التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{سَنَسِمُهُۥ عَلَى ٱلۡخُرۡطُومِ} (16)

ثم ختم هذه الآيات بأشد أنواع الوعيد لمن هذه صفاته فقال - تعالى - { سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم } .

أي : سنبين أمره ونوضحه توضيحا يجعل الناس يعرفونه معرفة تامة لا خفاء معها ولا لبس ولا غموض ، كما لا تخفى العلامة الكائنة على الخرطوم ، الذي يراد به هنا الأنف . والوسم عليه يكون بالنار .

أو سنلحق به عارا لا يفارقه ، بل يلازمه مدى الحياة ، وكان العرب إذا أرادوا أن يسبوا رجلا سبة قبيحة . . قد وُسِمَ فلان مِيسَمَ سوء . . أي : التصق به عار لا يفارقه ، كالسمة التي هي العلامة التى لا يمحى أثرها . .

وذكر الوسم والخرطوم فيه ما فيه من الذم ، لأن فيه جمعا بين التشويه الذي يترتب على الوسم السَّيِّئ ، وبين الإِهانة ، لأن كون الوسم في الوجه بل في أعلى جزء من الوجه وهو الأنف .

دليل على الإِذلال والتحقير .

ومما لا شك فيه أن وقع هذه الآيات على الوليد بن المغيرة وأمثاله ، كان قاصما لظهورهم ، ممزقا لكيانهم ، هادما لما كانوا يتفاخرون به من أمجاد زائفة ، لأنه ذم لهم من رب الأرض والسماء ، الذي لا يقول إلا حقا وصدقا .

كذلك كانت هذه الآيات تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ولأصحابه ، عما أصابهم من أذى ، من هؤلاء الحلافين بالباطل والزور ، المشائين بين الناس بالنميمة ، المناعين لكل خير وبر .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{سَنَسِمُهُۥ عَلَى ٱلۡخُرۡطُومِ} (16)

ومن ثم يجيء التهديد من الجبار القهار ، يلمس في نفسه موضع الاختيال والفخر بالمال والبنين ؛ كما لمس وصفه من قبل موضع الاختيال بمكانته ونسبه . . ويسمع وعد الله القاطع :

( سنسمه على الخرطوم ) . .

ومن معاني الخرطوم طرف أنف الخنزير البري . . ولعله هو المقصود هنا كناية عن أنفه ! والأنف في لغة العرب يكنى به عن العزة فيقال : أنف أشم للعزيز . وأنف في الرغام للذليل . . أي في التراب ! ويقال ورم أنفه وحمي أنفه ، إذا غضب معتزا . ومنه الأنفة . . والتهديد بوسمه على الخرطوم يحوي نوعين من الإذلال والتحقير . . الأولى الوسم كما يوسم العبد . . والثاني جعل أنفه خرطوما كخرطوم الخنزير !

وما من شك أن وقع هذه الآيات على نفس الوليد كان قاصما . فهو من أمة كانت تعد هجاء شاعر - ولو بالباطل - مذمة يتوقاها الكريم ! فكيف بدمغه بالحق من خالق السماوات والأرض . بهذا الأسلوب الذي لا يبارى . في هذا السجل الذي تتجاوب بكل لفظ من ألفاظه جنبات الوجود . ثم يستقر في كيان الوجود . . في خلود . .

إنها القاصمة التي يستأهلها عدو الإسلام وعدو الرسول الكريم صاحب الخلق العظيم . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{سَنَسِمُهُۥ عَلَى ٱلۡخُرۡطُومِ} (16)

قال تعالى هاهنا : { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ }

قال ابن جرير : سنبين أمره بيانًا واضحًا ، حتى يعرفوه ولا يخفى عليهم ، كما لا تخفى السمة على الخراطيم{[29187]} وهكذا قال قتادة : { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } شين لا يفارقه آخر ما عليه .

وفي رواية عنه : سيما{[29188]} على أنفه . وكذا قال السدي .

وقال العوفي ، عن ابن عباس : { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } يقاتل يوم بدر ، فيُخطم بالسيف في القتال . وقال آخرون : { سَنَسِمُهُ } سمة أهل النار ، يعني نسود وجهه يوم القيامة ، وعبر عن الوجه بالخرطوم . حكى ذلك كله أبو جعفر ابن جرير ، ومال إلى أنه لا مانع من اجتماع الجميع عليه في الدنيا والآخرة ، وهو مُتّجه .

وقد{[29189]} قال ابن أبي حاتم في سورة { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ } حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، حدثني الليث حدثني خالد عن{[29190]} سعيد ، عن عبد الملك بن عبد الله ، عن عيسى بن هلال الصدفي ، عن عبد الله بن عمرو ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن العبد يكتب مؤمنًا أحقابًا ثم أحقابا{[29191]} ثم يموت والله عليه ساخط . وإن العبد يكتب كافرًا أحقابًا ثم أحقابًا ، ثم يموت والله عليه{[29192]} راض . ومن مات هَمَّازًا لمَّازًا مُلَقّبا للناس ، كان علامته يوم القيامة أن يسميه الله على الخرطوم ، من كلا الشفتين " {[29193]} .


[29187]:- (4) في م: "على الخرطوم".
[29188]:- (1) في م: "سنسمه سيما".
[29189]:- (2) في م: "ولهذا".
[29190]:- (3) في م، أ، هـ: " بن" والصواب ما أثبتناه من المعجم الكبير للطبراني.
[29191]:- (4) في أ: "أحيانا ثم أحيانا".
[29192]:- (5) في م: "عنه".
[29193]:- (6) ورواه الطبراني في المعجم الكبير برقم (60) "القطعة المفقودة" والمعجم الأوسط برقم (3234) "مجمع البحرين" عن المطلب الأزدي، عن عبد الله بن صالح به. وقال في الأوسط: "لا يروى عن عبد الله بن عمرو إلا بهذا الإسناد، تفرد به الليث".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{سَنَسِمُهُۥ عَلَى ٱلۡخُرۡطُومِ} (16)

سنسمه بالكي على الخرطوم على الأنف ، وقد أصاب أنف الوليد جراحة يوم بدر فبقي أثره ، وقيل هو عبارة عن أن يذله غاية الإذلال ، كقولهم جدع أنفه رغم أنفه ، لأن السمة على الوجه سيما على الأنف شين ظاهر ، أو نسود وجهه يوم القيامة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{سَنَسِمُهُۥ عَلَى ٱلۡخُرۡطُومِ} (16)

استئناف بياني جواباً لسؤال ينشأ عن الصفات الذميمة التي وصفوا بها أن يسأل السامع : ما جزاء أصحاب هذه الأوصاف من الله على ما أتوه من القبائح والاجتراء على ربِّهم .

وضمير المفرد الغائب في قوله : { سنسمه } عائد إلى كُل حلاّف باعتبار لفظه وإن كان معناه الجماعات فإفراد ضميره كإفراد ما أضيف إليه { كلَّ } [ القلم : 10 ] من الصفات التي جاءت بحالة الإِفراد .

والمعنى : سنسم كل هؤلاء على الخراطيم ، وقد علمت آنفاً أن ذلك تعريض بمعيّن بصفة قوله : { أساطير الأولين } [ القلم : 15 ] وبأنه ذو مال وبنين .

و { الخرطوم } : أريد به الأنف . والظاهر أن حقيقة الخرطوم الأنف المستطيل كأنف الفيل والخنزير ونحوهما من كل أنف مستطيل . وقد خلط أصحاب اللّغة في ذكر معانيه خلطاً لم تتبين منه حقيقته من مجازه .

وذكر الزمخشري في « الأساس » معانيه المجازية ولم يذكر معناه الحقيقي ، وانبهم كلامه في « الكشاف » إلاّ أن قوله فيه : وفي لفظ { الخُرطوم } استخفاف وإهانة ، يقتضي أن إطلاقه على أنف الإِنسان مجاز مرسل ، وجزم ابن عطية : أن حقيقة الخرطوم مَخْطَمِ السَبع أي أنف مثل الأسد ، فإطلاق الخرطوم على أنف الإِنسان هنا استعارة كإِطلاق المِشفر وهو شفة البعير على شفة الإِنسان في قول الفرزدق :

فلو كنتَ ضبيّاً عرفتَ قرابتي *** ولكنَّ زنجيّ غَليظُ المشافر

وكإطلاق الجحفلة على شفة الإِنسان ( وهي للخيل والبغال والحمير ) في قول النابغة يهجو لبيد بنَ ربيعة :

ألا مَن مبلغٌ عني لبيداً *** أبا الوَرداء جَحْفَلةَ الأَتان

والوسم للإبل ونحوها ، جعل سِمة لها أنها من مملوكات القبيلة أو المالك المعيَّن .

فالمعنى : سنعامله معاملةً يُعرف بها أنه عبدُنا وأنه لا يغني عنه ماله وولده منا شيئاً .

فالوسم : تمثيل تتبعه كناية عن التمكن منه وإظهار عجزه .

وأصل ( نسمه ) نَوْسِمه مثل : يَعِد ويَصِل .

وذِكر الخرطوم فيه جمع بين التشويه والإِهانة فإن الوسم يقتضي التمكن وكونَه في الوجه إذلالاً وإهانة ، وكونه على الأنف أشد إذلالاً ، والتعبير عن الأنف بالخرطوم تشويه ، والضرب والوسم ونحوهما على الأنف كناية عن قوة التمكن وتمام الغلبة وعجز صاحب الأنف عن المقاومة لأن الأنف أبرز ما في الوجه وهو مجرى النفَس ، ولذلك غلَب ذكر الأنف في التعبير عن إظهار العزة في قولهم : شمخ بأنفه ، وهُو أشمّ الأنف ، وهُم شمّ العرانين ، وعبر عن ظهور الذلة والاستكانة بكسر الأنف ، وجَدْعِه ، ووقوعه في التراب في قولهم : رَغِم أنفه ، وعلَى رغْم أنفه ، قال جرير :

لما وَضَعْت على الفرزدق ميسَمي *** وعلى البعيث جَدَعْتُ أنفَ الأخطل

ومُعظم المفسرين على أن المعنيَّ بهذا الوعيد هو الوليد بن المغيرة . وقال أبو مسلم الأصفهاني في تفسيره قوله : { سنسمه على الخرطوم } هو ما ابتلاه الله به في نفسه وماله وأهله من سوء وذل وصغار . يريد : ما نالهم يوم بدر وما بعده إلى فتح مكة .

وعن ابن عباس معنى { سنسمه على الخرطوم } سنخطمه بالسيف قال : وقد خُطم الذي نزلت فيه بالسيف يوم بدر فلم يزل مخطوماً إلى أن مات ولم يعيّن ابن عباس من هو .

وقد كانوا إذا ضربوا بالسيوف قصدوا الوجوه والرؤوس . قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر لعمر بن الخطاب لما بلغه قول أبي حذيفة لئن لقيتُ العباس لألجمنَّه السيفَ ، فقال رسول الله : « يا أبا حفص أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف ؟ » .

وقيل هذا وعيد بتشويه أنفه يوم القيامة مثل قوله : { يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه } [ آل عمران : 106 ] وجعل تشويهه يومئذٍ في أنفه لأنه إنما بالغ في عداوة الرسول والطعن في الدين بسبب الأنفة والكبرياء ، وقد كان الأنف مظهر الكِبر ولذلك سمي الكِبر أنفة اشتقاقاً من اسم الأنف فجعلت شوهته في مظهر آثار كبريائه .