ثم انتقل شعيب إلى نهيهم عن رذائل أخرى كانوا متلبسين بها فقال : { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ } توعدون : من التوعد بمعنى التخويف والتهديد . أى : ولا تقعدوا بكل طريق من الطرق المسلوكة تهددون من آمن بى بالقتل ، وتخيفونه بأنواع الأذى ، وتلصقون بى وأنا نبيكم التهم التي أنا برىء منها ، بأن تقولوا لمن يريد الإيمان برسالتى : إن شعيبا كذاب وإنه يريد أن يفتنكم عن دينكم .
وقوله : { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً } أى : وتصرفون عن دين الله وطاعته من آمن به ، وتطلبون لطريقه العوج بإلقاء الشبه أو بوصفها بما ينقصها ، مع أنها هى الطريق المستقيم الذي هو أبعد ما يكون من شائبه الاعوجاج .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : صراط الحق واحد { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } فكيف قيل : بكل صراط ؟ قلت : صراط الحق واحد ، ولكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة ، فكانوا إذا رأوا أحداً يشرع في شىء منها أوعدوه وصدوه فإن قلت : إلام يرجع الضمير في { آمَنَ بِهِ } ؟ قلا : إلى كل صراط ، والتقدير : توعدون من آمن به وتصدون عنه . فوضع الظاهر الذي هو سبيل الله موضع الضمير زيادة في تقبيح أمرهم ، ودلالة على عظم ما يصدون عنه .
وقوله : توعدون . وتصدون ، وتبغون هذه الجمل أحوال ، أى : لا تقعدوا موعدين وصادين ، وباغين ، ولم يذكر الموعد به لتذهب النفس فيه كل مذهب ، ثم ذكرهم شعيب بنعم الله عليهم فقال : { واذكروا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ } أى : اذكروا ذلك الزمن الذي كنتم فيه قليلى العدد فكثركم الله بأن جعلكم موفورى العدد ، وكنتم في قلة من الأموال فأفاضها الله بين أيديكم ، فمن الواجب عليكم أن تشكروه على هذه النعم ، وأن تفردوه بالعبادة والطاعة ثم اتبع هذا التذكير بالنعم بالتخويف من عواقب الافساد فقال : { وانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين } أى : انظروا نظر تأمل واعتبار كيف كانت عاقبة المفسدين من الأمم الخالية ، والقرون الماضية ، كقوم لوط وقوم صالح ، فسترون أنهم قد دمروا تدميراً بسبب إفسادهم في الأرض ، وتكذيبهم لرسلهم ( فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَلاَ تطيعوا أَمْرَ المسرفين ) لأن سيركم على طريقهم سيؤدى بكم إلى الدمار .
ونأتي للصفحة الأخيرة من صحائف الأقوام المكذبة في تلك الحقبة من التاريخ . . صفحة مدين وأخيهم شعيب :
( وإلى مدين أخاهم شعيباً ، قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، قد جاءتكم بينة من ربكم ، فأوفوا الكيل والميزان ، ولا تبخسوا الناس اشياءهم ، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين . ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجاً ، واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم ، وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين . . وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا ، وهو خير الحاكمين ) . .
( قال الملأ الذين استكبروا من قومه : لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا . قال : أو لو كنا كارهين ؟ قد افترينا على اللّه كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا اللّه منها ، وما يكون لنا أن نعود فيها - إلا أن يشاء اللّه ربنا ، وسع ربنا كل شيء علماً - على اللّه توكلنا ، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ، وأنت خير الفاتحين . وقال الملأ الذين كفروا من قومه : لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون . فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين . الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها ، الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين ، فتولى عنهم وقال : يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم ، فكيف آسى على قوم كافرين ؟ ) . .
إننا نجد شيئاً من الإطالة في هذه القصة ، بالقياس إلى نظائرها في هذا الموضع ، ذلك أنها تتضمن غير قضية العقيدة شيئاً عن المعاملات ، وإن كانت القصة سائرة على منهج الاستعراض الإجمالي في هذا السياق .
( وإلى مدين أخاهم شعيباً ، قال : يا قوم اعبدوا اللّه ما لكم من إله غيره ) .
فهي قاعدة الدعوة التي لا تغيير فيها ولا تبديل . . ثم تبدأ بعدها بعض التفصيلات في رسالة النبي الجديد :
( قد جاءتكم بينة من ربكم ) . .
ولا يذكر السياق نوع هذه البينة - كما ذكرها في قصة صالح - ولا نعرف لها تحديداً من مواضع القصة في السور الأخرى . ولكن النص يشير إلى أنه كانت هناك بينة جاءهم بها ، تثبت دعواه أنه مرسل من عند اللّه . ويرتب على هذه البينة ما يأمرهم به نبيهم من توفية الكيل والميزان ، والنهي عن الإفساد في الأرض ، والكف عن قطع الطريق على الناس ، وعن فتنة المؤمنين عن دينهم الذي ارتضوه :
( فأوفوا الكيل والميزان ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين . ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ، وتصدون عن سبيل اللّه من آمن به ، وتبغونها عوجاً ، واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم ، وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ) . .
وندرك من هذا النهي أن قوم شعيب ، كانوا قوماً مشركين لا يعبدون اللّه وحده ، إنما يشركون معه عباده في سلطانه ؛ وأنهم ما كانوا يرجعون في معاملاتهم إلى شرع اللّه العادل ؛ إنما كانوا يتخذون لأنفسهم من عند أنفسهم قواعد للتعامل - ولعل شركهم إنما كان في هذه الخصلة - وأنهم - لذلك - كانوا سيئي المعاملة في البيع والشراء ؛ كما كانوا مفسدين في الأرض ، يقطعون الطريق على سواهم . ظلمة يفتنون الذين يهتدون ويؤمنون عن دينهم ، ويصدونهم عن سبيل اللّه المستقيم ؛ ويكرهون الاستقامة التي في سبيل اللّه ؛ ويريدون أن تكون الطريق عوجاء منحرفة ، لا تمضي على استقامتها كما هي في منهج اللّه .
ويبدأ شعيب - عليه السلام - بدعوتهم إلى عبادة اللّه وحده وإفراده سبحانه بالألوهية ، وإلى الدينونة له وحده وإفراده من ثم بالسلطان في أمر الحياة كله .
يبدأ شعيب - عليه السلام - في دعوتهم من هذه القاعدة ؛ التي يعلم أنه منها تنبثق كل مناهج الحياة وكل أوضاعها ؛ كما أن منها تنبثق قواعد السلوك والخلق والتعامل . ولا تستقيم كلها إلا إذا استقامت هذه القاعدة .
ويستصحب في دعوتهم إلى الدينونة للّه وحده ، وإقامة حياتهم على منهجه المستقيم ، وترك الإفساد في الأرض بالهوى بعدما أصلحها اللّه بالشريعة . .
يستصحب في دعوتهم إلى هذا كله بعض المؤثرات الموحية . . يذكرهم نعمة اللّه عليهم :
( واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم ) .
ينهاهم شعيب ، عليه السلام ، عن قطع الطريق الحسي والمعنوي ، بقوله : { وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ } أي : توعدون الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم . قال السدي وغيره : كانوا عشارين . وعن ابن عباس [ رضي الله عنه ]{[11962]} ومجاهد وغير واحد : { وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ } أي : تتوعدون المؤمنين الآتين إِلى شعيب ليتبعوه . والأول أظهر ؛ لأنه قال : { بِكُلِّ صِرَاطٍ } وهي الطرق ، وهذا الثاني هو قوله : { وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا } أي : وتودون أن تكون سبيل الله عوجا مائلة . { وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ } أي : كنتم مستضعفين لقلتكم فصرتم أعزة لكثرة عَدَدكم ، فاذكروا نعمة الله عليكم في ذلك ، { وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } أي : من الأمم الخالية والقرون الماضية ، ما حل بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصي الله وتكذيب{[11963]} رسله .
وقوله : { ولا تقعدوا بكل صراط } الآية ، قال السدي هذا نهي عن العشارين والمتقبلين ونحوه من أخذ أموال الناس بالباطل ، والصراط : الطريق وذلك أنهم كانوا يكثرون من هذا لأنه من قبيل : خسهم ونقصهم الكيل والوزن ، وقال أبو هريرة رضي الله عنه ، وهو نهي عن السلب وقطع الطريق ، وكان ذلك من فعلهم روي في ذلك حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : وما تقدم قبل من النهي في شأن المال في الموازين والأكيال والنحس يؤيد هذين القولين ويشبههما ، وفي هذا كله توعد للناس إن لم يتركوا أموالهم .
وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي أيضاً ، قوله : { ولا تقعدوا } نهي لهم عما كانوا يفعلونه من رد الناس عن شعيب ، وذلك أنهم كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون إنه كذاب فلا تذهب إليه على نحو ما كانت قريش تفعله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : وما بعد هذا من ألفاظ الآية يشبه هذا القول ، وقوله تعالى : { وتصدون عن سبيل الله من آمن } الآية المعنى وتفتنون من آمن وتصدونه عن طريق الهدى و { سبيل الله } المفضية إلى رحمته ، والضمير في { به } يحتمل أن يعود على اسم الله وأن يعود على شعيب في قول من رأى القعود على الطرق للرد عن شعيب ، وأن يعود على السبيل في لغة من يذكر «السبيل » وتقدم القول في مثل قوله : { وتبغونها عوجاً } في صدر السورة ، وقال أبو عبيدة والزجاج كسر العين في المعاني وفتحها في الأجرام ، ثم عدد عليهم نعم الله تعالى وأنه كثرهم بعد قلة عدد ، وقيل : أغناهم بعد فقر ، فالمعنى على هذا : إذ كنتم قليلاً قدركم ، ثم حذرهم ومثل لهم بمن امتحن من الأمم السابقة .