؤذيهن ويضرهن ، لكى تضيقوا عليهن ما منحه الله - تعالى - لهن من حقوق ، بأن تطيلوا عليهن مدة العدة ، فتصبح الواحدة منهن كالمعلقة ، أو بأن تضيقوا عليهن فى السكنى ، حتى يلجأن إلى الخروج ، والتنازل عن حقوقهن .

وقوله - تعالى - : { وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ . . } أى : وإن كان المطلقات أصحاب حمل - فعليكم يا معشر الأزواج - أن تقدموا لهن النفقة المناسبة ، حتى يضعن حملهن .

قال الإمام ابن كثير : قال كثير من العلماء منهم ابن عباس ، وطائفة من السلف . هذه هى البائن ، إن كانت حاملا أنفق عليها حيث تضع حملها ، قالوا : بدليل أن الرجعية تجب نفقتها سواء أكانت حاملا أم غير حامل .

وقال آخرون : بل السياق كله فى الرجعيات ، وإنما نص على الإنفاق على الحامل - وإن كانت رجعية - لأن الحمل تطول مدته غالبا . فاحتيج إلى النص على وجوب الإنفاق إلى الوضع ، لئلا يتوهم أنه إنما تجب النفقة بمقدار مدة العدة .

ولما كان الحمل ينتهى بالوضع ، انتقلت السورة الكريمة إلى بيان ما يجب للمطلقات بعد الوضع ، فقال - تعالى - : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } .

أى : عليكم - أيها المؤمنون - أن تقدموا لنسائكم ذوات الحمل اللائى طلقتموهن طلاقا بائنا ، عليكم أن تقدموا لهن النفقة حتى يضعن حملهن ، فإذا ما وضعن حملهن وأرادوا أن يرضعن لكم أولادكم منهن ، فعليكم - أيضا - أن تعطوهن أجورهن على هذا الإرضاع ، وأن تلتزموا بذلك لهن .

وقد أخذ العلماء من هذه الآية أن الأم المطلقة طلاقا بائنا ، إذا أرادت أن ترضع ولدها بأجر المثل ، فليس لأحد أن يمنعها من ذلك ، لأنها أحق به من غيرها ، لشدة شفقتها عليه . . . وليس للأب أن يسترضع غيرها حينئذ . كما أخذوا منها - أيضا - أن نفقة الولد الصغير على أبيه ، لأنه إذا لزمته أجرة الرضاع ، فبقية النفقات الخاصة بالصغير تقاس على ذلك .

وقوله - سبحانه - : { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } حض منه - سبحانه - للآباء والأمهات على التعاون والتناصح فى وجوه الخير والبر .

والائتمار معناه : التشاور وتبادل الرأى ، وسمى التشاور بذلك لأن المتشاورين فى مسألة ، يأمر أحدهما الآخر بشىء فيستجيب لأمره ، ويقال : أئتمر القوم وتآمروا بمعنى واحد .

أى : عليكم - أيها الآباء والأمهات - أن تتشاوروا فيما ينفع أولادكم ، وليأمر بعضكم بعضا بما هو حسن ، فيما يتعلق بالإرضاع والأجر وغيرهما .

وقوله - تعالى - : { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى } إرشاد إلى ما يجب عليهما فى حالة عدم التراضى على الإرضاع أو الأجر .

والتعاسر مأخوذ من العسر الذى هو ضد اليسر والسماحة ، يقال تعاسر المتبايعان ، إذا تمسك كل واحد منهما برأيه ، دون أن يتفقا على شىء .

أى : وإن اشتد الخلاف بينكم ، ولم تصلوا إلى حل ، بأن امتنع الأب عن دفع الأجرة للأم ، أو امتنعت الأم عن الإرضاع إلا بأجر معين . فليس معنى ذلك أن يبقى المولود جائعا بدون رضاعة ، بل على الأب أن يبحث عن مرضعة أخرى ، لكى ترضع له ولده ، فالضمير فى قوله { لَهُ } يعود على الأب .

قال صاحب الكشاف قوله : { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى } أى : فستوجد مرضعة غير الأم ترضعه ، وفيه طرف من معاتبة الأم على المعاسرة ، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى : سيقضيها غيرك . تريد لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم .

وقد علق المحشى على الكشاف بقوله : وخص الأم بالمعاتبة ، لأن المبذول من جهتها هو لينها وهو غير متمول ولا مضنون به فى العرف ، وخصوصا فى الأم على الولد ، ولا كذلك المبذول من جهة الأب ، فإنه المال المضنون به عادة فالأم إذاً أجدى باللوم ، وأحق بالعتب . .

قالوا : وفى هذه الجملة - أيضا - طرف من معاتبة الأب ، لأنه كان من الوجاب عليه أن يسترضى الأم ، ولا يكون مصدر عسر بالنسبة لها ، حرصا على مصلحة الولد .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيۡهِنَّۚ وَإِن كُنَّ أُوْلَٰتِ حَمۡلٖ فَأَنفِقُواْ عَلَيۡهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأۡتَمِرُواْ بَيۡنَكُم بِمَعۡرُوفٖۖ وَإِن تَعَاسَرۡتُمۡ فَسَتُرۡضِعُ لَهُۥٓ أُخۡرَىٰ} (6)

( أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ، ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن . وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن . فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ، وأتمروا بينكم بمعروف ، وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى . لينفق ذو سعة من سعته ، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله ، لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ، سيجعل الله بعد عسر يسرا ) . .

وهذا هو البيان الأخير لتفصيل مسألة الإقامة في البيوت ، والإنفاق في فترة العدة - على اختلاف مدتها . فالمأمور به هو أن يسكنوهن مما يجدون هم من سكنى . لا أقل مما هم عليه في سكناهم ، وما يستطيعونه حسب مقدرتهم وغناهم . غير عامدين إلى مضارتهم سواء بالتضييق عليهن في فسحة المسكن أو مستواه أو في المعاملة فيه . وخص ذوات الأحمال بذكر النفقة - مع وجوب النفقة لكل معتدة - لتوهم أن طول مدة الحمل يحدد زمن الإنفاق ببعضه دون بقيته ، أو بزيادة عنه إذا قصرت مدته . فأوجب النفقة حتى الوضع ، وهو موعد انتهاء العدة لزيادة الإيضاح التشريعي .

ثم فصل مسألة الرضاعة فلم يجعلها واجبا على الأم بلا مقابل . فما دامت ترضع الطفل المشترك بينهما ، فمن حقها أن تنال أجرا على رضاعته تستعين به على حياتها وعلى إدرار اللبن للصغير ، وهذا منتهى المراعاة للأم في هذه الشريعة . وفي الوقت ذاته أمر الأب والأم أن يأتمرا بينهما بالمعروف في شأن هذا الوليد ، ويتشاورا في أمره ورائدهما مصلحته ، وهو أمانة بينهما ، فلا يكون فشلهما هما في حياتهما نكبة على الصغير البريء فيهما !

وهذه هي المياسرة التي يدعوهما الله إليها . فأما إذا تعاسرا ولم يتفقا بشأن الرضاعة وأجرها ، فالطفل مكفول الحقوق : ( فسترضع له أخرى ) . . دون اعتراض من الأم ودون تعطيل لحق الطفل في الرضاعة ، بسبب تعاسرهما بعد فشلهما !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيۡهِنَّۚ وَإِن كُنَّ أُوْلَٰتِ حَمۡلٖ فَأَنفِقُواْ عَلَيۡهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأۡتَمِرُواْ بَيۡنَكُم بِمَعۡرُوفٖۖ وَإِن تَعَاسَرۡتُمۡ فَسَتُرۡضِعُ لَهُۥٓ أُخۡرَىٰ} (6)

يقول تعالى آمرًا عباده إذا طلّق أحدُهم المرأة أن يُسكنَها في منزل حتى تنقضي عدتها ، فقال : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ } أي : عندكم ، { مِنْ وُجْدِكُمْ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد : يعني سَعَتكم . حتى قال قتادة : إن لم تجد إلا جنب بيتك فأسكنها فيه .

وقوله : { وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ } قال مقاتل بن حيان : يعني يضاجرها لتفتدي منه بمالها أو تخرج من مسكنه .

وقال الثوري ، عن منصور ، عن أبي الضُّحَى : { وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ } قال : يطلقها ، فإذا بقي يومان راجعها .

وقوله : { وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } قال كثير من العلماء منهم ابن عباس ، وطائفة من السلف ، وجماعات من الخلف : هذه في البائن ، إن كانت حاملا أنفق عليها حتى تضع حملها ، قالوا : بدليل أن الرجعية تجب نفقتها ، سواء كانت حاملا أو حائلا .

وقال آخرون : بل السياق كله في الرجعيات ، وإنما نص على الإنفاق على الحامل وإن كانت رجعية ؛ لأن الحمل تطول مدته غالبا ، فاحتيج إلى النص على وجوب الإنفاق إلى الوضع ؛ لئلا يتوهم أنه إنما تجب النفقة بمقدار مدة العدة .

واختلف العلماء : هل النفقة لها بواسطة الحمل ، أم للحمل وحده ؟ على قولين منصوصين عن الشافعي وغيره ، ويتفرع عليها مسائل مذكورة في علم الفروع .

وقوله : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } أي : إذا وضعن حملهن وهن طوالق ، فقد بنَّ بانقضاء عدتهن ، ولها حينئذ أن ترضع الولد ، ولها أن تمتنع منه ، ولكن بعد أن تغذيه باللبَّأ - وهو باكورة اللبن الذي لا قوام للولد غالبًا إلا به - فإن أرضعت استحقت أجر مثلها ، ولها أن تعاقد أباه أو وليه على ما يتفقان عليه من أجرة ؛ ولهذا قال تعالى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وقوله : { وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } أي : ولتكن أموركم فيما بينكم بالمعروف ، من غير إضرار ولا مضارة ، كما قال تعالى في سورة " البقرة " : { لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } [ البقرة : 233 ]

وقوله : { وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } أي : وإن اختلف الرجل والمرأة ، فطلبت المرأة أجرة الرضاع كثيرًا ولم يجبها الرجل إلى ذلك ، أو بذل الرجل قليلا ولم توافقه عليه ، فليسترضع له غيرها . فلو رضيت الأم بما استؤجرت عليه الأجنبية فهي أحق بولدها .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيۡهِنَّۚ وَإِن كُنَّ أُوْلَٰتِ حَمۡلٖ فَأَنفِقُواْ عَلَيۡهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأۡتَمِرُواْ بَيۡنَكُم بِمَعۡرُوفٖۖ وَإِن تَعَاسَرۡتُمۡ فَسَتُرۡضِعُ لَهُۥٓ أُخۡرَىٰ} (6)

{ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ }

هذه الجملة وما ألحق بها من الجمل إلى قوله : { وكأين من قرية عتت } [ الطلاق : 8 ] الخ تشريع مستأنف فيه بيان لما أُجمل في الآيات السابقة من قوله : { لا تخرجوهن من بيوتهن } [ الطلاق : 1 ] وقوله : { أو فارقوهن بمعروف } [ الطلاق : 2 ] ، وقوله : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] فتتنزّل هذه الجمل من اللاتي قبلها منزلة البيان لبعض ، ويدل الاشتمال لبعض وكل ذلك مقتضى للفصل . وابتدىء ببيان ما في { لا تخرجوهن من بيوتهن } [ الطلاق : 1 ] من إجمال .

والضمير المنصوب في { أسكنوهن } عائد إلى النساء المطلقات في قوله : { إذا طلقتم } [ الطلاق : 1 ] . وليس فيما تقدم من الكلام ما يصلح لأن يعود عليه هذا الضمير إلا لفظ النساء وإلاّ لفظ { أولات الأحمال } [ الطلاق : 4 ] ، ولكن لم يقل أحد بأن الإِسكان خاص بالمعتدّات الحوامل فإنه ينافي قوله تعالى : { لا تخرجوهن } [ الطلاق : 1 ] فتعين عود الضمير إلى النساء المطلقات كلّهن ، وبذلك يشْمل المطلقة الرجعية والبائنة والحامل ، لما علمتَه في أول السورة من إرادة الرجعية والبائنة من لفظ { إذا طلقتم النساء } [ الطلاق : 1 ] .

وجمهور أهل العلم قائلون بوجوب السكنى لهن جميعاً . قال أشهب : قال مالك : يَخرج عنها إذا طلقها وتبقى هي في المنزل . وروى ابن نافع قال مالك : فأما التي لم تَبِنْ فإنها زوجة يتوارثان والسكنى لهن لازمة لأزواجهن اه . يريد أنها مستغنى عن أخذ حكم سكناها من هذه الآية . ولا يريد أنها مستثناة من حكم الآية . وقال قتادة وابن أبي ليلى وإسحاق وأبو ثور وأحمد بن حنبل : لا سكنى للمطلقة طلاقاً بائناً . ومتمسكهم في ذلك ما روته فاطمة بنت قَيس : أن زوجها طلقها ثلاثاً وأن أخا زوجها منعها من السكنى والنفقة ، وأنها رفعت أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها : " إنما السكنى والنفقة على من له عليها الرجعة " وهو حديث غريب لم يعرفه أحد إلا من رواية فاطمة بنت قيس . ولم يقبله عُمر بن الخطاب فقال : لا نترك كتاب الله وسنة نبيئنا لقول امرأة لا ندري لعلها نسيت أو شُبّه عليها . وأنكرته عائشة على فاطمة بنت قيس فيما ذكرتْه من أنه أذن لها في الانتقال إلى مكان غير الذي طلقت فيه كما تقدم .

وروي أن عمر « روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن للمطلقة البائنة سكنى »{[428]} . ورووا أن قتادة وابن أبي ليلى أخذا بقوله تعالى : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } [ الطلاق : 1 ] إذ الأمر هو المراجعة ، فقصَرا الطلاق في قوله : { إذا طلقتم النساء } [ الطلاق : 1 ] ، على الطلاق الرجعي لأن البائن لا تترقب بعده مراجعة وسبقها إلى هذا المأخذ فاطمة بنت قيس المذكورة .

روى مسلم أن مروان بن الحكم أرسل إلى فاطمة بنت قيس يسألها عن الحديث فحدثته فقال مروان : لم نسمع هذا الحديث إلا من المرأة سنأخذ بالعصْمة التي وجدنا عليها الناس فبلغ قولُ مروان فاطمة بنت قيس فقالت : « بيني وبينكم القرآن ، قال الله عزّ وجل : { لا تخرجوهن من بيوتهن ، إلى قوله : لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } [ الطلاق : 1 ] قالت : هذا لمن كانت له رجعة فأي أمر يحدث بعد الثلاث » اه .

ويرد على ذلك أن إحداث الأمر ليس قاصراً على المراجعة فإن من الأمر الذي يحدثه الله أن يرقق قلوبهما فيرغبا معاً في إعادة المعاشرة بعقد جديد . وعلى تسليم اقتصار ذلك على إحداث أمر المراجعة فذكر هذه الحكمة لا يقتضي تخصيص عموم اللفظ الذي قبلها إذ يكفي أن تكون حكمة لبعض أحوال العام . فالصواب أن حق السكنى للمطلقات كلهن ، وهو قول جمهور العلماء .

وقوله : { من حيث سكنتم } ، أي في البيوت التي تسكنونها ، أي لا يكلف المطلق بمكان للمطلقة غير بيته ولا يمنعها السكنى ببيته . وهذا تأكيد لقوله : { لا تخرجوهن من بيوتهن } [ الطلاق : 1 ] .

فإذا كان المسكن لا يسع مبيتين متفرقين خَرج المطلق منه وبقيت المطلقة ، كما تقدم فيما رواه أشهب عن مالك .

و { مِن } الواقعة في قوله : { من حيث سكنتم } للتبعيض ، أي في بعض ما سكنتم ويؤخذ منه أن المسكن صالح للتبعيض بحسب عرف السكنى مع تجنب التقارب في المبيت إن كانت غير رجعية ، فيؤخذ منه أنه إن لم يسعهما خرج الزوج المطلق .

و { مِن } في قوله : { من وجدكم } بدل مطابق ، وهو بيان لقوله : { من حيث سكنتم } فإن مسكن المرء هو وجده الذي وجده غالباً لمن لم يكن مقتراً على نفسه .

والوُجد : مثلث الواو هو الوسع والطاقة . وقرأه الجمهور بضم الواو . وقرأه رَوْح عن يعقوب بكسرها .

{ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عليهن } .

أتبع الأمر بإسكان المطلقات بنهي عن الإِضرار بهن في شيء مدة العدة من ضيق محلّ أو تقتير في الإِنفاق أو مراجعة يعقبها تطليق لتطويل العدة عليهن قصداً للكناية والتشفي كما تقدم عند قوله تعالى : { ولا تتخذوا آيات الله هزؤاً } في سورة [ البقرة : 231 ] . أو للإِلجاء إلى افتدائها من مراجعته بخلع .

والضارة : الإِضرار القوي فكأن المبالغة راجعة إلى النهي لا إلى المنهي عنه ، أي هو نهي شديد كالمبالغة في قوله : { وما ربك بظلام للعبيد } [ فصلت : 46 ] في أنها مبالغة في النفي ومثله كثير في القرآن .

والمراد بالتضييق : التضييق المجازي وهو الحرج والأذى .

واللام في { لتضيقوا عليهن } لتعليل الإِضرار وهو قيد جرى على غالب ما يعرض للمطلقين من مقاصد أهل الجاهلية ، كما تقرر في قوله تعالى : { ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا } [ البقرة : 231 ] وإلا فإن الإِضرار بالمطلقات منهي عنه وإن لم يكن لقصد التضييق عليهن .

{ وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حملهن } .

ضمير { كن } يعود إلى ما عاد إليه ضمير { أسكنوهن } كما هو شأن ترتيب الضمائر ، وكما هو مقتضى عطف الجمل ، وليس عائداً على خصوص النساء الساكنات لأن الضمير لا يصلح لأن يكون معاداً لضمير آخر .

وظاهر نظم الآية يقتضي أن الحوامل مستحقات الإِنفاق دون بعض المطلقات أخذاً بمفهوم الشرط ، وقد أخذ بذلك الشافعي والأوزاعي وابن أبي ليلى .

ولكن المفهوم معطل في المطلقات الرجعيات لأن إنفاقهن ثابت بأنهن زوجات . ولذلك قال مالك : إن ضمير { أسكنوهن } للمطلقات البوائن كما تقدم .

ومن لم يأخذ بالمفهوم قالوا : الآية تعرضت للحوامل تأكيداً للنفقة عليهن لأن مدة الحمل طويلة فربما سئم المطلق الإِنفاق ، فالمقصود من هذه الجملة هو الغاية التي بقوله : { حتى يضعن حملهن } وجعلوا للمطلقة غير ذات الحمل الإِنفاق . وبه أخذ أبو حنيفة والثوري . ونسب إلى عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما .

وهذا الذي يرجح هو هذا القول وليس للشرط مفهوم وإنما الشرط مسوق لاستيعاب الإِنفاق جميع أمد الحمل .

{ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَأَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى } .

لما كان الحمل ينتهي بالوضع انتُقل إلى بيان ما يجب لهن بعد الوضع فإنهن بالوضع يصرن بائنات فتنقطع أحكام الزوجية فكان السامع بحيث لا يدري هل يكون إرضاعها ولدها حقاً عليها كما كان في زمن العصمة أو حقاً على أبيه فيعطيها أجر إرضاعها كما كان يعطيها النفقة لأجل ذلك الولد حين كان حملاً . وهذه الآية مخصصة لقوله في سورة [ البقرة : 233 ] { والوالدات يرضعن أولادهن } الآية .

وأفهم قوله : { لكم } أن إرضاع الولد بعد الفراق حق على الأب وحده لأنه كالإِنفاق والأُم ترضع ولدها في العصمة تبعاً لإِنفاق أبيه عليها عند مالك خلافاً لأبي حنيفة والشافعي ، إذ قالا : لا يجب الإِرضاع على الأم حتى في العصمة فلما انقطع إنفاق الأب عليها بالبينونة تمحضت إقامة غذاء ابنه عليه فإن أرادت أن ترضعه فهي أحق بذلك ، ولها أجل الإِرضاع وإن أبت فعليه أن يطلب ظئراً لابنه فإن كان الطفلُ غير قابل ثديَ غير أمه وجب عليها إرضاعه ووجب على أبيه دفع أجرة رضاعه .

وقال أبو ثور : يجب إرضاع الابن على أمه ولو بعدَ البينونة . نقله عند أبُو بكر ابن العربي في « الأحكام » وهو عجيب . وهذه الآية أمامه .

والائتمار : التشاور والتداول في النظر . وأصله مطاوع أمره لأن المتشاورين يأمر أحدهما الآخر فيأتمر الآخر بما أمره . ومنه تسمية مجامع أصحاب الدعوة أو النحلة أو القصد الموحّد مؤتمراً لأنه يقع الاستئمار فيه ، أي التشاور وتداول الآراء .

وقوله : { وأتمروا بينكم } خطاب للرجال والنساء الواقع بينهم الطلاق ليتشاوروا في أمر إرضاع الأمّ ولدها . وما يبذله الأب لها من الأجرة على ذلك .

وقيدَ الائتمارُ بالمعروف ، أي ائتماراً ملابساً لما هو المعروف في مثل حالهم وقومهم ، أي معتاد مقبول ، فلا يشتَطّ الأب في الشحّ ولا تشتط الأم في الحرص .

وقوله : { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } عتاب وموعظة للأب والأمّ بأن ينزّل كل منهما نفسه منزلة ما لو اجتُلبت للطفل ظِئر ، فلا تسأل الأمُّ أكثر من أجر أمثالها ، ولا يشحّ الأب عما يبلغ أجرَ أمثال أمّ الطفل ، ولا يسقط حق الأمّ إذا وجد الأب من يرضع له مجاناً لأن الله قال : { فسترضع له أخرى } وإنما يقال : أرضعت له ، إذا استؤجرت لذلك ، كما يقال : استرضَع أيضاً ، إذا آجر من يرضع له ولده . وتقدم في سورة البقرة قوله تعالى : { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم } [ 233 ] الآية .

والتعاسر صدور العسر من الجانبين . وهو تفاعل من قولكم : عسرتُ فلاناً ، إذا أخذته على عسره ، ويقال : تعاسر البيِّعان إذا لم يتفقا .

فمعنى { تعاسرتم } اشتدّ الخلاف بينكم ولم ترجعوا إلى وفاق ، أي فلا يبقى الولد بدون رضاعة .

وسين الاستقبال مستعمل في معنى التأكيد ، كقوله : { قال سوف أستغفر لكم ربي } في سورة [ يوسف : 98 ] . وهذا المعنى ناشىء عن جعل علامة الاستقبال كنايَة عن تجدد ذلك الفعل في أزمنة المستقبل تحقيقاً لتحصيله .

وهذا الخبر مستعمل كناية أيضاً عن أمر الأب باستئجار ظئر للطفل بقرينة تعليق له } بقوله : { فسترضع } .

فاجتمع فيه ثلاث كنايات : كناية عن موعظة الأب ، وكناية عن موعظة الأم ، وكناية عن أمر الأب بالاسترضاع لولده .


[428]:- هكذا يروي المفسرون عن عمر : أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم أقف عليه مسندا.