التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ضَرَبَ لَكُم مَّثَلٗا مِّنۡ أَنفُسِكُمۡۖ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ فَأَنتُمۡ فِيهِ سَوَآءٞ تَخَافُونَهُمۡ كَخِيفَتِكُمۡ أَنفُسَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (28)

وبعد هذا التطواف المتنوع فى آفاق الأنفس ، وفى أعماق هذا الكون ، ضرب - سبحانه - مثلا لا مجال للجدل فيه ، لوضوحه واعتماده على المنطق السليم ، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يمضى فى طرييقه المستقيم ، كما أمر المؤمنين بأن يلتجئوا إليه - سبحانه - وحده وأن يصونوا أنفسهم عن كل ما يغضبه ، فقال - تعالى - : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً . . . . لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } .

و { مِّنْ } فى قوله - سبحانه - : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ } ابتدائية ، والجار والمجرور فى محل نصب ، صفة لقوله : { مَّثَلاً } .

أى : ضرب لكم - أيها الناس - مثلا ، يظهر منه بطلان الشكر ظهورا واضحا ، وهذا المثل كائن من أحوال أنفسكم ، التى هى أقرب شئ لديكم .

قال القرطبى : والآية نزلت فى كفار قريش ، كانوا يقولون فى التلبية : " لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك . . " .

وقوله - تعالى - : { هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ } تصوير وتفضيل للمثل ، والاستفهام للإِنكار والنفى . و { مِّن } الأولى للتبعيض ، والثانية لتأكيد النفى ، وقوله { شُرَكَآءَ } مبتدأ ، وخبره { لَّكُمْ } وقوله : { مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } متعلق بمحذوف حال من شركاء .

وقوله : { فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } جواب للاستفهام الذى هو بمعنى النفى . والجملة مبتدأ وخبر . وقوله : { تَخَافُونَهُمْ } خبر ثان لأنتم ، وقوله : { كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } صفة لمصدر محذوف ، أى : تخافونهم خيفة كائنة مثل خيفتكم من هو من نوعكم .

والمعنى : ضرب الله - تعالى - لكم - أيها الناس - مثلا منتزعا من أنفسكم التى هى أقرب شئ إليكم ، وبيان هذا المثل : أنكم لا ترضون أن يشارككم فى أموالاكم التى رزقناكم إياها ، عبيدكم وإماؤكم ، مع أنهم مثلكم فى البشرية ، ونحن الذين خلقناهم كما خلقناكم ، بل إنكم لتخافون على أموالكم منهم ، أن يشاركوكم فيها ، كما تخافون عليها من الأحرار المشابهين لكم فى الحرية وفى جواز التصرف فى تلك الأموال . فإذا كان هذا شأنكم مع عبيدكم - الذين هم مثلكم فى البشرية ، والذين لم تخلقوهم بل نحن الذين خلقناكم وخلقناهم - فكيف أجزتم لأنفسكم أن تشركوا مع الله - تعالى - آلهة أخرى فى العبادة ، مع أنه - سبحانه - هو الخالق لكم ولهم ، والرازق لكم ولهم ؟ ! !

إن تصرفكم هذا ظاهر التناقض والبطلان ، لأنكم لم ترضوا أن يشارككم غيركم فى أموالكم ، ورضيتم أن تشركوا مع الله - تعالى - : غيره فى العبادة ، مع أنه - سبحانه - هو الخالق والرازق لكل شئ .

فالمقصود من الآية الكريمة ، إبطال الشرك بأبلغ أسلوب ، وأوضح بيان ، وأصدق حجة ، وأقوى دليل .

ولذا ختمها - سبحانه - بقوله : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أى : مثل ذلك التفصيل الجلى الواضح ، نفصل الآيات الدالة على وحدانيتنا ، لقوم يعقلون هذه الأمثال ، وينتفعون بها فى إخلاص العبادة لله الواحد القهار .

قال الإِمام القرطبى : قال بعض العلماء : هذه الآية أصل فى الشركة بين المخلوقين ، لافتقار بعضهم إلى بعض ، ونفيها عن الله - سبحانه - وذلك أنه قال - سبحانه - : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ } فيجب أن يقولوا : ليس عبيدنا شركاءنا فيما رزقتنا ، فيقال لهم : فكيف يتصور أن تنزهوا أنفسكم عن مشاركة عبيدكم ، وتجعلوا عبيدى شركائى فى خلقى ، فهذا حكم فاسد ، وقلة نظر وعمى قلب ! !

فإذا أبطلت الشركة بين العبيد وساداتهم فيما يملكه السادة ، والخلق كلهم عبدي الله - تعالى - فيبطل أن يكون شئ من العالم شركا لله - تعالى - فى شئ من أفعاله .

ثم قال - رحمه الله - : وهذه المسألة أفضل للطالب ، من حفظ ديوان كامل فى الفقه ، لأن جميع العبادات البدنية ، لا تصح إلا بتصحيح هذه المسألة فى القلب فافهم ذلك .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ضَرَبَ لَكُم مَّثَلٗا مِّنۡ أَنفُسِكُمۡۖ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ فَأَنتُمۡ فِيهِ سَوَآءٞ تَخَافُونَهُمۡ كَخِيفَتِكُمۡ أَنفُسَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (28)

وعندما تنتهي تلك الجولة التي طوف فيها القلب البشري بتلك الآفاق والآماد ، والأعماق والأغوار ، والظواهر والأحوال ، يواجهه سياق السورة بإيقاع جديد :

ضرب لكم مثلا من أنفسكم : هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم . فأنتم فيه سواء ، تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ? كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون . .

ضرب هذا المثل لمن كانوا يتخذون من دون الله شركاء خلقا من خلقه : جنا أو ملائكة أو أصناما وأشجارا . وهم لا يرتضون أن يشاركهم مواليهم في شيء مما تحت أيديهم من مال . ولا يسوون عبيدهم بأنفسهم في شيء من الاعتبار . فيبدو أمرهم عجبا . يجعلون لله شركاء من عبيده وهو الخالق الرازق وحده . و يأنفون أن يجعلوا لأنفسهم من عبيدهم شركاء في مالهم . ومالهم ليس من خلقهم إنما هو من رزق الله . وهو تناقض عجيب في التصور والتقدير .

وهو يفصل لهم هذا المثل خطوة خطوة : ( ضرب لكم مثلا من أنفسكم )ليس بعيدا عنكم ولا يحتاج إلى رحلة أو نقلة لملاحظته وتدبره . . ( هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء ? ) . . وهم لا يرضون أن يشاركهم ما ملكت أيمانهم في شيء من الرزق فضلا على أن يساووهم فيه ( تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ) . . أي تحسبون حسابهم معكم كما تحسبون حساب الشركاء الأحرار ، وتخشون أن يجوروا عليكم ، وتتحرجوا كذلك من الجور عليهم ، لأنهم أكفاء لكم وأنداد ? هل يقع شيء من هذا في محيطكم القريب وشأنكم الخاص ? وإذا لم يكن شيء من هذا يقع فكيف ترضونه في حق الله وله المثل الأعلى ?

وهو مثل واضح بسيط حاسم لا مجال للجدل فيه ، وهو يرتكن إلى المنطق البسيط وإلى العقل المستقيم : ( كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ضَرَبَ لَكُم مَّثَلٗا مِّنۡ أَنفُسِكُمۡۖ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ فَأَنتُمۡ فِيهِ سَوَآءٞ تَخَافُونَهُمۡ كَخِيفَتِكُمۡ أَنفُسَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (28)

هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين به ، العابدين معه غيره ، الجاعلين له شركاء وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له ، ملك له ، كما كانوا في تلبيتهم يقولون : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك . فقال تعالى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ } أي : تشهدونه وتفهمونه من أنفسكم ، { هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ } أي : لا يرتضي أحد منكم أن يكون عبده شريكًا له في ماله ، فهو وهو فيه على السواء { تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } أي : تخافون أن يقاسموكم الأموال .

قال أبو مِجْلَز : إن مملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك ، وليس له ذاك{[22812]} ، كذلك الله لا شريك له . والمعنى : أن أحدكم يأنف من ذلك ، فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه . وهذا كقوله تعالى : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } [ النحل : 62 ] أي : من البنات ، حيث جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ، وجعلوها بنات الله ، وقد كان أحدهم إذا بُشر بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ، فهم يأنفون من البنات . وجعلوا الملائكة بنات الله ، فنسبوا إليه ما لا يرتضونه لأنفسهم ، فهذا أغلظ الكفر . وهكذا في هذا المقام جعلوا له شركاء من عبيده وخلقه ، وأحدهم يأبى غاية الإباء ويأنف غاية الأنفة من ذلك ، أن يكون عبدهُ شريكَه في ماله ، يساويه فيه . ولو شاء لقاسمه عليه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .

قال الطبراني : حدثنا محمود بن الفرج الأصبهاني ، حدثنا إسماعيل بن عمرو البجلي ، حدثنا حماد بن شعيب ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير{[22813]} ، عن ابن عباس قال : كان يلبي أهل الشرك : لبيك اللهم [ لبيك ]{[22814]} ، لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك . فأنزل الله : { هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ }{[22815]} .

ولما كان التنبيه بهذا المثل على براءته تعالى ونزاهته بطريق الأولى والأحرى ، قال : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } .


[22812]:- في ت: "ذلك".
[22813]:- في ت: "روى الطبراني بإسناده".
[22814]:- زيادة من ت.
[22815]:- المعجم الكبير (12/20)، وقال الهيثمي في المجمع (3/223): "وفيه حماد بن شعيب وهو ضعيف"
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ضَرَبَ لَكُم مَّثَلٗا مِّنۡ أَنفُسِكُمۡۖ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ فَأَنتُمۡ فِيهِ سَوَآءٞ تَخَافُونَهُمۡ كَخِيفَتِكُمۡ أَنفُسَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (28)

ثم بين تعالى أمر الأصنام وفساد معتقد من يشركها بالله بضربه هذا المثل ، ومعناه أنكم أيها الناس إذا كان لكم عبيد تملكونهم فإنكم لا تشركونهم في أموالكم ومهمّ أموركم ، ولا في شيء على جهة استواء المنزلة ، وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم أو يقاسموكم إياها في حياتكم كما يفعل بعضكم ببعض فإذا كان هذا فيكم فكيف تقولون إن من عبيده وملكه شركاء في سلطانه وألوهيته ، وتثبتون في جانبه ما لا يليق بكم عندكم بجوانبكم ، هذا تفسير ابن عباس والجماعة .

وجاء هذا المعنى في معرض السؤال والتقرير ، وقرأ الناس «كخيفتكم أنفسَكم » بنصب السين ، وقرأ ابن أبي عبلة «أنفسُكم » بضمها ، وقرأ الجمهور «نفصل » بالنون حملاً على { رزقناكم } ، وقرأ عباس عن أبي عمرو «يفصل » بالياء حملاً على { ضرب لكم مثلاً } .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ضَرَبَ لَكُم مَّثَلٗا مِّنۡ أَنفُسِكُمۡۖ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ فَأَنتُمۡ فِيهِ سَوَآءٞ تَخَافُونَهُمۡ كَخِيفَتِكُمۡ أَنفُسَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (28)

أُتبع ضرب المثل لإمكان إعادة الخلق عَقِبَ دليل بدئه بضربِ مثل لإبطال الشرك عقب دليليه المتقدمين في قوله تعالى { يُخرج الحي من الميت } [ الروم : 19 ] وقوله { ويحيي الأرض بعد موتها } [ الروم : 19 ] لينتظم الدليل على هذين الأصلين المهمين : أصل الوحدانية ، وأصل البعث ، وينكشف بالتمثيل والتقريب بعد نهوضه بدليل العقل . والخطاب للمشركين .

وضرب المثل : إيقاعه ووضعه ، وعليه فانتصاب { مثلاً } على المفعول به ، أو يراد بضربه جعله ضرباً ، أي مِثْلاً ونظيراً ، وعليه فانتصاب { مثلاً } على المفعولية المطلقة لأن { مَثَلاً } حينئذ يرادف ضرباً مصدر ضربَ بهذا المعنى . وقد تقدم عند قوله تعالى { إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما } في سورة البقرة ( 26 ) . واللام في لكم } لام التعليل ، أي ضرب مثلاً لأجلكم ، أي لأجل إفهامكم .

و { مِن } في قوله { مِن أنفسكم } ابتدائية متعلقة ب { ضرَب } أي جعل لكم مثلاً منتزعاً من أنفسكم . والأنفس هنا جنس الناس كقوله { فسلِّموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] أي مثَلاً من أحوال جماعتكم إذ لا تخلو الجماعة عن ناس لهم عبيد وهم يعرفون أحوال العبيد مع سادتهم سواء منهم من يملك عبيداً ومن لا عبيد له . فالخطاب لجميع الأمة باعتبار وجود فريق فيهم ينطبق عليهم هذا المثَل . والاستفهام مستعمل في الإنكار ومناط الإنكار قوله { فيما رزقناكم } إلى آخره ، أي من شركاء لهم هذا الشأن .

و { مِن } في قوله { من ما ملكت أيمانكم } تبعيضية ، و { مِن } في قوله { مِن شركاء } زائدة مؤكدة لمعنى النفي المستفاد من الاستفهام الإنكاري . فالجمع بين هذه الحروف في كلام واحد من قبيل الجناس التام .

والشركاء : جمع شريك ، وهو المشارك في المال لقوله { فيما رزقناكم ، } والفاء للتفريع على الشركة ، أي فتكونوا متساوين فيما أنتم فيه شركاء .

وجملة { تخافونهم } في موضع الحال من ضمير الفاعل في { سواء . } والخوف : انفعال نفساني ينشأ من توقع إصابة مكروه يبقى ، وهو هنا التوقي من التفريط في حظوظهم من الأرزاق وليس هو الرعب بقرينة قوله { كخيفتكم أنفسكم ، } أي كما تتوقون أنفسكم من إضاعة حقوقكم عندهم .

والأنفس الثاني بمعنى : أنفس الذين لهم شركاء مما ملكت أيمانهم من المخاطبين لأنهم بعض المخاطبين .

وهذا المثل تشبيه هيئة مركبة بهيئة مركبة ؛ شبهت الهيئة المنتزعة من زعم المشركين أن الأصنام شركاء لله في التصرف ودافعون عن أوليائهم ما يريده الله من تسلط عقاب أو نحوه إذ زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله وهم مع ذلك يعترفون بأنها مخلوقة لله فإنهم يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك . هذه الهيئة شبهت بهيئة ناس لهم عبيد صاروا شركاء في أرزاق سادتهم شركة على السواء فصار سادتهم يحذرون إذا أرادوا أن يتصرفوا في تلك الأرزاق أن يكون تصرفهم غير مرضي لعبيدهم ، وهذا التشبيه وإن كان منصرفاً لمجموع المركب من الهيئتين قد بلغ غاية كمال نظائره إذ هو قابل للتفريق في أجزاء ذلك المركب بتشبيه مالك الخلق كلهم بالذين يملكون عبيداً ، وتشبيه الأصنام التي هي مخلوقة لله تعالى بمماليك الناس ، وتشبيه تشريك الأصنام في التصرف مع الخالق في ملكه بتشريك العبيد في التصرف في أرزاق سادتهم ، وتشبيه زعمهم عدول الله عن بعض ما يريده في الخلق لأجل تلك الأصنام ، وشفاعتها بحذر أصحاب الأرزاق من التصرف في حظوظ عبيدهم الشركاء تصرفاً يأبَوْنه .

فهذه الهيئة المشبه بها هيئة قبيحة مشوهة في العادة لا وجود لأمثالها في عرفهم فكانت الهيئة المشبهةُ منفيةً منكَرة ، ولذلك أدخل عليها استفهام الإنكار والجحود ليُنتج أن الصورة المزعومة للأصنام صورة باطلة بطريق التصوير والتشكيل إبرازاً لذلك المعنى الاعتقادي الباطل في الصورة المحسوسة المشوهة الباطلة . ولذلك عقب بجملة { كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون } ، أي نفصل الدلائل على الاعتقاد الصحيح تفصيلاً كهذا التفصيل وضوحاً بيناً ، وجملة { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } [ الروم : 24 ] استئناف ابتدائي . والقوم الذين يعقلون هم المتنزهون عن المكابرة والإعراض ، والطالبون للحق والحقائق لوفرة عقولهم ، فيزدادَ المؤمنون يقيناً ويؤمنَ الغافلون والذين تروج عليهم ضلالات المشركين ثم تنكشف عنهم بمثل هذه الدلائل البينة .

وفي ذكر لفظ { قوم } وإجراء الصفة عليه إيماء إلى أن هذه الآيات لا ينتفع بها إلا من كان العقل من مقومات قوميته كما تقدم في قوله تعالى { لآيات لقوم يعقلون } في سورة البقرة ( 164 ) ، وتقدمت له نظائر كثيرة . والقول في إيثار وصف العقل هنا دون غيره من أوصاف النظر والفكر كالقول فيما تقدم عند قوله { ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً } إلى قوله { يعقلون } [ الروم : 24 ] .

وفي هذا تعريض بالمتصلبين في شركهم بأنهم ليسوا من أهل العقول ، وليسوا ممن ينتفعون كقوله تعالى { وما يَعْقِلها إلا العالمون } [ العنكبوت : 43 ] وقوله { ومثل الذين كفروا كمثل الذي يَنْعِق بما لا يَسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون } [ البقرة : 171 ] .

وقوله { كذلك } تقدم نظيره في قوله تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{ضَرَبَ لَكُم مَّثَلٗا مِّنۡ أَنفُسِكُمۡۖ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ فَأَنتُمۡ فِيهِ سَوَآءٞ تَخَافُونَهُمۡ كَخِيفَتِكُمۡ أَنفُسَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (28)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: مثل لكم أيها القوم ربكم مثلاً من أنفسكم، هل لكم مما ملكت أيمانكم يقول: من مماليككم من شركاء، فيما رزقناكم من مال، فأنتم فيه سواء وهم. يقول: فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم فكيف رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها لي شركاء في عبادتكم إياي، وأنتم وهم عبيدي ومماليكي، وأنا مالك جميعكم...

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أنْفُسَكُمْ"؛

فقال بعضهم: معنى ذلك: تخافون هؤلاء الشركاء مما ملكت أيمانكم أن يرثوكم أموالكم من بعد وفاتكم، كما يرث بعضكم بعضا...

وقال آخرون: بل معنى ذلك: تخافون هؤلاء الشركاء مما ملكت أيمانكم أن يقاسموكم أموالكم، كما تقاسم بعضكم بعضا...

وأولى القولين بالصواب في تأويل ذلك القول الثاني، لأنه أشبههما بما دلّ عليه ظاهر الكلام، وذلك أن الله جلّ ثناؤه وبخ هؤلاء المشركين الذين يجعلون له من خلقه آلهة يعبدونها، وأشركوهم في عبادتهم إياه، وهم مع ذلك يقرّون بأنها خلقه وهم عبيده، وعيرهم بفعلهم ذلك، فقال لهم: هل لكم من عبيدكم شركاء فيما خوّلناكم من نعمنا، فهم سواء، وأنتم في ذلك تخافون أن يقاسموكم ذلك المال الذي هو بينكم وبينهم، كخيفة بعضكم بعضا أن يقاسمه ما بينه وبينه من المال شركة، فالخيفة التي ذكرها تعالى ذكره بأن تكون خيفة مما يخاف الشريك من مقاسمة شريكه المال الذي بينهما إياه أشبه من أن تكون خيفة منه بأن يرثه، لأن ذكر الشركة لا يدلّ على خيفة الوراثة، وقد يدلّ على خيفة الفراق والمقاسمة.

وقوله: "كذلكَ نُفَصّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ "يقول تعالى ذكره: كما بيّنا لكم أيها القوم حججنا في هذه الآيات من هذه السورة على قدرتنا على ما نشاء من إنشاء ما نشاء، وإفناء ما نحبّ، وإعادة ما نريد إعادته بعد فنائه، ودللنا على أنه لا تصلح العبادة إلاّ للواحد القهار، الذي بيده ملكوت كلّ شيء، كذلك نبين حججنا في كل حقّ لقوم يعقلون، فيتدبرونها إذا سمعوها، ويعتبرون فيتعظون بها.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

قال بعضهم: ضرب لكم مثلا من مثل خلقكم: يبين لكم مثلا من أنفسكم ما لو تفكرتم، وتأملتم، لظهر لكم سفهكم بعبادتكم الأصنام دون الله أو تسويتكم الأصنام بالله.

ثم يخرج ضرب المثل بما ذكر على وجوه: أحدها: قوله: {هل لكم من ما ملكت أيمانكم شركاء في ما رزقكم فأنتم فيه سواء} أي لم تسووا أنتم أنفسكم بالذي ملكت أيمانكم في ما رزقتم حتى تكونوا أنتم وهم سواء في ذلك، فكيف زعمتم أن الله قد سوى نفسه وما ملك من خلقه في ملكه وألوهيته؟

{تخافونهم كخيفتكم أنفسكم} أي تخافون مماليككم كما تخافون أحرارا أمثالكم. وقال بعضهم: تخافون لائمتهم كما يخاف الرجل لائمة أبيه وأخيه وأقاربه. وبعضهم يقولون: تخافون عبيدكم أن يرثوكم بعد الموت كما تخافون أن يرثكم أحرار من أوليائكم. وهو قول مقاتل. لكن الميراث ليس من الآية في شيء، والأول أشبه.

{كذلك نفصل الآيات} فيه وجهان: أحدهما: نبينها {لقوم يعقلون} أي لقوم ينتفعون بعقولهم. والثاني: قوله: {نفصل الآيات} أي نفرق واحدة بعد واحدة على ما ذكر من أول السورة إلى هذا الموضع من قوله: {ومن آياته} كذا {ومن آياته} كذا [الروم: 20-25]، والتفصيل يخرج على وجهين: أحدهما: التبيين. والثاني: التفريق في الذكر: {فصلت آياته} [فصلت: 3] بينت، وفصلت؛ فرقت واحدة بعد واحدة. فإن قال لنا قائل: في هذه الآيات التي ذكرت ما يدل على إيجاب البعث، قيل: في هذه التي ذكرت دفع الشبهة التي لها أنكروا البعث لنهم رأوا البعث ممتنعا بالشبهة التي اعترضت لهم. ففي هذه الآيات دفع تلك الشبهة التي رأوا البعث ممتنعا حين أراهم بدء خلقهم وقيام السماء و الأرض بالذي ذكر. ثم إيجاب البعث يكون بالأخبار الصادقة، وهي أخبار الرسل الذين ظهر صدقهم، أو بما ذكرنا أن خلق الخلق بلا عاقبة، تجعل لهم، للفناء خاصة خارج عن الحكمة.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فإن قلت: أي فرق بين الأولى والثانية والثالثة في قوله تعالى: {مِّنْ أَنفُسِكُمْ}، {مِّن مَّا مَلَكَتْ أيمانكم}، {مِّن شُرَكَاءَ}؟ قلت: الأولى للابتداء، كأنه قال: أخذ مثلاً وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم ولم يبعد، والثانية للتبعيض، والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. ومعناه: هل ترضون لأنفسكم -وعبيدكم أمثالكم بشر كبشر وعبيد كعبيد- أن يشارككم بعضهم {فِي مَا رزقناكم} من الأموال وغيرها ما تكونون أنتم وهم فيه على السواء، من غير تفضلة بين حرّ وعبد، تهابون أن تستبدوا بتصرف دونهم، وأن تفتاتوا بتدبير عليهم كما يهاب بعضكم بعضاً من الأحرار، فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم، فكيف ترضون لرب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء؟

{كذلك} أي مثل هذا التفصيل {نُفَصِّلُ الآيات} أي نبينها: لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها؛ لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها. ألا ترى كيف صوّر الشرك بالصورة المشوّهة؟...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

لما بين الإعادة والقدرة عليها بالمثل بعد الدليلين، بين الوحدانية أيضا بالمثل بعد الدليل...

يعقلون: أي لا يخفى الأمر بعد ذلك إلا على من لا يكون له عقل...

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

... قال بعض العلماء: هذه الآية أصل في الشركة بين المخلوقين لافتقار بعضهم إلى بعض ونفيها عن الله سبحانه، وذلك أنه لما قال جل وعز:"ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم" الآية، فيجب أن يقولوا: ليس عبيدنا شركاءنا فيما رزقتنا، فيقال لهم: فكيف يتصور أن تنزهوا نفوسكم عن مشاركة عبيدكم وتجعلوا عبيدي شركائي في خلقي، فهذا حكم فاسد وقلة نظر وعمى قلب، فإذا بطلت الشركة بين العبيد وسادتهم فيما يملكه السادة والخلق كلهم عبيد لله تعالى فيبطل أن يكون شيء من العالم شريكا لله تعالى في شيء من أفعاله، فلم يبق إلا أنه واحد يستحيل أن يكون له شريك، إذ الشركة تقتضي المعاونة، ونحن مفتقرون إلى معاونة بعضنا بعضا بالمال والعمل؛ والقديم الأزلي منزه عن ذلك جل وعز.

وهذه المسألة أفضل للطالب من حفظ ديوان كامل في الفقه؛ لأن جميع العبادات البدنية لا تصح إلا بتصحيح هذه المسألة في القلب، فافهم ذلك.

التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :

هذا دليل قياس. احتج الله سبحانه به على المشركين، حيث جعلوا له من عبيده، وملكه شركاء فأقام عليهم حجة يعرفون صحتها من نفوسهم، لا يحتاجون فيها إلى غيرهم...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وعندما تنتهي تلك الجولة التي طوف فيها القلب البشري بتلك الآفاق والآماد، والأعماق والأغوار، والظواهر والأحوال، يواجهه سياق السورة بإيقاع جديد:

ضرب لكم مثلا من أنفسكم: هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم. فأنتم فيه سواء، تخافونهم كخيفتكم أنفسكم؟ كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون..

ضرب هذا المثل لمن كانوا يتخذون من دون الله شركاء خلقا من خلقه: جنا أو ملائكة أو أصناما وأشجارا. وهم لا يرتضون أن يشاركهم مواليهم في شيء مما تحت أيديهم من مال. ولا يسوون عبيدهم بأنفسهم في شيء من الاعتبار. فيبدو أمرهم عجبا. يجعلون لله شركاء من عبيده وهو الخالق الرازق وحده. و يأنفون أن يجعلوا لأنفسهم من عبيدهم شركاء في مالهم. ومالهم ليس من خلقهم إنما هو من رزق الله. وهو تناقض عجيب في التصور والتقدير.

وهو يفصل لهم هذا المثل خطوة خطوة: (ضرب لكم مثلا من أنفسكم) ليس بعيدا عنكم ولا يحتاج إلى رحلة أو نقلة لملاحظته وتدبره.. (هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء؟).. وهم لا يرضون أن يشاركهم ما ملكت أيمانهم في شيء من الرزق فضلا على أن يساووهم فيه (تخافونهم كخيفتكم أنفسكم).. أي تحسبون حسابهم معكم كما تحسبون حساب الشركاء الأحرار، وتخشون أن يجوروا عليكم، وتتحرجوا كذلك من الجور عليهم، لأنهم أكفاء لكم وأنداد؟ هل يقع شيء من هذا في محيطكم القريب وشأنكم الخاص؟ وإذا لم يكن شيء من هذا يقع فكيف ترضونه في حق الله وله المثل الأعلى؟

وهو مثل واضح بسيط حاسم لا مجال للجدل فيه، وهو يرتكن إلى المنطق البسيط وإلى العقل المستقيم: (كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون)..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

أُتبع ضرب المثل لإمكان إعادة الخلق عَقِبَ دليل بدئه بضربِ مثل لإبطال الشرك عقب دليليه المتقدمين في قوله تعالى {يُخرج الحي من الميت} [الروم: 19] وقوله {ويحيي الأرض بعد موتها} [الروم: 19] لينتظم الدليل على هذين الأصلين المهمين: أصل الوحدانية، وأصل البعث، وينكشف بالتمثيل والتقريب بعد نهوضه بدليل العقل. والخطاب للمشركين.

وضرب المثل: إيقاعه ووضعه، وعليه فانتصاب {مثلاً} على المفعول به، أو يراد بضربه جعله ضرباً، أي مِثْلاً ونظيراً، وعليه فانتصاب {مثلاً} على المفعولية المطلقة لأن {مَثَلاً} حينئذ يرادف ضرباً مصدر ضربَ بهذا المعنى. وقد تقدم عند قوله تعالى {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما} في سورة البقرة (26). واللام في لكم} لام التعليل، أي ضرب مثلاً لأجلكم، أي لأجل إفهامكم.

و {مِن} في قوله {مِن أنفسكم} ابتدائية متعلقة ب {ضرَب} أي جعل لكم مثلاً منتزعاً من أنفسكم. والأنفس هنا جنس الناس كقوله {فسلِّموا على أنفسكم} [النور: 61] أي مثَلاً من أحوال جماعتكم إذ لا تخلو الجماعة عن ناس لهم عبيد وهم يعرفون أحوال العبيد مع سادتهم سواء منهم من يملك عبيداً ومن لا عبيد له. فالخطاب لجميع الأمة باعتبار وجود فريق فيهم ينطبق عليهم هذا المثَل. والاستفهام مستعمل في الإنكار ومناط الإنكار قوله {فيما رزقناكم} إلى آخره، أي من شركاء لهم هذا الشأن.

و {مِن} في قوله {من ما ملكت أيمانكم} تبعيضية، و {مِن} في قوله {مِن شركاء} زائدة مؤكدة لمعنى النفي المستفاد من الاستفهام الإنكاري. فالجمع بين هذه الحروف في كلام واحد من قبيل الجناس التام.

والشركاء: جمع شريك، وهو المشارك في المال لقوله {فيما رزقناكم،} والفاء للتفريع على الشركة، أي فتكونوا متساوين فيما أنتم فيه شركاء.

وجملة {تخافونهم} في موضع الحال من ضمير الفاعل في {سواء.} والخوف: انفعال نفساني ينشأ من توقع إصابة مكروه يبقى، وهو هنا التوقي من التفريط في حظوظهم من الأرزاق وليس هو الرعب بقرينة قوله {كخيفتكم أنفسكم،} أي كما تتوقون أنفسكم من إضاعة حقوقكم عندهم.

والأنفس الثاني بمعنى: أنفس الذين لهم شركاء مما ملكت أيمانهم من المخاطبين لأنهم بعض المخاطبين.

وهذا المثل تشبيه هيئة مركبة بهيئة مركبة؛ شبهت الهيئة المنتزعة من زعم المشركين أن الأصنام شركاء لله في التصرف ودافعون عن أوليائهم ما يريده الله من تسلط عقاب أو نحوه إذ زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله وهم مع ذلك يعترفون بأنها مخلوقة لله فإنهم يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك. هذه الهيئة شبهت بهيئة ناس لهم عبيد صاروا شركاء في أرزاق سادتهم شركة على السواء فصار سادتهم يحذرون إذا أرادوا أن يتصرفوا في تلك الأرزاق أن يكون تصرفهم غير مرضي لعبيدهم، وهذا التشبيه وإن كان منصرفاً لمجموع المركب من الهيئتين قد بلغ غاية كمال نظائره إذ هو قابل للتفريق في أجزاء ذلك المركب بتشبيه مالك الخلق كلهم بالذين يملكون عبيداً، وتشبيه الأصنام التي هي مخلوقة لله تعالى بمماليك الناس، وتشبيه تشريك الأصنام في التصرف مع الخالق في ملكه بتشريك العبيد في التصرف في أرزاق سادتهم، وتشبيه زعمهم عدول الله عن بعض ما يريده في الخلق لأجل تلك الأصنام، وشفاعتها بحذر أصحاب الأرزاق من التصرف في حظوظ عبيدهم الشركاء تصرفاً يأبَوْنه.

فهذه الهيئة المشبه بها هيئة قبيحة مشوهة في العادة لا وجود لأمثالها في عرفهم فكانت الهيئة المشبهةُ منفيةً منكَرة، ولذلك أدخل عليها استفهام الإنكار والجحود ليُنتج أن الصورة المزعومة للأصنام صورة باطلة بطريق التصوير والتشكيل إبرازاً لذلك المعنى الاعتقادي الباطل في الصورة المحسوسة المشوهة الباطلة. ولذلك عقب بجملة {كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون}، أي نفصل الدلائل على الاعتقاد الصحيح تفصيلاً كهذا التفصيل وضوحاً بيناً، وجملة {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} [الروم: 24] استئناف ابتدائي. والقوم الذين يعقلون هم المتنزهون عن المكابرة والإعراض، والطالبون للحق والحقائق لوفرة عقولهم، فيزدادَ المؤمنون يقيناً ويؤمنَ الغافلون والذين تروج عليهم ضلالات المشركين ثم تنكشف عنهم بمثل هذه الدلائل البينة.

وفي ذكر لفظ {قوم} وإجراء الصفة عليه إيماء إلى أن هذه الآيات لا ينتفع بها إلا من كان العقل من مقومات قوميته كما تقدم في قوله تعالى {لآيات لقوم يعقلون} في سورة البقرة (164)، وتقدمت له نظائر كثيرة. والقول في إيثار وصف العقل هنا دون غيره من أوصاف النظر والفكر كالقول فيما تقدم عند قوله {ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً} إلى قوله {يعقلون} [الروم: 24].

وفي هذا تعريض بالمتصلبين في شركهم بأنهم ليسوا من أهل العقول، وليسوا ممن ينتفعون كقوله تعالى {وما يَعْقِلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43] وقوله {ومثل الذين كفروا كمثل الذي يَنْعِق بما لا يَسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون} [البقرة: 171].

وقوله {كذلك} تقدم نظيره في قوله تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} [البقرة: 143].

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

{كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون} جعل ملكة العقل هي مفتاح الإقناع والاقتناع، متى استعملها الإنسان استعمالا موضوعيا ومنهجيا سليما، وكان باحثا عن الحق الصراح والحقيقة المجردة دون هوى سابق، ولا تعصب لاحق...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

والتعبير ب (ما رزقناكم) يشير إلى هذه اللطيفة، وهي أنّكم لستم المالكين الحقيقيين لهؤلاء العبيد والمماليك، ولا المالكين الواقعيين للمال، لأنّ كل ذلك لله وحده، ولكنّكم غير مستعدين لأن تخوّلوا ممّاليككم المجازيين بالتصرف في أموالكم المجازية وتعدّوهم شركاءكم.