ثم ضرب - سبحانه - مثلا لاختلاف استعداد البشر للخير والشر فقال : { والبلد الطيب . . } .
{ والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً } .
أصل النكد : العسر القليل الذي لا يخرج إلا بعناء ومشقة . يقال : نكد عيشه ينكد ، اشتد وعسر . ونكدت البئر : قل ماؤها ، ومنه : رجل نكد ، ونكد وأنكد ، شؤم عسر . وهم أنكاد ومناكيد .
وقال في اللسان : والنكد : قلة العطاء ، قال الشاعر :
لا تنجز الوعد إن وعدت وإن . . . أعطيت ، أعطيت تافها نكدا
والمعنى : أن الأرض الكريمة التربة يخرج نباتها وافيا حسنا غزير النفع بمشيئة الله وتيسيره ، والذى خبث من الأرض كالسبخة منها لا يخرج نباته إلا قليلا عديم الفائدة .
فالأول : مثل ضربه الله للمؤمن يقول : هو طيب وعمله طيب .
والثانى : مثل للكافر ، يقول : هو خبيث وعمله خبيث ، وفيهما بيان أن القرآن يثمر في القلوب التي تشبه الأرض الطيبة التربة ، ولا يثمر في القلوب التي تشبه الأرض الرديئة السبخة .
ونكدا منصوب على أنه حال أو على أنه نعت لمصدر محذوف والتقدير : والذى خبث لا يخرج إلا خروجا نكدا .
قال صاحب الكشاف : " وهذا مثل لمن ينجح فيه الوعظ والتذكير من المكلفين ، ولمن لا يؤثر فيه شىء من ذلك . وعن مجاهد : آدم وذريته منهم خبيث وطيب . وعن قتادة : المؤمن سمع كتاب الله فوعاه بعقله وانتفع به ، كالأرض الطيبة أصابها الغيث فأنبتت . والكافر بخلاف ذلك . وهذا التمثيل واقع على أثر ذكر المطر . وإنزاله بالبلد الميت ، وإخراج الثمرات به على طريق الاستطراد "
وقريب من معنى الآية الكريمة ما رواه الشيخان عن أبى موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل ما بعثنى الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا ، فكانت منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثنى الله به فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به " .
وقوله : { كذلك نُصَرِّفُ الآيات لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } أصل التصريف : تبديل حال بحال ومنه تصريف الرياح . والآيات : الدلائل الدالة على قدرة الله .
أى : مثل ذلك التصريف البديع والتنويع الحكيم نصرف الايات الدالة على علمنا وحكمتنا ورحمتنا بالإتيان بها على أنواع جلية واضحة لقوم يشكرون نعمنا ، باستعمالها فيما خلقت له ، فيستحقون مزيدنا منها وإثابتنا عليها .
وعبر هنا بالشكر لأن هذه الآية موضوعها الاهتداء بالعلم والعمل والإرشاد ، بينما عبر في الآية السابقة عليها بالتذكر لأن موضوعها يتعلق بالاعتبار والاستدلال على قدرة الله - تعالى - في إحياء الموتى .
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حدثتنا - من بين ما حدثتنا - عن عظمة القرآن الكريم وعن وجوب اتباعه ، وعن قصة آدم وما فيها من عبر وعظات ، وعما أحله الله وحرمه ، وعما يدور بين أهل النار من مجادلات واتهامات ، وعن العاقبة الطيبة التي أعدها الله للصالحين من عباده ، وعن المحاورات التي تدور بيهم وبين أهل النار ، ثم عن مظاهر قدرة الله ، وأدلى وحدانيته .
وبعد كل ذلك تبدأ السورة جولة جديدة مع الأمم الخالية ، والقرى المهلكة التي جاء ذكرها في مطلعها .
{ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } فتحدثنا السورة الكريمة عن مصارع قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط ، وقوم شعيب ، ثم حديثا مستفيضا عن قصة موسى مع فرعون ومع بنى إسرائل .
وقد تكلم الإمام الرازى عن فوائد مجىء قصص هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم في هذه السورة بعد أن تحدثت عن أدلة توحيده وربوبيته - سبحانه - فقال : اعلم أنه - تعالى - لما ذكر في تقرير المبدأ والمعاد دلائل ظاهرة ، وبينات قاهرة ، وبراهين باهرة أتبعها بذكر قصص الأنبياء وفيه فوائد :
أحدها : التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول هذه الدلائل والبينات . ليس من خواص قوم النبى صلى الله عليه وسلم بل هذه العادة المذمومة كانت حاصلة في جميع الأمم السالفة ، والمصيبة إذا عمت خفت ، فكان ذكر قصصهم ، وحكاية إصرارهم وعنادهم ، يفيد تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم وتخفيف ذلك على قلبه .
ثانيها : أنه - تعالى - يحكى في هذه القصص أن عاقبة أمر أولئك المنكرين كان إلى اللعن في الدنيا ، والخسارة في الآخرة ، وعاقبة أمر المحقين إلى الدولة في الدنيا ، والسعادة في الآخرة ، وذلك يقوى قلوب المحقين ، ويكسر قلوب المبطلين .
وثالثها : التنبيه على أنه - تعالى - وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين ، ولكنه لا يهملهم ، بل ينتقم منهم على أكمل الوجوه .
ورابعها : بيان أن هذه القصص دالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان أمياً . وما طالع كتاباً ولا تتلمذ على أستاذ . فإذا ذكر هذه القصص على هذا الوجه من غير تحريف ولا خطأ دل ذلك على أنه إنما عرفها بالوحى من الله - تعالى - " .
{ ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } .
إفاضة الماء : صبه ، ومادة الفيض فيها معنى الكثرة .
والمعنى : أن أهل النار - بعد أن أحاط بهم العذاب المهين - أخذوا يستجدون أهل الجنة بذلة وانكسار فيقولون لهم : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله من طعام ، لكى نستعين بهما على ما نحن فيه من سموم وحميم .
وهنا يرد عليهم أهل الجنة بما يقطع آمالهم بسبب أعمالهم فيقولون لهم : إن الله منع كلا منهما على الكافرين ، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، أى الذين اتخذوا دينهم - الذي أمرهم الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه - مادة للسخرية والتلهى ، وصرف الوقت فيما لا يفد ، فأصبح الدين - في زعمهم - صورة ورسوما لا تزكى نفساً ، ولا تطهر قلباً ، ولا تهذب خلقا وهم فوق ذلك قد غرتهم الحياة الدنيا - أى شغلتهم بمتعها ولذائذها وزينتها عن كل ما يقربهم إلى الله ، ويهديهم إلى طريقه القويم .
وقوله - تعالى - : { فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا } معناه فاليوم نفعل بهم فعل الناسى بالمنسى من عدم الاعتناء بهم وتركهم في النار تركا كليا بسبب تركهم الاستعداد لهذا اليوم ، وبسبب جحودهم لآياتنا التي جاءتهم بها أنبياؤهم .
فالنسيان في حق الله - تعالى - مستعمل في لازمه ، بمعنى أن الله لا يجيب دعاءهم ، ولا يرحم ضعفهم وذلهم ، بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل الصالح في الدنيا .
وهكذا تسوق لنا السورة الكريمة مشاهد متنوعة لأهوال يوم القيامة ، فتحكى لنا أحوال الكافرين ، كما تصور لنا ما أعده الله للمؤمنين . كما تسوق لنا ما يدور بين الفريقين من محاورات ومناقشات فيها العبر والعظات { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيد }
ويختم السياق هذه الرحلة في أقطار الكون وأسرار الوجود ، بمثل يضربه للطيب وللخبيث من القلوب . ينتزعه من جو المشهد المعروض ، مراعاة للتناسق في المرائي والمشاهد ، وفي الطبائع والحقائق :
( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً . كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون ) .
والقلب الطيب يشبه في القرآن الكريم وفي حديث رسول الله [ ص ] بالأرض الطيبة ، وبالتربة الطيبة . والقلب الخبيث يشبه بالأرض الخبيثة وبالتربة الخبيثة . فكلاهما . . القلب والتربة . . منبت زرع ، ومأتى ثمر . القلب ينبت نوايا ومشاعر ، وانفعالات واستجابات ، واتجاهات وعزائم ، وأعمالاً بعد ذلك وآثاراً في واقع الحياة . والأرض تنبت زرعاً وثمراً مختلفاً أكله وألوانه ومذاقاته وأنواعه . .
( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ) . .
( والذي خبث لا يخرج إلا نكداً ) . .
في إيذاء وجفوة ، وفي عسر ومشقة . .
والهدى والآيات والموعظة والنصيحة تنزل على القلب كما ينزل الماء على التربة . فإن كان القلب طيباً كالبلد الطيب ، تفتح واستقبل ، وزكا وفاض بالخير . وإن كان فاسداً شريراً - كالذي خبث من البلاد والأماكن - استغلق وقسا ، وفاض بالشر والنكر والفساد والضر . وأخرج الشوك والأذى ، كما تخرج الأرض النكدة !
( كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون ) .
والشكر ينبع من القلب الطيب ، ويدل على الاستقبال الطيب ، والانفعال الطيب . ولهؤلاء الشاكرين الذين يحسنون التلقي والاستجابة تصرف الآيات . فهم الذين ينتفعون بها ، ويصلحون لها ، ويصلحون بها . .
والشكر هو لازمة هذه السورة التي يتكرر ذكرها فيها . . كالإنذار والتذكير . وقد صادفنا هذا التعبير فيما مضى من السياق ، وسنصادفه فيما هو آت . . فهو من ملامح السورة المميزة في التعبير ، كالإنذار والتذكير . .
وقوله : { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } أي : والأرض الطيبة يخرج نباتها سريعًا حسنا ، كما قال : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } [ آل عمران : 37 ]
{ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا } قال مجاهد وغيره : كالسباخ ونحوها .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في الآية : هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر .
وقال البخاري : حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا حماد بن أسامة{[11841]} عن بُرَيد{[11842]} بن عبد الله ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم ، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا ، فكانت منها نقية قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير . وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس ، فشربوا وسقوا وزرعوا . وأصاب منها طائفة أخرى ، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت{[11843]} فذلك مثل من فَقُه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به ، فَعَلم وَعَلَّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا . ولم يَقْبَل هُدَى الله الذي أُرْسِلْتُ به " .
رواه مسلم والنسائي من طرق ، عن أبي أسامة حماد بن أسامة ، به{[11844]}
{ والبلد الطيب } الأرض الكريمة التربة . { يخرج نباته بإذن ربه } بمشيئته وتيسيره ، عبر به عن كثرة النبات وحسنه وغزارة نفعه لأنه أوقعه في مقابلة . { والذي خبُث } أي كالحرة والسبخة . { لا يخرج إلا نكدا } قليلا عديم النفع ، ونصبه على الحال وتقدير الكلام ، والبلد الذي خبث لا يخرج نباته إلا نكدا فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فصار مرفوعا مستترا وقرئ { يخرج } أي يخرجه البلد فيكون { إلا نكدا } مفعولا و{ نكدا } على المصدر أي ذا نكد و{ نكدا } بالإسكان للتخفيف . { كذلك نصرّف الآيات } نرددها ونكررها . { لقوم يشكرون } نعمة الله فيتفكرون فيها ويعتبرون بها ، والآية مثل لمن تدبر الآيات وانتفع بها ، ولمن لم يرفع إليها رأسا ولم يتأثر بها .
جملة معترضة بين جملة : { كذلك نخرج الموتى } [ الأعراف : 57 ] وبين جملة : { لقد أرسلنا نوحاً } [ الأعراف : 59 ] تتضمّن تفصيلاً لمضمون جملة : { فأخرجنا به من كل الثمرات } [ الأعراف : 57 ] إذ قد بيّن فيها اختلاف حال البلد الذي يصيبه ماء السّحاب ، دعا إلى هذا التّفصيل أنّه لما مُثِّل إخراج ثمرات الأرض بإخراج المَوتى منها يوم البعث تذكيراً بذلك للمؤمنين ، وإبطالاً لإحالة البعث عند المشركين ، مُثل هنا باختلاف حال إخراج النّبات من الأرض اختلافُ حال النّاس الأحياءِ في الانتفاع برحمة هُدى الله ، فموقع قوله : { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } كموقع قوله : { كذلك نخرج الموتى } [ الأعراف : 57 ] ولذلك ذُيل هذا بقوله : { كذلك نصرف الأيات لقوم يشكرون } كما ذيل ما قبله بقوله : { كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون } [ الأعراف : 57 ] .
والمعنى : كذلك نخرج الموتى وكذلك ينتفع برحمة الهَدْي من خُلقت فطرته طيّبة قابلة للهُدى كالبلد الطّيّب ينتفع بالمطر ، ويحرم من الانتفاع بالهدى من خلقت فطرته خبيثة كالأرض الخبيثة لا تنتفع بالمطر فلا تنبت نباتاً نافعاً ، فالمقصود من هذه الآية التّمثيل ، وليسَ المقصود مجرّد تفصيل أحوال الأرض بعد نزول المطر ، لأنّ الغرض المسوق له الكلام يجمع أمرين : العبرةَ بصنع الله ، والموعظَة بما يماثل أحواله . فالمعنى : كما أنّ البلد الطّيّب يَخرج نباته سريعاً بَهِجاً عند نزول المطر ، والبلد الخبيثَ لا يكاد ينبت فإن أنبت أخرج نبْتاً خبيثاً لا خير فيه .
والطيب وصف على وزن فَيْعِل وهي صيغة تدلّ على قوّة الوصف في الموصوف مثل : قيّم ، وهو المتّصف بالطِّيبِ ، وقد تقدّم تفسير الطيب عند قوله تعالى : { قل أحلّ لكم الطّيّباتُ } في سورة المائدة ( 4 ) ، وعند قوله : { يأيّها النّاس كلوا ممّا في الأرض حلالاً طيِّباً } في سورة البقرة ( 168 ) .
والبلد الطّيب الأرضُ الموصوفة بالطِّيببِ ، وطيبها زكاء تربتها وملاءمتها لإخراج النّبات الصّالح وللزّرع والغرس النّافع وهي الأرض النّقيّه .
وقوله : { بإذن ربه } في موضع الحال من { نباته } والإذن : الأمر ، والمراد به أمر العناية به كقوله : { لِمَا خلقتُ بيَدَيّ } [ ص : 75 ] ليدلّ على تشريف ذلك النّبات ، فهو في معنى الوصف بالزّكاء ، والمعنى : البلد الطَّيب يخرج نباته طيّباً زكياً مثلَه ، وقد أشار إلى طيب نباته بأنّ خروجه بإذن ربّه ، فأريد بهذا الإذن إذنٌ خاص هو إذن عناية وتكريم ، وليس المراد إذن التّقدير والتّكوين فإنّ ذلك إذن معروف لا يتعلّق الغرض ببَيانه في مثل هذا المقام .
{ والذي خبث } حملهُ جميع المفسّرين على أنّه وصف للبلد ، أي البلد الذي خبث وهو مقابل البلد الطّيب ، وفسّروه بالأرض التي لا تنبت إلاّ نباتاً لا ينفع ، ولا يسرع إنباتها ، مثل السّباخ ، وحملوا ضمير يَخْرج على أنّه عائد للنّبات ، وجعلوا تقدير الكلام : والذي خبث لا ( يخرج ) نباتُه إلاّ نَكِداً ، فحُذف المضاف في التّقدير ، وهو نبات ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وهو ضمير البلد الذي خبث ، المستترُ في فعل يخرج .
والذي يظهر لي : أن يكون { الذي } صادقاً على نبات الأرض ، والمعنى : والنّبت الذي خبث لا يخرج إلاّ نَكِداً ، ويكون في الكلام احتباك إذ لم يذكر وصف الطّيب بعد نبات البلد الطّيب ، ولم تذكر الأرض الخبيثة قبل ذكر النّبات الخبيث ، لدلالة كِلا الضدّين على الآخر . والتّقدير : والبلد الطّيب يخرج نباته طيّباً بإذْن ربّه ، والنّبات الذي خبث يخرج نكداً من البلد الخبيث ، وهذا صنع دقيق لا يهمل في الكلام البليغ .
وقرأ الجميع { لا يَخْرُج } بفتح التّحتيّة وضمّ الراء إلاّ ابنَ وردان عن أبي جعفر قرأ بضمّ التّحتيّة وكسر الرّاء على خلاف المشهور عنه ، وقيل إنّ نسبة هذا لابن وردان توهم .
والنّكد وصف من النكَد بفتح الكاف وهو مصدر نَكِدَ الشّيءُ إذا كان غير صالح يَجُرّ على مستعمله شراً . وقرأ أبو جعفر { إلا نكداً } ، بفتح الكاف .
وفي تفصيل معنى الآية جاء الحديث الصّحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال : " مثَلُ ما بَعثني الله به من الهُدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نَقِيَّةٌ قبِلَتْ الماءَ فأنبتت الكلأ والعُشْب الكثيرَ ، وكانت منها أجَادِبُ أمسكت الماء فنفع بها الله النّاسَ فشربوا وسَقَوا وزرعوا ، وأصاب طائفة أخرى إنّما هي قِيعَانٌ لا تُمْسك ماء ولا تنبتُ كَلأ فذلك مثَل مَن فَقُه في دين الله ونفعه ما بعثني اللَّهُ به فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ، ومَثَل من لم يَرْفَعْ لِذلك رأساً ولم يَقْبَل هُدَى اللَّهِ الذي أُرْسِلْتُ به " . والإشارة بقوله : { كذلك نصرف الأيات } إلى تفنّن الاستدلال بالدّلائل الدّالة على عظيم القدرة المقتضية الوحدانيّة ، والدّالة أيضاً على وقوع البعث بعد الموت ، والدّالة على اختلاف قابليّة النّاس للهدى والانتفاع به بالاستدلال الواضحِ البيّن المقِرّب في جميع ذلك ، فذلك تصريف أي تنويع وتفنين للآيات أي الدّلائل .
والمراد بالقوم الذين يشكرون : المؤمنون : تنبيهاً على أنّهم مورد التّمثيل بالبلد الطّيب ، وأنّ غيرهم مورد التّمثيل بالبلد الخبيث ، وهذا كقوله تعالى : { وتلك الأمثال نضربها للنّاس وما يعقلها إلاّ العالِمُون } [ العنكبوت : 43 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ضرب مثلا للمؤمنين والكفار، فقال: {والبلد الطيب}، يعني الأرض العذبة إذا مطرت، {يخرج نباته بإذن ربه}، فينتفع به كما ينفع المطر البلد الطيب فينبت. ثم ذكر الكافر، فقال: {والذي خَبُث} من البلد، يعني من الأرض السبخة أصابها المطر، فلم ينبت، {لا يخرج إلا نكدا}، يعني إلا عسرا رقيقا يبس مكانه، فلم ينتفع به، فهكذا الكافر يسمع الإيمان ولا ينطق به ولا ينفعه، كما لا ينفع هذا النبات الذي يخرج رقيقا فييبس مكانه، {كذلك} يعني هكذا {نصرف الآيات} في أمور شتى لما ذكره في هاتين الآيتين، {لقوم يشكرون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والبلد الطيبة تربته العذبة مشاربه، يخرج نباته إذا أنزل الله الغيث وأرسل عليه الحيا بإذنه طيبا ثمره في حينه ووقته. "وَالّذِي خَبُثَ "فردؤت تربته وملحت مشاربه، "لا يَخْرُجُ" نباته إلاّ نَكِدا يقول: إلاّ عسرا في شدّة.
وقوله: "كذلكَ نُصَرّفُ الآيات لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ" يقول: كذلك نبين آية بعد آية، وندلي بحجة بعد حجة، ونضرب مثلاً بعد مثل، لقوم يشكرون الله على إنعامه عليهم بالهداية وتبصيره إياهم سبيل أهل الضلالة، باتباعهم ما أمرهم باتباعه وتجنبهم ما أمرهم بتجنبه من سبل الضلالة. وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فالبلد الطيب الذي يخرج نباته بإذن ربه مثل للمؤمن، والذي خبث فلا يخرج نباته إلا نَكدا مثل للكافر.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل ضرب المثل وجوها: أحدها: أنه وصف الأرض التي يخرج منها النبات بالطيب، والأرض التي لا يخرج منها النبات بالخبث. فعلى ذلك المؤمن لما كان منه من الأعمال الطاعة لربه والائتمار لأمره، موصوف هو بالطيب، وجعله من جوهر الطيب، والكافر لما يكون منه من الأعمال الخبيثة، ولا يكون له من الأعمال الصالحة الطاعة لربه خبيث، كما أن الأرض التي يخرج منها النبات الذي ينتفع به موصوفة بطيب الأصل والجوهر، والتي لا يخرج منها النبات، ولا ينتفع به، موصوفة بخبث الأصل. وأمكن من وجه آخر؛ وهو أن الله عز وجل جعل هذا القرآن مباركا شفاء للخلق على ما وصفه الله تعالى في غير موضع من الكتاب، ووصف الماء الذي ينزل من السماء بالبركة والرحمة. فإذا أنزل ذلك الماء المبارك في الأرض الطّيبة الجوهر خرج منها النبات والأنزال ينتفع بها. وإذا نزل في الأرض السّبخة الخبيثة لم يخرج [النبات] لخبث أصلها. فعلى ذلك هذا القرآن هو مبارك شفاء؛ يسمعه المؤمن، فيتّبعه به، ويعمل به، والكافر يسمعه، ولا يتّبعه، ولا يعمل به. فصار مثل المؤمن الذي يسمع هذا القرآن، ويتّبعه، ويعمل بما فيه كمثل الماء الذي يدخل في الأرض، فيخرج منه النبات لطيب جوهرها وأصلها. والكافر مثل الأرض التي لا يخرج منها النبات لخبث أصلها وجوهرها...
وأصله أنه ضرب مثل الذي هو مستحسن بالعقل بالذي هو مستحسن بالطبع؛ لأن ما حسن في الطبع فإنما معرفته حسنى، وما حسن في العقل فإنما يعرف حسنه بالدلائل، وهو غائب. فضرب مثل معرفة حسنه بالعقل بالحسن والمشاهدة، وهو ما ذكر من النبات الذي يخرج من الأرض، وذلك يدل على طيب أصلها وجوهرها. [والذي لا يخرج] لخبث جوهرها وأصلها. فعلى ذلك المؤمن والكافر... وقوله تعالى: {بإذن ربه} يحتمل بعلمه وتكوينه. وقوله تعالى: {إلا نكدا} قال الحسن: خبيثا؛ أي لا يخرج إلا خبيثا، وقال أبو بكر {نكدا} أي لا منفعة فيه، وقيل: إلا قليلا، وهو واحد. وقوله تعالى: {كذلك نصرّف الآيات لقوم يشكرون} أي لقوم ينتفعون بالآيات...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قوله تعالى: {لقوم يشكرون}. أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا حماد بن أسامة، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا، وسقوا، وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعمل، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وهذا مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين، ولمن لا يؤثر شيء من ذلك.
{نُصَرّفُ الآيات} نردِّدها ونكرّرها.
القول الأول: وهو المشهور أن هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر بالأرض الخيرة والأرض السبخة، وشبه نزول القرآن بنزول المطر، فشبه المؤمن بالأرض الخيرة التي نزل عليها المطر فيحصل فيها أنواع الأزهار والثمار، وأما الأرض السبخة فهي وإن نزل المطر عليها لم يحصل فيها من النبات إلا النزر القليل، فكذلك الروح الطاهرة النقية عن شوائب الجهل والأخلاق الذميمة إذا اتصل به نور القرآن ظهرت فيه أنواع من الطاعات والمعارف والأخلاق الحميدة، والروح الخبيثة الكدرة وإن اتصل به نور القرآن لم يظهر فيه من المعارف والأخلاق الحميدة إلا القليل.
والقول الثاني: أنه ليس المراد من الآية تمثيل المؤمن والكافر، وإنما المراد أن الأرض السبخة يقل نفعها وثمرتها، ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعا منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة. فمن طلب هذا النفع اليسير بالمشقة العظيمة، فلأن يطلب النفع العظيم الموعود به في الدار الآخرة بالمشقة التي لا بد من تحملها في أداء الطاعات، كان ذلك أولى.
قال الليث: النكد: الشؤم واللؤم وقلة العطاء.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقله، وتدبره بان أثره عليه، فشبه بالبلد الطيب الذي يمرع ويخصب، ويحسن أثر المطر عليه، فينبت من كل زوج كريم، والمعرض عن الوحي عكسه، والله الموفق.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانت الموت موتين: حسياً ومعنوياً -كما أشير إليه في الأنعام في آية {إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله} {أو من كان ميتاً فأحييناه} كان كأنه قيل: لا فرق في ذلك عندنا بين أموات الإيمان وأموات الأبدان، فكما أنا فاوتنا بين جواهر الأراضي بخلق بعضها جيداً وبعضها رديئاً كذلك فاوتنا بين عناصر الأناسي بجعل بعضها طيباً وبعضها خبيثاً، فالجيد العنصر يسهل إيمانه، والخبيث الأصل يعسر إذعانه وتبعد استقامته وإيقانه {والبلد الطيب} أي الذي طابت أرضه فكانت كريمة منبتة {يخرج نباته} أي إذا نزل عليه الماء خروجاً كثيراً حسناً سهلاً غزيراً {بإذن} أي بتمكين {ربه} أي المربي له بما هيأه له، والذي طاب في الجملة ولم يصل إلى الغاية يخرج له نبات دون ذلك، والخبيث لا يخرج له نبات أصلاً بمنع ربه له {والذي خبث} أي حصلت له خباثة في جبلته بكون أرضه سبخة أو نحوها مما لم يهيئه الله تعالى للإنبات {لا يخرج} أي نباته {إلا} أي حال كونه {نكداً} أي قليلاً ضعيف المنفعة، وهو- مع كونه دالاً على أن ذلك ما كان على ما وصف مع استواء الأراضي في الأصل واستواء المياه ونسبتها إلى الأفلاك والنجوم إلا بالفاعل المختار -مثل ضربه سبحانه للمؤمن والكافر عند سماعهما للذكر من الكتاب والسنة، والآية من الاحتباك. ولما استوت هذه الآيات على الذروة من بدائع الدلالات، كان السامع جديراً بأن يقول: هل تبين جميع هذه الآيات هذا البيان؟ فقيل: {كذلك} أي نعم، مثل هذا التصريف، وهو الترديد مع اختلاف الأنحاء لاختلاف الدلالات وإبرازها في قوالب الألفاظ الفائقة والمعاني الرائقة في النظوم المعجزة على وجوه لا تكاد تدخل تحت الحصر: {نصرف الآيات} أي كلها؛ ولما تم ذلك على هذا المنهاج الغريب والمنوال العجيب المذكر بالنعم في أسلوب دال على التفرد وتمام القدرة، كان أنسب الأشياء ختمه بقوله مخصصاً بها المنتفع لأنها بالنسبة إلى غيرهم كأنها لم توجد: {لقوم يشكرون*} أي يوجد منهم الشكر للنعم وجوداً مستمراً فلا يشركون بل ينتفعون بما أنعم عليهم به وحده في عبادته وحده، وينظرون بعقولهم أنه أقدرهم بنعمه على ما هم عاجزون عنه، فلا يسلبون عنه شيئاً من قدرته على بعث ولا غيره فإنهم يزعمون أنهم أهل معالي الأخلاق التي منها أنه ما جزاء الإحسان إلاّ الإحسان.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
التعبير أولاً بالطيب وثانياً بالذي خبث دون الخبيث للإيذان بأن أصل الأرض أن تكون طيبة منبتة وخلافه طارئ عارض.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ضرب الله إحياء البلاد بالمطر، مثلا لبعث البشر، ثم ضرب اختلاف إنتاج البلاد، مثلا لما في البشر في اختلاف الاستعداد، للغي والرشاد فقال:
{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا}
قال ابن عباس هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، أي والبر والفاجر، ومعناه أن الأرض منها الطيبة الكريمة التربة التي يخرج نباتها بسهولة، وينمي بسرعة ويكون كثير الغلة طيب الثمرة ومنها الخبيثة التربة كالحرة والسبخة التي لا يخرج نباتها على قلته وخبثه إن أنبتت إلا بعسر وصعوبة. قال الراغب: النكد كل شيء خرج إلى طالبه بتعسر، يقال رجل نكد ونكد (أي بفتح الكاف وكسرها) وناقة نكداء: طفيفة الدر صعبة الحلب وذكر الآية. وقوله والذي خبث حذف موصوفه أي والبلد الذي خبث وهو دون الخبيث في الخبث. فإن صيغة فعيل من الصيغ التي تدل على الصفات الكاملة الثابتة. والنكد قد يكون فيما دون هذا من الخبث. ومن دقة البلاغة في هذين التعبيرين دلالتهما على الترغيب في طلب الرسوخ في صفات الكمال، وتجنب أدنى الخبث والنقص، وبين ذلك درجات...
ومن اختبر الناس رأى أن المعروف يخرج من الطيبين عفوا بلا تكلف، وأن الخبيثين لا يخرج منهم الخير والمعروف ولا الحق الواجب عليهم إلا نكدا، بعد إلحاق أو إيذاء في الطلب أو إدلاء إلى الحكام ومراوغة في الخصام.
{كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُون} أي كذلك شأننا في هذا التصريف البديع المثال الموضح بالأمثال نصرف الآيات الدالة على علمنا وحكمتنا ورحمتنا بالإتيان بها على أنواع جلية تبين مرادنا لقوم يشكرون نعمنا، باستعمالها فيما تتم به حكمتنا، فيستحقون مزيدنا منها، وتثويبنا عليها.
عبر بالشكر في الآية التي موضوعها الاهتداء بالعلم والعمل والإرشاد، وبالتذكر في الآية التي موضوعها الاعتبار والاستدلال.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويختم السياق هذه الرحلة في أقطار الكون وأسرار الوجود، بمثل يضربه للطيب وللخبيث من القلوب. ينتزعه من جو المشهد المعروض، مراعاة للتناسق في المرائي والمشاهد، وفي الطبائع والحقائق: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً. كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون). والقلب الطيب يشبه في القرآن الكريم وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض الطيبة، وبالتربة الطيبة. والقلب الخبيث يشبه بالأرض الخبيثة وبالتربة الخبيثة. فكلاهما.. القلب والتربة.. منبت زرع، ومأتى ثمر. القلب ينبت نوايا ومشاعر، وانفعالات واستجابات، واتجاهات وعزائم، وأعمالاً بعد ذلك وآثاراً في واقع الحياة. والأرض تنبت زرعاً وثمراً مختلفاً أكله وألوانه ومذاقاته وأنواعه...
. والهدى والآيات والموعظة والنصيحة تنزل على القلب كما ينزل الماء على التربة. فإن كان القلب طيباً كالبلد الطيب، تفتح واستقبل، وزكا وفاض بالخير. وإن كان فاسداً شريراً -كالذي خبث من البلاد والأماكن- استغلق وقسا، وفاض بالشر والنكر والفساد والضر. وأخرج الشوك والأذى، كما تخرج الأرض النكدة!... (كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون). والشكر ينبع من القلب الطيب، ويدل على الاستقبال الطيب، والانفعال الطيب. ولهؤلاء الشاكرين الذين يحسنون التلقي والاستجابة تصرف الآيات. فهم الذين ينتفعون بها، ويصلحون لها، ويصلحون بها.. والشكر هو لازمة هذه السورة التي يتكرر ذكرها فيها.. كالإنذار والتذكير. وقد صادفنا هذا التعبير فيما مضى من السياق، وسنصادفه فيما هو آت.. فهو من ملامح السورة المميزة في التعبير، كالإنذار والتذكير...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى: كذلك نخرج الموتى وكذلك ينتفع برحمة الهدى من خُلقت فطرته طيّبة قابلة للهُدى كالبلد الطّيّب ينتفع بالمطر، ويحرم من الانتفاع بالهدى من خلقت فطرته خبيثة كالأرض الخبيثة لا تنتفع بالمطر فلا تنبت نباتاً نافعاً، فالمقصود من هذه الآية التّمثيل، وليسَ المقصود مجرّد تفصيل أحوال الأرض بعد نزول المطر، لأنّ الغرض المسوق له الكلام يجمع أمرين: العبرةَ بصنع الله، والموعظَة بما يماثل أحواله.