{ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } أى : اذكر - أيها العاقل - لتتعظ وتعتبر - يوم نقول لجهنم هل امتلأت من كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب ، واكتفيت من كل من جعل معى إلها آخر . .
فترد جهنم وتقول : يا إلهى { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } أى : يا إلهى هل بقى شئ منى لم يملتئ من هؤلاء الكافرين ؟ أنت تعلم يا خالقى أنى قد امتلأت ، ولم يبق منى موضع لقدم .
قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : يخبر الله - تعالى - أنه يقول لجهنم يوم القيامة : هل امتلأت ؟ وذلك أنه وعدها أنه سيملؤها من الجِنَّة والناس أجمعين ، فهو - سبحانه - يأمر بمن يأمر به إليهان ويلقى فيها وهى تقول : { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } أى : هل بقى شئ تزيدونى ؟ .
هذا هو الظاهر من سياق الآية ، وعليه تدل الأحاديث ، فقد أخرج البخارى عن أنس بن مالك . عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : " يُلْقَى فى النار - الكفرة - وتقول : هل من مزيد ، حتى يضع - سبحانه - فيها قدمه فتقول : قَطْ قَطْ - أى : حسبى حسبى " .
وعن ابن عباس قوله : { وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } أى : وهل فِيَّ من مكان يزاد فِيَّ .
وعن عكرمة قوله : وتقول : { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } وهل فىَّ مدخل واحد ؟ قد امتلأت .
وقال الشوكانى : وهذا الكلام على طريق التخييل والتمثيل ولا سؤال ولا جواب . كذا قيل : والأَوْلَى أنه على طريقة التحقيق ، ولا يمنع من ذلك عقل ولا شرع .
قال الواحدى : أرادها الله تصديق قوله : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } . فلما امتلأت قال لها : { هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } أى : قد امتلأت ولم يبق فى موضع لم يمتلئ . وقيل : إن هذا الاستفهام بمعنى الاستزادة . أى : إنها تطلب الزيادة على منقد صار فيها .
. والمزيد إما مصدر كالمحيد . أو اسم مفعول كالمنيع ، فالأولى بمعنى : له من زيادة . والثانى بمعنى هل من شئ تزيدونيه .
بهذا ينتهي مشهد الحساب الرهيب بهوله وشدته ؛ ولكن المشهد كله لا ينتهي ، بل يكشف السياق عن جانب منه مخيف :
( يوم نقول لجهنم : هل امتلأت : وتقول : هل من مزيد ? ) .
إن المشهد كله مشهد حوار . فتعرض جهنم فيه في معرض الحوار وبهذا السؤال والجواب يتجلى مشهد عجيب رهيب . . هذا هو كل كفار عنيد . مناع للخير معتد مريب . . هؤلاء هم كثرة تقذف في جهنم تباعا ، وتتكدس ركاما . ثم تنادى جهنم : ( هل امتلأت ? )واكتفيت ! ولكنها تتلمظ وتتحرق ، وتقول في كظة الأكول النهم : ( هل من مزيد ? ! ) . . فيا للهول الرعيب !
يخبر تعالى أنه يقول لجهنم يوم القيامة : هل امتلأت ؟ وذلك أنه وعدها أن سيملؤها من الجنة والناس أجمعين ، فهو سبحانه يأمر بمن {[27319]} يأمر به إليها ، ويلقى وهي تقول : { هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } أي : هل بقي شيء تزيدوني ؟ هذا هو الظاهر من سياق الآية ، وعليه تدل الأحاديث :
قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا عبد الله بن أبي الأسود ، حدثنا حَرَمي بن عُمَارة حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يُلقَى في النار ، وتقول : هل من مزيد ، حتى يضع قدمه فيها ، فتقول قط قط " {[27320]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول : هل من مزيد ؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه ، فينزوي بعضها إلى بعض ، وتقول : قط قط ، وعزتك وكَرَمِك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا آخر فيسكنهم في فضول {[27321]} الجنة " {[27322]} .
ثم رواه مسلم من حديث قتادة ، بنحوه{[27323]} . ورواه أبان العطار وسليمان التيمي ، عن قتادة ، بنحوه {[27324]} .
حديث آخر : قال {[27325]} البخاري : حدثنا محمد بن موسى القطان ، حدثنا أبو سفيان الحميري سعيد بن يحيى بن مهدي ، حدثنا عَوْف ، عن محمد عن أبي هريرة - رفعه ، وأكثر ما كان يوقفه أبو سفيان - : " يقال لجهنم : هل امتلأت ، وتقول : هل من مزيد ، فيضع الرب ، عز وجل ، قدمه عليها {[27326]} ، فتقول : قط قط " {[27327]} .
رواه أيوب وهشام بن حسان عن محمد بن سيرين ، به {[27328]} .
طريق أخرى : قال{[27329]} البخاري : وحدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن همام {[27330]} عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تحاجت الجنة والنار ، فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين . وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم . قال الله ، عز وجل ، للجنة : أنت رحمتي ، أرحم بك من أشاء من عبادي . وقال للنار : إنما أنت عذابي ، أعذب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منكما ملؤها ، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله ، فتقول : قط قط ، فهنالك تمتلئ ويزوي{[27331]} بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحدا ، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا آخر " {[27332]} .
حديث آخر : قال {[27333]} مسلم في صحيحه : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " احتجت الجنة والنار ، فقالت النار : فيَّ الجبارون والمتكبرون . وقالت الجنة : فيَّ ضعفاء الناس ومساكينهم . فقضى بينهما ، فقال للجنة : إنما أنت رحمتي ، أرحم بك من أشاء من عبادي . وقال للنار : إنما أنت عذابي ، أعذب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منكما ملؤها " انفرد به مسلم دون البخاري {[27334]} من هذا الوجه . والله ، سبحانه وتعالى ، أعلم .
وقد رواه الإمام أحمد من طريق أخرى ، عن أبي سعيد بأبسط من هذا السياق فقال :
حدثنا حسن وروح قالا حدثنا حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن أبي سعيد الخدري ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " افتخرت الجنة والنار ، فقالت النار : يا رب ، يدخلني الجبابرة والمتكبرون والملوك والأشراف . وقالت الجنة : أي رب ، يدخلني الضعفاء والفقراء والمساكين . فيقول الله ، عز وجل ، للنار : أنت عذابي ، أصيب بك من أشاء . وقال للجنة : أنت رحمتي ، وسعت كل شيء ، ولكل واحدة منكما ملؤها ، فيلقى في النار أهلها فتقول : هل من مزيد ؟ قال : ويلقى فيها وتقول : هل من مزيد ؟ ويلقى فيها وتقول : هل من مزيد ؟ حتى يأتيها{[27335]} عز وجل ، فيضع قدمه عليها ، فتزوي وتقول : قدني ، قدني . وأما الجنة فيبقى فيها ما شاء الله أن يبقى ، فينشئ الله لها خلقا ما يشاء " {[27336]} .
حديث آخر : وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا عقبة بن مُكْرَم ، حدثنا يونس ، حدثنا عبد الغفار بن القاسم ، عن عُدي بن ثابت ، عن زِرِّ بن حُبَيْش ، عن أبي بن كعب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يعرفني الله ، عز وجل ، نفسه يوم القيامة ، فأسجد سجدة يرضى بها عني ، ثم أمدحه مدحة يرضى بها عني ، ثم يؤذن لي في الكلام ، ثم تمر أمتي على الصراط - مضروب بين ظهراني جهنم - فيمرون أسرع من الطرف والسهم ، وأسرع من أجود الخيل ، حتى يخرج الرجل منها يحبو ، وهي الأعمال . وجهنم تسأل المزيد ، حتى يضع فيها قدمه ، فينزوي بعضها إلى بعض وتقول : قط قط ! وأنا على الحوض " . قيل : وما الحوض يا رسول الله ؟ قال : " والذي نفسي بيده ، إن شرابه أبيض من اللبن ، وأحلى من العسل ، وأبرد من الثلج ، وأطيب ريحا من المسك . وآنيته أكثر من عدد النجوم ، لا يشرب منه إنسان فيظمأ أبدا ، ولا يصرف فيروى أبدا " {[27337]} . وهذا القول هو اختيار ابن جرير .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو يحيى الحمَّاني{[27338]} عن نضر الخزاز ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } قال : ما امتلأت ، قال : تقول : وهل في من مكان يزاد في .
وكذا روى الحكم بن أبان عن عكرمة : { وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } : وهل في مدخل واحد ، قد امتلأت .
[ و ] {[27339]} قال الوليد بن مسلم ، عن يزيد بن أبي مريم أنه سمع مجاهدًا يقول : لا يزال يقذف فيها حتى تقول : قد امتلأت فتقول : هل [ فيَّ ] {[27340]} من مزيد ؟ وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو هذا .
فعند هؤلاء أن قوله تعالى : { هَلِ امْتَلأتِ } ، إنما هو بعد ما يضع عليها قدمه ، فتنزوي وتقول حينئذ : هل بقي في [ من ] {[27341]} مزيد ؟ يسع شيئا .
قال العوفي ، عن ابن عباس : وذلك حين لا يبقى فيها موضع [ يسع ]{[27342]} إبرة . فالله{[27343]} أعلم .
وقوله تعالى : { يوم يقول } يجوز أن يعمل في الظرف قوله : { بظلام } ويجوز أن يعمل فيه فعل مضمر .
وقرأ جمهور من القراء وحفص عن عاصم : «نقول » بالنون ، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر والأعمش ورجحها أبو علي بما تقدم من قوله : «قدمت وما أنا » وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر : «يقول » على معنى يقول الله ، وهي قراءة الأعرج وشيبة وأهل المدينة ، وقرأ ابن مسعود والحسن والأعمش أيضاً : «يقال » على بناء الفعل للمفعول .
وقوله : { هل امتلأت } تقرير وتوقيف ، واختلف الناس هل وقع هذا التقرير ؟ وهي قد امتلأت أو هي لم تمتلئ فقال بكل وجه جماعة من المتأولين وبحسب ذلك تأولوا قولها : { هل من مزيد } . فمن قال إنها كانت ملأى جعل قولها : { هل من مزيد } على معنى التقرير ونفي المزيد ، أي هل عندي موضع يزاد فيه شيء ونحو هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم : «وهل ترك لنا عقيل منزلاً »{[10543]} وهو تأويل الحسن وعمرو وواصل ، ومن قال : إنها كانت غير ملأى جعل قولها { هل من مزيد } على معنى السؤال والرغبة في الزيادة . قال الرماني وقيل المعنى : وتقول خزنتها ، والقول إنها القائلة أظهر .
واختلف الناس أيضاً في قول جهنم هل هو حقيقة أو مجاز ؟ أي حالها حال من لو نطق لقال كذا وكذا فيجري هذا مجرى :
شكا إلي جملي طول السرى{[10544]} ،
تكلمني أحجاره وملاعبه{[10545]} .
والذي يترجح في قول جهنم : { هل من مزيد } أنها حقيقة وأنها قالت ذلك وهي غير ملأى وهو قول أنس بن مالك ، وبين ذلك الحديث الصحيح المتواتر قول النبي صلى الله عليه وسلم : «يقول الله لجهنم هل امتلأت ؟ وتقول : { هل من مزيد } حتى يضع الجبار فيها قدمه ، فتقول قط قط ، وينزوي بعضها إلى بعض »{[10546]} واضطرب الناس في معنى هذا الحديث ، وذهبت جماعة من المتكلمين ، إلى أن الجبار اسم جنس ، وأنه يريد المتجبرين من بني آدم ، وروي أن الله تعالى يعد من الجبابرة طائفة يملأ بهم جهنم آخراً . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم :
«إن جلدة الكافر يصير في غلظها أربعون ذراعاً » ويعظم بدنه على هذه النسبة{[10547]} ، وهذا كله من ملء جهنم وذهب الجمهور إلى أن الجبار اسم الله تعالى ، وهذا هو الصحيح ، فإن في الحديث الصحيح : «فيضع رب العالمين فيها قدمه »{[10548]} وتأويل هذا : ان القدم لها من خلقه وجعلهم في علمه ساكنيها ، ومنه قول الله تعالى : { وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم }{[10549]} [ يونس : 2 ] فالقدم هنا ما قدم من شيء ومنه قول الشاعر [ الوضاح الخصي ] : [ المنسرح ]
صل لربك واتخذ قدماً . . . ينجيك يوم العثار والزلل{[10550]}
وسنى الملك لملك ذي قدم . . . {[10551]}
أي ذي شرف متقدم ، وهذا التأويل مروي عن ابن المبارك{[10552]} وعن النضر بن شميل{[10553]} ، وهو قول الأصوليين . وفي كتاب مسلم بن الحجاج : ( فيضع الجبار فيها رجله ){[10554]} ، ومعناه : الجمع الذي أعد لها يقال للجمع الكثير من الناس : رجل تشبيهاً برجل الجراد ، قال الشاعر :
فمر بها رجل من الناس وانزوى . . . إليها من الحي اليماني أرجل{[10555]} .
وملاك النظر في هذا الحديث : أن الجارحة والتشبيه وما جرى مجراه منتف كل ذلك فلم يبق إلا إخراج ألفاظ على هذه الوجوه السابقة في كلام العرب .