التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ} (112)

ثم سلى الله - تعالى - نبيه عن تعنت المشركين وتماديهم فى الباطل ببيان أن كل نبى كان له أعداء يسيئون إليه ويقفون عقبة فى طريق دعوته فقال :

{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن } .

والمعنى : ومثل ما جعلنا لك يا محمد أعداء يخالفونك ويعاندونك جعلنا لكل نبى من قبلك - أيضاً - أعداء ، فلا يحزنك ذلك ، قال - تعالى - { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } وقال - تعالى - { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } والمراد بشياطين الإنس والجن ، المردة من النوعين . والشيطان : كل عات متمرد من الإنس والجن .

وجملة { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً } الخ مستأنفة لتسلية النبى صلى الله عليه وسلم عما يشاهده من عداوة قريش له ، والكاف فى محل نصب على أنها نعت لمصدر مؤكد لما بعده .

و ( جعل ) ينصب مفعولين أولهما { عَدُوّاً } وثانيهما { لِكُلِّ نِبِيٍّ } و { شَيَاطِينَ } بل من المفعول الأول ، وبعضهم أعرب { شَيَاطِينَ } مفعولا أولا و { عَدُوّاً } مفعولا ثانيا ، و { لِكُلِّ نِبِيٍّ } حالا من { عَدُوّاً } .

وقوله : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً } .

الوحى : الإعلام بالأشياء من طريق خفى دقيق سريع . زخرف القول : باطله الذى زين وموه بالكذب . وأصل الزخرف . الزينة المزوقة ، ومنه قيل للذهب : زخرف ، ولكل شىء حسن مموه : زخرف .

والغرور : الخداع والأخذ على غرة وغفلة .

والمعنى : يلقى بعضهم إلى بعض بطرق خفية دقيقة القول المزين المموه الذى حسن ظاهره وقبح باطنه لكى يخدعوا به الضعفاء ويصرفونهم عن الحق إلى الباطل .

والجملة المستأنفة لبيان إحكام عداوتهم ، أو حال من الشياطين وقد ورد أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر أتباعه أن يستعيذوا بالله من شياطين الإنس والجن ، فعن أبى ذر قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مجلس . قد أطال فيه الجلوس فقال : " يا أبا ذر هل صليت ؟ قلت : لا يا رسول الله . قال : قم فاركع ركعتين قال : ثم جئت فجلست إليه فقال : يا أبا ذر ، هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس ؟ قال : قلت لا يا رسول الله ، وهل للإنس من شياطين ؟ قال : نعم ، هم شر من شياطين الجن " .

وقد ساق الإمام ابن كثير عدة روايات عن أبى ذر فى هذا المعنى ، ثم قال فى نهايتها : فهذه طرق لهذا الحديث ومجموعها يفيد قوته وصحته " .

وقوله : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } .

أى : ولو شاء ربك ألا يفعل هؤلاء الشياطين ما فعلوه من معاداة الأنبياء ومن الإيحاء بالقول الباطل لتم له ذلك ، لأنه - سبحانه - هو صاحب المشيئة النافذة ، والإرادة التامة ولكنه - سبحانه - لم يشأ أن يجبرهم على خلاف ما زينته لهم أهواؤهم باختيارهم ، لكى يميز الله الخبيث من الطيب .

فدعهم يا محمد وما يفترون من الكفر وغيره من ألوان الشرور ، فسوف يعلمون سوء عاقبتهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ} (112)

بعد ذلك تجيء آيتان في سياق السورة ؛ هما من ناحية تكملة للمعاني والحقائق التي تستهدفها الفقرة السابقة التي انتهينا من الحديث عنها . ومن ناحية هما تمهيد للقضايا العقيدية المتعلقة بالسلطان والشريعة والحاكمية . وهي القضايا التي تستغرق ما تبقى من السورة . .

الآيتان :

( وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً - ولو شاء ربك ما فعلوه - فذرهم وما يفترون . ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وليرضوه ، وليقترفوا ما هم مقترفون ) .

. . كذلك . . كالذي قدرناه من أن أولئك المشركين الذين يعلقون إيمانهم بمجيء الخوارق ، ويعرضون عن دلائل الهدى وموحياته في الكون والنفس ، لا يقع منهم الإيمان ولو جاءتهم كل آية . . كذلك الذي قدرناه في شأن هؤلاء ، قدرنا أن يكون لكل نبي عدوهم شياطين الإنس والجن . وقدرنا أن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليخدعوهم به ويغروهم بحرب الرسل وحرب الهدى . وقدرنا أن تصغي إلى هذا الزخرف أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ، ويرضوه ، ويقترفوا ما يقترفونه من العداوة للرسل وللحق ؛ ومن الضلال والفساد في الأرض . .

كل ذلك إنما جرى بقدر الله ؛ وفق مشيئته . ولو شاء ربك ما فعلوه . ولمضت مشيئته بغير هذا كله ؛ ولجرى قدره بغير هذا الذي كان . فليس شيء من هذا كله بالمصادفة . وليس شيء من هذا كله بسلطان من البشر كذلك أو قدرة !

فإذا تقرر أن هذا الذي يجري في الأرض من المعركة الناشبة التي لا تهدأ بين الرسل والحق الذي معهم ، وبين شياطين الإنس والجن وباطلهم وزخرفهم وغرورهم . . إذا تقرر أن هذا الذي يجري في الأرض إنما يجري بمشيئة الله ويتحقق بقدر الله ، فإن المسلم ينبغي أن يتجه إذن إلى تدبر حكمة الله من وراء ما يجري في الأرض ؛ بعد أن يدرك طبيعة هذا الذي يجري والقدرة التي وراءه . .

( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا ، شياطين الإنس والجن ، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ) . .

بإرادتنا وتقديرنا ، جعلنا لكل نبي عدوا . . هذا العدو هو شياطين الإنس والجن . . والشيطنة وهي التمرد والغواية والتمحض للشر صفة تلحق الإنس كما تلحق الجن . وكما أن الذي يتمرد من الجن ويتمحض للشر والغواية يسمى شيطاناً ؛ فكذلك الذي يتمرد من الإنس ويتمحض للشر والغواية . . وقد يوصف بهذه الصفة الحيوان أيضا إذا شرس وتمرد واستشرى أذاه ! وقد ورد : " الكلب الأسود شيطان " .

هؤلاء الشياطين - من الإنس والجن - الذين قدر الله أن يكونوا عدوا لكل نبي ، يخدع بعضهم بعضا بالقول المزخرف ، الذي يوحيه بعضهم إلى بعض - ومن معاني الوحي التأثير الداخلي الذي ينتقل به الأثر من كائن إلى كائن آخر - ويغر بعضهم بعضا ، ويحرض بعضهم بعضاً على التمرد والغواية والشر والمعصية . .

وشياطين الإنس أمرهم معروف ومشهود لنا في هذه الأرض ، ونماذجهم ونماذج عدائهم لكل نبي ، وللحق الذي معه ، وللمؤمنين به ، معروفة يملك أن يراها الناس في كل زمان .

فأما شياطين الجن - والجن كله - فهم غيب من غيب الله ، لا نعرف عنه إلا ما يخبرنا به من عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو . . ومن ناحية مبدأ وجود خلائق أخرى في هذا الكون غير الإنسان وغير الأنواع والأجناس المعروفة في الأرض من الأحياء . . نقول من ناحية المبدأ ونحن نؤمن بقول الله عنها ، ونصدق بخبره في الحدود التي قررها . فأما أولئك الذين يتترسون " بالعلم " لينكروا ما يقرره الله في هذا الشأن ، فلا ندري علام يرتكنون ؟ إن علمهم البشري لا يزعم أنه أحاط بكل أجناس الأحياء ، في هذا الكوكب الأرضي ! كما أن علمهم هذا لا " يعلم " ماذا في الأجرام الأخرى ! وكل ما يمكن أن " يفترضه " أن نوع الحياة الموجودة في الأرض يمكن أولا يمكن أن يوجد في بعض الكواكب والنجوم . . وهذا لا يمكن أن ينفي - حتى لو تأكدت الفروض - أن أنواعا أخرى من الحياة وأجناساً أخرى من الأحياء يمكن أن تعمر جوانب أخرى في الكون لا يعلم هذا " العلم " عنها شيئاً ! فمن التحكم والتبجح أن ينفي أحد باسم " العلم " وجود هذه العوالم الحية الأخرى .

وأما من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمى بالجن ؛ والذي يتشيطن بعضه ويتمحض للشر والغواية - كإبليس وذريته - كما يتشيطن بعض الإنس . . من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمى بالجن ، نحن لا نعلم عنه إلا ما جاءنا الخبر الصادق به عن الله - سبحانه - وعن رسول الله [ ص ] .

ونحن نعرف أن هذا الخلق مخلوق من مارج من نار . وأنه مزود بالقدرة على الحياة في الأرض وفي باطن الأرض وفي خارج الأرض أيضاَ . وأنه يملك الحركة في هذه المجالات باسرع مما يملك البشر . وأن منه الصالحين المؤمنين ، ومنه الشياطين المتمردين . وأنه يرى بني آدم وبنو آدم لا يرونه - في هيئته الأصلية - وكم من خلائق ترى الإنسان ولا يراها الإنسان ! وأن الشياطين منه مسلطون على بني الإنسان يغوونهم ويضلونهم ، وهم قادرون على الوسوسة لهم والإيحاء بطريقة لا نعلمها . وأن هؤلاء الشياطين لا سلطان لهم على المؤمنين الذاكرين . وأن الشيطان مع المؤمن إذا ذكر الله خنس وتوارى ، وإذا غفل برز فوسوس له ! وأن المؤمن اقوى بالذكر من كيد الشيطان الضعيف . وأن عالم الجن يحشر مع عالم الإنس ؛ ويحاسب ؛ ويجازى بالجنة وبالنار كالجنس الإنساني . وأن الجن حين يقاسون إلى الملائكة يبدون خلقاً ضعيفاً لا حول له ولا قوة !

وفي هذه الآية نعرف أن الله سبحانه قد جعل لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن . .

ولقد كان الله - سبحانه - قادراً - لو شاء - ألا يفعلوا شيئاً من هذا . . ألا يتمردوا ؛ وألا يتمحضوا للشر ؛ وألا يعادوا الأنبياء ؛ وألا يؤذوا المؤمنين ؛ وألا يضلوا الناس عن سبيل الله . . كان الله سبحانه قادراً أن يقهرهمقهراً على الهدى ؛ أو أن يهديهم لو توجهوا للهدى ؛ أو أن يعجزهم عن التصدي للأنبياء والحق والمؤمنين به . . ولكنه سبحانه ترك لهم هذا القدر من الاختيار . وأذن لهم أن تمتد أيديهم بالأذى لأولياء الله - بالقدر الذي تقضي به مشيئته ويجري به قدره - وقدر أن يبتلي أولياءه بأذى أعدائه ؛ كما يبتلي أعداءه بهذا القدر من الاختيار والقدرة الذي أعطاهم إياه . فما يملك هؤلاء أن يوقعوا بأولياء الله من الأذى إلا ما قدره الله :

( ولو شاء الله ما فعلوه ) . .

فما الذي يخلص لنا من هذه التقريرات ؟

يخلص لنا ابتداء : أن الذين يقفون بالعداوة لكل نبي ؛ ويقفون بالأذى لأتباع الأنبياء . . هم " شياطين " ! . شياطين من الإنس ومن الجن . . وأنهم يؤدون جميعاً - شياطين الإنس والجن - وظيفة واحدة ! وأن بعضهم يخدع بعضاً ويضله كذلك مع قيامهم جميعاً بوظيفة التمرد والغواية وعداء أولياء الله . .

ويخلص لنا ثانياً : أن هؤلاء الشياطين لا يفعلون شيئاً من هذا كله ، ولا يقدرون على شيء من عداء الأنبياء وإيذاء أتباعهم بقدرة ذاتية فيهم . إنما هم في قبضة الله . وهو يبتلي بهم أولياءه لأمر يريده0من تمحيص هؤلاء الأولياء ، وتطهير قلوبهم ، وامتحان صبرهم على الحق الذي هم عليه أمناء . فإذا اجتازوا الامتحان بقوة كف الله عنهم الابتلاء . وكف عنهم هؤلاء الأعداء . وعجز هؤلاء الأعداء أن يمدوا إليهم أيديهم بالأذى وراء ما قدر الله . وآب أعداء الله بالضعف والخذلان ؛ وبأوزارهم كاملة يحملونها على ظهورهم :

( ولو شاء الله ما فعلوه ) . .

ويخلص لنا ثالثا : أن حكمة الله الخالصة هي التي اقتضت أن يترك لشياطين الإنس والجن أن يتشيطنوا - فهو إنما يبتليهم في القدر الذي تركه لهم من الاختيار والقدرة - وأن يدعهم يؤذون أولياءه فترة من الزمان - فهو إنما يبتلي أولياءه كذلك لينظروا : أيصبرون ؟ أيثبتون على ما معهم من الحق بينما الباطل ينتفش عليهم ويستطيل ؟ أيخلصون من حظ أنفسهم في أنفسهم ويبيعونها بيعة واحدة لله ، على السراء وعلى الضراء سواء . وفي المنشط والمكره سواء ؟ وإلا فقد كان الله قادراً على ألا يكون شيء من هذا الذي كان !

ويخلص لنا رابعاً : هو أن الشياطين من الإنس والجن ، وهو أن كيدهم وأذاهم . فما يستطيلون بقوة ذاتية لهم ؛ وما يملكون أن يتجاوزوا ما أذن الله به على أيديهم . . والمؤمن الذي يعلم أن ربه هو الذي يقدر ، وهو الذي يأذن ، خليق أن يستهين بأعدائه من الشياطين ؛ مهما تبلغ قوتهم الظاهرة وسلطانهم المدّعى . ومن هنا هذا التوجيه العلوي لرسول الله الكريم :

( فذرهم وما يفترون ) . .

دعهم وافتراءهم . فأنا من ورائهم قادر على أخذهم ، مدخر لهم جزاءهم . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ} (112)

يقول تعالى : وكما جعلنا لك - يا محمد - أعداءً يخالفونك ، ويعادونك{[11062]} جعلنا لكل نبي من قبلك أيضا أعداء فلا يَهِيدنَّك ذلك ، كما قال تعالى : { فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ } [ آل عمران : 184 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا [ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ] {[11063]} } [ الأنعام : 34 ] ، وقال تعالى : { مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } [ فصلت : 43 ] ، وقال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ] {[11064]} } [ الفرقان : 43 ] .

وقال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إنه ]{[11065]} لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي{[11066]}

وقوله : { شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ } بدل من { عَدُوًّا } أي : لهم أعداء من شياطين الإنس والجن ، ومن هؤلاء وهؤلاء ، قبحهم الله ولعنهم .

قال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة في قوله [ تعالى ]{[11067]} { شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ } قال : من الجن شياطين ، ومن الإنس شياطين ، يوحي بعضهم إلى بعض ، قال قتادة : وبلغني أن أبا ذر كان يوما يصلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " تَعَوَّذ{[11068]} يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن " . فقال : أو إن من الإنس شياطين{[11069]} ؟ فقال رسول الله{[11070]} صلى الله عليه وسلم : " نعم " .

وهذا منقطع بين قتادة وأبي ذر{[11071]} وقد روي من وجه آخر عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال{[11072]} ابن جرير :

حدثنا المثنى ، حدثنا أبو صالح ، حدثني معاوية بن صالح ، عن أبي عبد الله محمد بن أيوب وغيره من المشيخة ، عن ابن{[11073]} عائذ ، عن أبي ذر قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس ، قال ، فقال : " يا أبا ذر ، هل صليت ؟ " . قال : لا يا رسول الله . قال : " قم فاركع ركعتين " . قال : ثم جئت فجلستُ إليه ، فقال : " يا أبا ذر ، هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس ؟ " . قال : قلت : لا يا رسول الله ، وهل للإنس من شياطين ؟ قال : " نعم ، هم شر من شياطين الجن " .

وهذا أيضا فيه انقطاع{[11074]} وروي متصلا كما قال الإمام أحمد :

حدثنا وَكِيع ، حدثنا المسعودي ، أنبأنى أبو{[11075]} عمر الدمشقي ، عن عبيد بن الخشخاش ، عن أبي ذر قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد ، فجلست فقال : " يا أبا ذر هل صليت ؟ " . قلت : لا . قال : " قم فصل " . قال : فقمت فصليت ، ثم جلست فقال : " يا أبا ذر ، تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن " . قال : قلت يا رسول الله ، وللإنس شياطين ؟ قال : " نعم " . وذكر تمام الحديث بطوله .

وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسيره ، من حديث جعفر بن عون ، ويعلى بن عبيد ، وعبيد الله بن موسى ، ثلاثتهم عن المسعودي ، به{[11076]}

طريق أخرى عن أبي ذر : قال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا الحجاج ، حدثنا{[11077]} حماد ، عن حميد بن هلال ، حدثني رجل من أهل دمشق ، عن عوف بن مالك ، عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا أبا ذر ، هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن ؟ " . قال : قلت يا رسول الله ، هل للإنس من شياطين ؟ قال : " نعم " {[11078]}

طريق أخرى للحديث : قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عَوْف الحِمْصي ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا معان{[11079]} بن رفاعة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة [ رضي الله عنه ]{[11080]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا ذر تعوذتَ{[11081]} من شياطين الجن والإنس ؟ " . قال : يا رسول{[11082]} الله ، وهل للإنس [ من ]{[11083]} شياطين ؟ قال : " نعم ، شياطينَ الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا " {[11084]}

فهذه طرق لهذا الحديث ، ومجموعها يفيد قوته وصحته ، والله أعلم .

وقد روي ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبو نُعَيم ، عن شَرِيك ، عن سعيد بن مسروق ، عن عِكْرِمة : { شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ } قال : ليس من الإنس شياطين ، ولكن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس ، وشياطين الإنس يوحون إلى شياطين الجن .

قال : وحدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا إسرائيل ، عن السُّدِّي ، عن عِكْرِمة في قوله : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } قال : للإنسى{[11085]} شيطان ، وللجني{[11086]} شيطان{[11087]} فيلقى شيطان الإنس شيطان الجن ، فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا .

وقال أسباط ، عن السُّدِّي ، عن عِكْرِمة في قوله : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ } في تفسير هذه الآية : أما شياطين الإنس ، فالشياطين التي تضل الإنس{[11088]} وشياطين الجن الذين يضلون الجن ، يلتقيان ، فيقول كل واحد منهما لصاحبه : إني أضللت صاحبي بكذا وكذا ، فأضْلِل أنت صاحبك بكذا وكذا ، فيعلم بعضهم بعضا .

ففهم{[11089]} ابن جرير من هذا ؛ أن المراد بشياطين الإنس عند عِكْرِمة والسُّدِّي : الشياطين من الجن الذين يضلون الناس ، لا أن المراد منه{[11090]} شياطين الإنس منهم . ولا شك أن هذا ظاهر من كلام عِكْرِمة ، وأما كلام السُّدِّي فليس مثله في هذا المعنى ، وهو محتمل ، وقد روى ابن أبي حاتم نحو هذا ، عن ابن عباس من رواية الضحاك ، عنه ، قال : إن للجن شياطين يضلونهم مثل شياطين الإنس يضلونهم ، قال : فيلتقي شياطين الإنس وشياطين الجن ، فيقول هذا لهذا : أضلله بكذا ، أضلله{[11091]} بكذا . فهو قوله : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا }

وعلى كل حال فالصحيح ما تقدم من{[11092]} حديث أبي ذر : إن للإنس شياطين منهم ، وشيطان كل شيء ما رده ، ولهذا جاء في صحيح مسلم ، عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الكلب الأسود شيطان " {[11093]} ومعناه - والله أعلم - : شيطان في الكلاب .

وقال ابن جُرَيْج : قال مجاهد في تفسير هذه الآية : كفار الجن شياطين ، يوحون إلى شياطين الإنس ، كفار الإنس ، زخرف القول غرورا .

وروى ابن أبي حاتم ، عن عِكْرِمة قال : قدمت على المختار فأكرمني وأنزلني حتى كاد{[11094]} يتعاهد مبيتي بالليل ، قال : فقال لي : اخرج إلى الناس فحدث الناس . قال : فخرجت ، فجاء رجل فقال : ما تقول في الوحي ؟ فقلت : الوحي وحيان ، قال الله تعالى : { بِمَا{[11095]} أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } [ يوسف : 3 ] ، وقال [ الله ]{[11096]} تعالى : { شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } قال : فهموا بي أن يأخذوني ، فقلت : ما لكم ذاك ، إني مفتيكم وضيفكم . فتركوني .

وإنما عَرَضَ عِكْرِمة بالمختار - وهو ابن أبي عبيد - قبحه الله ، وكان يزعم أنه يأتيه الوحي ، وقد كانت أخته صفية تحت عبد الله بن عمر وكانت من الصالحات ، ولما أخبر عبد الله بن عمر أن المختار يزعم أنه يوحى إليه قال : صدق ، [ قال ]{[11097]} الله تعالى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ } [ الأنعام : 121 ] ، وقوله تعالى : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } أي : يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المزخرف ، وهو المزوق الذي يغتر سامعه من الجهلة بأمره .

{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } أي : وذلك كله بقدر الله وقضائه وإرادته ومشيئته أن يكون لكل نَبيّ عدوّ من هؤلاء .

{ فَذَرْهُمْ } أي : فدعهم ، { وَمَا يَفْتَرُونَ } أي : يكذبون ، أي : دع أذاهم وتوكل على الله في عداوتهم ، فإن الله كافيك وناصرك عليهم .


[11062]:في م، أ: "ويعاندونك".
[11063]:زيادة من م، أ.
[11064]:زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
[11065]:زيادة من م، أ.
[11066]:رواه البخاري في صحيحه برقم (3) ومسلم في صحيحه برقم (160) من حديث عائشة، رضي الله عنها.
[11067]:زيادة من أ.
[11068]:في م: "تعوذت".
[11069]:في م، أ: "لشياطين".
[11070]:في م، أ: "قال النبي".
[11071]:تفسير عبد الرزاق (1/209).
[11072]:في أ: "وقال".
[11073]:في م: "أبي".
[11074]:تفسير الطبري (12/53).
[11075]:في أ: "ابن أبي".
[11076]:المسند (5/178) وقال الهيثمي في المجمع (1/160): "فيه المسعودي وهو ثقة وقد اختلط".
[11077]:في أ: "بن"
[11078]:تفسير الطبري (12/53).
[11079]:في أ: "معاذ".
[11080]:زيادة من أ.
[11081]:في م: "تعوذت بالله".
[11082]:في أ: "يانبي".
[11083]:زيادة من أ.
[11084]:ورواه أحمد في مسنده (5/265) من طريق أبي المغيرة به مطولا. وقال الهيثمي في المجمع (1/159): "مداره على علي بن زيد وهو ضعيف".
[11085]:في م، أ: "للإنس".
[11086]:في م، أ: "وللجن".
[11087]:في أ: "شياطين".
[11088]:في أ: "الناس".
[11089]:في م: "فهم".
[11090]:في م: "من".
[11091]:في م: "وأضلله".
[11092]:في أ: "في".
[11093]:صحيح مسلم برقم (510).
[11094]:في أ: "كان".
[11095]:في أ: "إنا" وهو خطأ.
[11096]:زيادة من م، أ.
[11097]:زيادة من م.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ} (112)

وقوله تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي } الآية ، تتضمن تسلية النبي عليه السلام وعرض القدوة عليه ، أي إن هذا الذي امتحنت به يا محمد من الأعداء قد امتحن به غيرك من الأنبياء ليبتلي الله أولي العزم منهم ، و { عدواً } مفرد في معنى الجمع ، ونصبه على المفعول الأول ل { جعلنا } المفعول الثاني في قوله { لكل نبي } ، و { شياطين } بدل من قوله { عدواً } ، ويصح أن يكون المفعول الأول { شياطين } والثاني { عدواً } ، وقوله { شياطين الإنس والجن } يريد به المتمردين من النوعين الذين{[5064]} هم من شيم السوء كالشياطين ، وهذا قول جماعة من المفسرين ويؤيده حديث أبي ذر أنه صلى يوماً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :«تعوذ يا أبا ذر من شياطين الجن والإنس ، قال وإن من الإنس لشياطين ؟ قال : نعم{[5065]} » قال السدي وعكرمة : المراد بالشياطين الموكلون بالإنس والشياطين الموكلون بمؤمني الجن ، وزعماً أن للجن شياطين موكلين بغوايتهم وأنهم يوحون إلى شياطين الإنس بالشر والوسوسة يتعلمها بعضهم من بعض ، قالا : ولا شياطين من الإنس .

قال القاضي أبن محمد : وهذا قول لا يستند إلى خبر ولا إلى نظر ، و { يوحي } معناه يلقيه في اختفاء فهو كالمناجاة والسرار ، و { زخرف القول } معناه محسنه ومزينه بالأباطيل ، قاله عكرمة ومجاهد ، و «الزخرفة » أكثر ذلك إنما يستعمل في الشر والباطل ، و { غروراً } نصب على المصدر ومعناه أنهم يغرون به المضللين ويوهمون لهم أنهم على شيء والأمر بخلاف ، والضمير في قوله { فعلوه } عائد على اعتقادهم العداوة ، ويحتمل على الوحي الذي تضمنته { يوحي } . وقوله { فذرهم وما يفترون } لفظ يتضمن الأمر بالموادعة منسوخ بآيات القتال ، قال قتادة كل ( ذْر ) في كتاب الله فهو منسوخ بالقتال و { يفترون } معناه يختلفون ويشتقون ، وهو من الفرقة تشبيهاً بفري الأديم .


[5064]:- كلمة (الذين) بالجمع صفة لكلمة (المتمردين) قبلها.
[5065]:- الحديث في ابن كثير برواية عبد الرزاق عن قتادة، ورواية الإمام أحمد عن عبيد ابن الحسيحاس، ورواية ابن جرير عن عوف بن مالك عن أبي ذر، وروي أيضا من طرق أخرى ذكرها في (الدر المنثور 3/39).