ثم حكى القرآن لوناً من ألوان مكرهم فقال : { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله } .
أى : وإذا جاءت أولئك المشركين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم " لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها " حجة قاطعة تشهد بصدقك يا محمد فيما تبلغه عن ربك ، قالوا حسدا لك ، لن نؤمن لك يا محمد حتى تعطى من الوحى والرسالة مثلما أعطى رسل الله ، وأضافوا الإيتاء إلى رسل الله ، لأنهم لا يعترفون بما أوتيه صلى الله عليه وسلم من الوحى والرسالة .
روى أن الوليد بن المغيرة قال للنبى صلى الله عليه وسلم : لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أولى بها منك لأنى أكبر منك سناً وأكثر مالا فأنزل الله هذه الآية " .
وقال مقاتل : نزلت فى أبى جهل وذلك أنه قال : زاحمنا بنو عبد المطلب فى الشرف حتى إذا صرنا كفرسى رهان قالوا : منا نبى يوحى إليه ، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحى كما يأتيه ، فأنزل الله هذه الآية " .
وقد رد الله - تعالى - على هؤلاء الحاسدين ردا حاسما فقال : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } أى : أن للرسالة موضوعا مخصوصا لا يصلح وضعها إلا فيه ، فمن كان مخصوصاً موصوفا بتلك الصفات لأجلها يصلح وضع الرسالة فيه كان رسولا وإلا فلا ، والعالم بتلك الصفات ليس إلا الله - تعالى - ثم قال : وفى هذه الجملة الكريمة تنبيه على دقيقة أخرى وهى أن أقل ما لا بد منه فى حصول النبوة والرسالة والبراءة عن المكر والغدر والغل والحسد ، وقوله { لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله } عين المكر والغدر والغل والحسد ، فكيف يعقل حصول النبوة والرسالة مع هذه الصفات " .
وهذه الجملة حجة لأهل الحق على أن الرسالة هبة من الله يختص بها من يشاء من عباده ، ولا ينالها أحد بكسبه ولا بذكائه ولا بنسبه .
ولذا قال الإمام الآلوسى : وجملة { الله أَعْلَمُ } . . . الخ . استئناف بيانى ، والمعنى : أن منصب الرسالة ليس مما ينال بما يزعمونه من كثرة المال والولد ، وتعاضد الأسباب والعدد ، وإنما ينال بفضائل نفسانية ، ونفس قدسية أفاضها الله - تعالى - بمحض الكرم والجود على من كمل استعداده " .
هذا . وقد وردت أحاديث كثيرة تحدث النبى صلى الله عليه وسلم فيها عن اصطفاء الله له وفضله عليه ، ومن ذلك ما رواه الإمام مسلم عن وائلة ابن الأسقع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله - عز وجل - اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من بنى إسماعيل بنى كنانة ، واصطفى من بنى كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بنى هاشم ، واصطفى من بنى هاشم محمدا صلى الله عليه وسلم " .
وروى الإمام أحمد عن المطلب عن أبى وداعة عن العباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله خلق الخلق فجعلنى فى خير خلقه ، وجعلهم فريقين ، فجعلنى فى خير فرقة ، وخلق القبائل فجعلنى فى خير قبيلة ، وجعلهم بيوتا ، فجعلنى فى خيرهم بيتا ، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا " .
ثم بين - سبحانه - عاقبة أولئك الماكرين الحاسدين للنبى - صلى الله عليه وسلم - على ما آتاه الله من فضله فقال : { سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } .
قال القرطبى ما ملخصه : الصغار : الضيم والذل والهوان . والمصدر الصغر بالتحريك - وأصله من الصغر دون الكبر فكأن الذل يصغر إلى المرء نفسه وقيل : أصله من الصغر وهو الرضا بالذل . والصاغر : الراضى بالذل . وأرض مصغرة : نبتها صغير لم يطل . ويقال : صغر - بالكسر - يصغر صغراً وصغاراً فهو صاغر إذا ذل وهان " .
والمعنى : سيصيب الذين أجرموا بعد تكبرهم وغرورهم وتطاولهم ذل عظيم وهوان شديد ثابت لهم عند الله فى الدنيا والآخرة ، وبسبب مكرهم المستمر ، وعدائهم الدائم لرسل الله وأوليائه .
والجملة الكريمة استئناف آخر ناع على أولئك الماكرين ما سيلقونه من ألوان العقوبات بعد ما نعى عليهم حرمانهم مما أنكره من إيتائهم مثل ما أوتى رسل الله ، والسين للتأكيد .
والعندية فى قوله " عند الله " مجاز عن حشرهم يوم القيامة ، أو عن حكمه سبحانه - وقضائه فيهم بذلك ، كقولهم : ثبت عند فلان القاضى كذا أى : فى حكمه ، ولذا قدم الصغار على العذاب لأنه يصيبهم فى الدنيا .
قال ابن كثير : ولما كان المرك غالبا إنما يكون خفيا ، وهو التلطف فى التحيل والخديعة ، قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقا ولا يظلم ربك أحداً . وجاء فى الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ينصب لكل غادر لواء عند إسته يوم القيامة فيقال : هذه غدرة فلان بن فلان " والحكمة فى ذلك أنه لما كان الغدر خفيا لا يطلع عليه الناس ، فيوم القيامة يصير علما منشوراً على صاحبه بما فعل " .
ثم يكشف السياق القرآني عن طبيعة الكبر في نفوس أعداء رسل الله ودينه . . الكبر الذي يمنعهم من الإسلام ؛ خيفة أن يرجعوا عباداً لله كسائر العباد ، فهم يطلبون امتيازاً ذاتياً يحفظ لهم خصوصيتهم بين الأتباع . ويكبر عليهم أن يؤمنوا للنبي فيسلموا له ، وقد تعودوا أن يكونوا في مقام الربوبية للأتباع ، وأن يشرعوا لهم فيقبلوا منهم التشريع ، وأن يأمروهم فيجدوا منهم الطاعة والخضوع . . من أجل ذلك يقولون قولتهم المنكرة الغبية كذلك : لن نؤمن حتى نؤتي مثلما أوتي رسل الله :
( وإذا جاءتهم آية قالوا : لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) .
وقد قال الوليد بن المغيرة : لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك ، لأني أكبر منك سنا ، وأكثر منك مالا ! وقال أبو جهل : والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً ، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه !
وواضح أن الكبر النفسي ، وما اعتاده الأكابر من الخصوصية بين الأتباع ، ومظهر هذه الخصوصية الأول هو الأمر منهم والطاعة والاتباع من الأتباع ! . . واضح أن هذا من أسباب تزيين الكفر في نفوسهم ، ووقوفهم من الرسل والدين موقف العداء .
ويرد الله على قولتهم المنكرة الغبية . . أولا بتقرير أن أمر اختيار الرسل للرسالة موكول إلى علمه المحيط بمن يليق بهذا الأمر الكوني الخطير . . ويرد عليهم ثانيا بالتهديد والتحقير وسوء المصير :
( الله أعلم حيث يجعل رسالته . سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) . .
إن الرسالة أمر هائل خطير . أمر كوني تتصل فيه الإرادة الأزلية الأبدية بحركة عبد من العبيد . ويتصل فيه الملأ الأعلى بعالم الإنسان المحدود . وتتصل فيه السماء بالأرض ، والدنيا بالآخرة ، ويتمثل فيه الحق الكلي ، في قلب بشر ، وفي واقع ناس ، وفي حركة تاريخ . وتتجرد فيها كينونة بشرية من حفظ ذاتها لتخلص لله كاملة ، لا خلوص النية والعمل وحده ، ولكن كذلك خلوص المحل الذي يملؤه هذا الأمر الخطير . فذات الرسول [ ص ] تصبح موصولة بهذا الحق ومصدره صلة مباشرة كاملة . وهي لا تتصل هذه الصلة إلا أن تكون من ناحية عنصرها الذاتي صالحة للتلقي المباشر الكامل بلا عوائق ولا سدود . .
والله وحده - سبحانه - هو الذي يعلم أين يضع رسالته ، ويختار لها الذات التي تنتدب من بين ألوف الملايين ، ويقال لصاحبها : أنت منتدب لهذا الأمر الهائل الخطير .
والذين يتطلعون إلى مقام الرسالة ؛ أو يطلبون أن يؤتوا مثل ما أوتي الرسول . . هم أولا من طبيعة لا تصلح أساساً لهذا الأمر . فهم يتخذون من ذواتهم محوراً للوجود الكوني ! والرسل من طبيعة أخرى ، طبيعة من يتلقى الرسالة مستسلماً ، ويهب لها نفسه ، وينسى فيها ذاته ، ويؤتاها من غير تطلع ولا ارتقاب : ( وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب ، إلا رحمة من ربك ) . . ثم هم بعد ذلك جهال لا يدركون خطورة هذا الأمر الهائل ، ولا يعلمون أن الله وحده هو الذي يقدر بعلمه على اختيار الرجل الصالح . .
( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) . .
وقد جعلها سبحانه حيث علم ، واختار لها أكرم خلقه وأخلصهم ، وجعل الرسل هم ذلك الرهط الكريم ، حتى انتهت إلى محمد خير خلق الله وخاتم النبيين .
ثم التهديد بالصغار والهوان على الله ، وبالعذاب الشديد المهين :
( سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) . .
والصغار عند الله يقابل الاستعلاء عند الأتباع ، والاستكبار عن الحق ، والتطاول إلى مقام رسل الله ! . .
والعذاب الشديد يقابل المكر الشديد ، والعداء للرسل ، والأذى للمؤمنين .
وقوله : { وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ } أي : إذا جاءتهم آية وبرهان وحجة قاطعة ، قالوا : { لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ } أي : حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة ، كما تأتي إلى الرسل ، كقوله ، جل وعلا { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [ لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ] {[11171]} } [ الفرقان : 21 ] .
وقوله : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } أي : هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه ، كما قال تعالى : { وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّك } الآية [ الزخرف : 31 ، 32 ] يعنون : لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير مبجل في أعينهم { مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ } أي : مكة والطائف . وذلك لأنهم - قبحهم الله - كانوا يزدرون بالرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، بغيًا وحسدًا ، وعنادًا واستكبارًا ، كما قال تعالى مخبرًا عنهم : { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ } [ الأنبياء : 36 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا } [ الفرقان : 41 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ الأنعام : 10 ] . هذا وهم يعترفون بفضله وشرفه ونسبه . وطهارة بيته ومرباه ومنشئه ، حتى أنهم كانوا يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه : " الأمين " ، وقد اعترف بذلك رئيس الكفار " أبو سفيان " حين سأله " هرقل " ملك الروم : كيف نسبه فيكم ؟ قال : هو فينا ذو نسب . قال : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال : لا الحديث بطوله الذي استدل به ملك الروم بطهارة{[11172]} صفاته ، عليه السلام ، على صدقه ونبوته وصحة ما جاء به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن مُصعب ، حدثنا الأوزاعي ، عن شَدَّاد أبي عمار ، عن واثلة بن الأسقع ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة ، واصطفى من بني كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم " .
انفرد بإخراجه مسلم من حديث الأوزاعي - وهو عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام ، به نحوه{[11173]} .
وفي صحيح البخاري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بُعِثت من خير قُرون بني آدم قَرْنًا فقرنًا ، حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه " {[11174]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو نُعَيم ، عن سفيان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث ابن نوفل ، عن المطلب بن أبي وداعة قال : قال العباس : بلغه صلى الله عليه وسلم بعضُ ما يقول الناس ، فصعد المنبر فقال : " من أنا ؟ " . قالوا : أنت رسول الله . قال : " أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه ، وجعلهم فرقتين{[11175]} فجعلني في خير فرقة ، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة . وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتًا ، فأنا خيركم بيتًا وخيركم نفسا " {[11176]} . صدق صلوات الله وسلامه عليه .
وفي الحديث أيضا المروي عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال لي جبريل : قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد ، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم " . رواه الحاكم والبيهقي{[11177]} . وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو بكر ، حدثنا عاصم ، عن زِرِّ بن حُبَيْش ، عن عبد الله بن مسعود [ رضي الله عنه ]{[11178]} قال : إن الله نظر في قلوب العباد ، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد ، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته . ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد ، فجعلهم وزراء نبيه ، يقاتلون على دينه ، فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن ، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيئ{[11179]} .
وقال أحمد : حدثنا شُجاع بن الوليد قال : ذكر قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن سلمان قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا سلمان ، لا تبغضني فتفارق دينك " . قلت : يا رسول الله ، كيف أبْغِضُك وبك هدانا الله ؟ قال : " تبغض العرب فتبغضني " {[11180]} .
وذكر{[11181]} ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية : ذُكِرَ عن محمد بن منصور الجواز ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي حسين قال : أبصر رجل ابن عباس وهو يدخل من باب المسجد فلما نظر إليه راعه ، فقال : من هذا ؟ قالوا : ابن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ }
وقوله تعالى : { سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ [ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ] }{[11182]} هذا وعيد شديد من الله وتهديد أكيد ، لمن تكبر عن اتباع رسله والانقياد لهم{[11183]} فيما جاؤوا به ، فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي الله { صَغَارٌ } وهو الذلة الدائمة ، لما{[11184]} أنهم استكبروا أعقبهم ذلك ذُلا كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] أي : صاغرين ذليلين حقيرين .
وقوله : { وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ } لما كان المكر غالبا إنما يكون خفيا ، وهو التلطف في التحيل والخديعة ، قوبلوا بالعذاب الشديد جزاء وفاقا ، { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [ الكهف : 49 ] ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [ الطارق : 9 ] أي : تظهر المستترات والمكنونات والضمائر . وجاء في الصحيحين ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يُنْصَب لكل غادر لواء عند اسُتِه يوم القيامة ، فيقال : هذه غَدْرة فلان ابن فلان " {[11185]} .
والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خَفِيَّا لا يطلع عليه الناس ، فيوم القيامة يصير عَلَمًا منشورًا على صاحبه بما فعل .
{ وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } يعني كفار قريش لما روي : أن أبا جهل قال زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يوحي إليه والله لا نرضى به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه ، فنزلت : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } استئناف للرد عليهم بأن النبوة ليست بالنسب والمال وإنما هي بفضائل نفسانية يخص الله سبحانه وتعالى بها من يشاء من عباده فيجتبي لرسالاته من علم أنه يصلح لها ، وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه . وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم { رسالته } { سيصيب الذين أجرموا صغار } ذل وحقارة بعد كبرهم . { عند الله } يوم القيامة وقيل تقديره من عند الله . { وعذاب شديد بما كانوا يمكرون } بسبب مكرهم أو جزاء على مكرهم .
{ وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ الله } .
عطف على جملة : { جعلنا في كلّ قرية أكابر مجرميها } [ الأنعام : 123 ] لأنّ هذا حديث عن شيء من أحوال أكابر مجرمي مكّة ، وهم المقصود من التّشبيه في قوله : { وكذلك جعلنا في كلّ قرية أكابر مجرميها . ومكّة هي المقصود من عموم كلّ قرية كما تقدّم ، فالضّمير المنصوب في قوله : { جاءتهم } عائدٌ إلى { أكابر مجرميها } [ الأنعام : 123 ] ، باعتبار الخاصّ المقصود من العموم ، إذ ليس قولُ : { لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتي رسل الله } بمنسوب إلى جميع أكابر المجرمين من جميع القرى .
والمعنى : إذا جاءتهم آية من آيات القرآن ، أي تُليت عليهم آية فيها دعوتهم إلى الإيمان . فعبّر بالمجيء عن الإعلام بالآية أو تلاوتها تشبيها للإعلام بمجيء الدّاعي أو المرسل . والمراد أنَّهم غير مقتنعين بمعجزة القرآن ، وأنَّهم يطْلبون معجزات عَيْنية مثل معجزة موسى ومعجزة عيسى ، وهذا في معنى قولهم : { فليأتنا بآية كما أرسل الأوّلون } [ الأنبياء : 5 ] لجهلهم بالحكمة الإلهيّة في تصريف المعجزات بما يناسب حال المرسل إليهم ، كما حكى الله تعالى : { وقَالوا لولا أنزل عليه آيات من ربّه قل إنَّما الآيات عند الله وإنَّما أنا نذير مبين أو لم يكفهم أنَّا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إنّ في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } [ العنكبوت : 50 ، 51 ] ؛ وقال النّبيء صلى الله عليه وسلم « ما من الأنبياء نبيء إلاّ أعطي من الآيات ما مِثْلُه آمنَ عليه البشر ، وإنَّما كان الّذي أوتيتُ وحياً أوحى الله إليّ » الحديث .
وأطلق على إظهار المعجزة لديهم بالإيتاء في حكاية كلامهم إذ قيل : { حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله } لأنّ المعجزة لمّا كانت لإقناعهم بصدق الرّسول عليه الصّلاة والسلام أشبهت الشّيء المعطى لهم .
ومعنى : { مثل ما أوتى رسل الله } مثل ما أتَى اللَّهُ الرّسلَ من المعجزات الّتي أظهروها لأقوامهم . فمرادهم الرّسل الّذين بَلغتهم أخبارهم . وقيل : قائل ذلك فريق من كبراء المشركين بمكّة ، قال الله تعالى : { بل يريد كل امرىء منهم أن يُؤتى صحفاً مُنَشَّرة } [ المدثر : 52 ] . روي أنّ الوليد بن المغيرة ، قال للنّبيء صلى الله عليه وسلم لو كانت النّبوءةُ لكنتُ أولى بها منكَ لأنّي أكبرُ منك سِنّا وأكثر مالاً وولداً ؛ وأنّ أبا جهل قال : زاحمَنا ( يعني بني مخزوم ) بنو عبد مناف في الشّرف ، حتّى إذا صرنا كفَرسَيْ رِهانٍ قالوا : مِنّا نبيء يُوحى إليه ، والله لا نرضى به ولا نتّبعه أبداً إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه . فكانت هذه الآية مشيرة إلى ما صدر من هذين ، وعلى هذا يكون المراد حتّى يأتينا وَحْي كما يأتي الرّسلَ .
أو يكون المراد برسل الله جميع الرّسل ، فعدلوا عن أن يقولوا مثل ما أوتي محمّد صلى الله عليه وسلم لأنّهم لا يؤمنون بأنّه يأتيه وحي .
ومعنى { نؤتى } على هذا الوجه نعطى مثل ما أعطي الرّسل ، وهو الوحي . أو أرادوا برسل الله محمّداً صلى الله عليه وسلم فعبّروا عنه بصيغة الجمع تعريضاً ، كما يقال : إنّ ناساً يقولون كذا ، والمراد شخص معيّن ، ومنه قوله تعالى : { كذبت قوم نوح المرسلين } [ الشعراء : 105 ] ونحوه ، ويكون إطلاقهم عليه : { رسل الله } تهكّماً به صلى الله عليه وسلم كما حكاه الله عنهم في قوله : { وقالوا يأيُّها الذي نُزِّل عليه الذكر إنَّك لمجنون } [ الحجر : 6 ] وقوله : { إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } [ الشعراء : 27 ] .
{ الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } .
اعتراض للردّ على قولهم : { حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله } على كلا الاحتمالين في تفسير قولهم ذلك .
فعلى الوَجه الأوّل : في معنى قولهم : { حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله } يكون قوله : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } ردّاً بأنّ الله أعلم بالمعجزات اللائقة بالقوم المرسَل إليهم ؛ فتكون { حيث } مجازاً في المكان الاعتباري للمعجزة ، وهم القوم الذين يُظهرها أحد منهم ، جُعلوا كأنَّهم مكان لظهور المعجزة . والرّسالات مطلقة على المعجزات لأنَّها شبيهة برسالة يرسلها الله إلى النّاس ، وقريب من هذا قول علماء الكلام : وجهُ دلالة المعجزة على صدق الرّسول صلى الله عليه وسلم أنّ المعجزة قائمة مقام قول الله : « صدق هذا الرسولُ فيما أخبر به عني » بأمارةِ أنِّي أخرق العادة دليلاً على تصديقه .
وعلى الوجه الثّاني : في معنى قولهم : { حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله } ، يكون قوله : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } ردّاً عليهم بأنّ الرّسالة لا تُعطى بسؤال سائِلها ، مع التّعريض بأنّ أمثالهم ليسوا بأهل لها ، فما صْدَقُ { حيث } الشّخصُ الّذي اصطفاه الله لرسالته .
و { حيث } هنا اسم دالّ على المكان مستعارة للمبعوث بالرّسالة ، بناء على تشبيه الرّسالة بالوديعة الموضوعة بمكان أمانة ، على طريقة الاستعارة المكنيّة . وإثباتُ المكان تخييل ، وهو استعارة أخرى مصرّحة بتشبيه الرّسل بمكان إقامة الرّسالة . وليست { حيث } هنا ظرفاً بل هي اسم للمكان مجرّد عن الظرفية ، لأنّ { حيث } ظرف متصرّف ، على رأي المحقّقين من النّحاة ، فهي هنا في محلّ نصب بنزع الخافض وهو الباء ، لأن { أعلم } اسم تفضيل لا ينصب المفعول ، وذلك كقوله تعالى : { إنّ ربّك هو أعلم من يضلّ عن سبيله } [ الأنعام : 117 ] كما تقدّم آنفاً .
وجملة { يجعل رسالته } صفة ل { حيث } إذا كانت { حيث } مجرّدة عن الظرفية . ويتعيّن أن يكون رابط جملة الصّفة بالموصوف محذوفاً ، والتّقدير : حيث يجعل فيه رسالاته .
وقد أفادت الآية : أنّ الرّسالة ليست ممّا يُنال بالأماني ولا بالتشهّي ، ولكن الله يعلم مَن يصلح لها ومن لا يصلح ، ولو علم من يصلح لها وأراد إرساله لأرسله ، فإنّ النّفوس متفاوتة في قبول الفيض الإلهي والاستعداد له والطّاقة على الاضطلاع بحمله ، فلا تصلح للرّسالة إلاّ نفس خُلقت قريبة من النّفوس الملكيّة ، بعيدة عن رذائل الحيوانية ، سليمة من الأدواء القلبية .
فالآية دالّة على أنّ الرّسول يُخلق خِلقة مناسبة لمراد الله من إرساله ، والله حين خلقه عالم بأنّه سَيرسله ، وقد يخلق الله نفوساً صالحة للرّسالة ولا تكون حكمةٌ في إرسال أربابها ، فالاستعداد مهيِّيء لاصطفاء الله تعالى ، وليس موجِبا له ، وذلك معنى قول بعض المتكلّمين : إنّ الاستعداد الذّاتي ليس بموجب للرّسالة خلافاً للفلاسفة ، ولعلّ مراد الفلاسفة لا يبعد عن مراد المتكلّمين . وقد أشار ابنُ سينا في « الإشارات » إلى شيء من هذا في النّمط التّاسع .
وفي قوله : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } بيان لعظيم مقدار النبي صلى الله عليه وسلم وتنبيه لانحطاط نفوس سادة المشركين عن نوال مرتبة النّبوءة وانعدام استعدادهم ، كما قيل في المثل « ليس بعُشِّكِ فادْرُجي » .
وقرأ الجمهور : { رسالاته } بالجمع وقرأ ابن كثير ، وحفص عن عاصم بالإفراد ولمّا كان المراد الجنس استوى الجمع والمفرد .
{ سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } .
استئناف ناشىء عن قوله : { ليمكروا فيها } [ الأنعام : 123 ] وهو وعيد لهم على مكرهم وقولهم : { لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله } .
فالمراد بالّذين أجرموا أكابر المجرمين من المشركين بمكّة بقرينة قوله : { بما كانوا يمكرون } فإنّ صفة المكر أثبتت لأكابر المجرمين في الآية السّابقة ، وذكرهم ب { الّذين أجرموا } إظهار في مقام الإضمار لأنّ مقتضى الظاهر أنّ يقال : سيصيبهم صغار ، وإنَّما خولف مقتضى الظاهر للإتيان بالموصول حتّى يوميء إلى علّة بناء الخبر على الصّلة ، أي إنَّما أصابهم صغار وعذاب لإجرامهم .
والصّغَار بفتح الصّاد الذلّ ، وهو مشتقّ من الصِّغَر ، وهو القماءة ونقصان الشيء عن مقدار أمثاله .
وقد جعل الله عقابهم ذلاّ وعذاباً : ليناسب كِبْرهم وعُتُوّهم وعصيانهم الله تعالى . والصّغار والعذاب يحصلان لهم في الدّنيا بالهزيمة وزوال السّيادة وعذاب القتل والأسر والخوف ، قال تعالى : { قُل هل تربصون بنا إلاّ إحدى الحسنيين ونحن نتربّص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا } [ التوبة : 52 ] وقد حصل الأمران يوم بدر ويوم أحُد ، فهلكت سادة المشركين ، وفي الآخرة بإهانتهم بين أهل المحشر ، وعذابهم في جهنم .
ومعنى { عند الله } أنَّه صغار مقدّر عند الله ، فهو صغار ثابت محقّق ، لأنّ الشّيء الّذي يجعله الله تعالى يحصل أثره عند النّاس كلّهم ، لأنَّه تكوين لا يفارق صاحبه ، كما ورد في الحديث : " إنّ الله إذا أحبّ عبداً أمر جبريل فأحبّه ثمّ أمر الملائكة فأحبّوه ثمّ يوضع له القبول عند أهل الأرض " فلا حاجة إلى تقدير ( مِنْ ) في قوله : { عند الله } ، ولا إلى جعل العندية بمعنى الحصول في الآخرة كما درج عليه كثير من المفسّرين .
والباء في : { بما كانوا يمكرون } سببيّة . و ( ما ) مصدريّة : أي بسبب مكرهم ، أي فعلهم المكر ، أو موصولة : أي بسبب الّذي كانوا يمكرونه ، على أنّ المراد بالمكر الاسم ، فيقدر عائدٌ منصوبٌ هو مفعول به محذوف .