ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذه الآيات الدالة على سنن الله - تعالى - فى خلقه ، وعلى الحكم التى من أجلها ساق الله - تعالى - تلك القصص فى كتابه فقال - تعالى - :
{ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ . . . } .
قوله - تعالى - { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ . . . } إرشاد إلى أن الأمم إذا خلت من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، حلت بها المصائب والنكبات . .
ولولا : حرف تحضيض بمعنى هلا . والمقصود بالتحضيض هنا تحذير المعاصرين للنبى - صلى الله عليه وسلم - ومن سيأتى بعدهم من الوقوع فيما وقع فيه أهل القرون الماضية من ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، حتى لا يصيب اللاحقين ما أصاب السابقين .
والقرون : جمع قرن ، والمراد به الأمة من الناس الذين يجمعهم زمان واحد ، والراجح أن القرن مائة عام .
و { أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ } أى : أصحاب مناقب حميدة ، وخصال كريمة ، وعقول راجحة . . .
وأصل البقية : ما يصطفيه الإِنسان لنفسه من أشياء نفيسة يدخرها لينتفع بها ، ومنه قولهم : فلان من بقية القوم ، أى : من خيارهم وأهل الفضل فيهم ، قال الشاعر :
إن تذنبوا ثم تأتينى بقيتكم . . . فما على بذنب منكم فوت
وفى الأمثال : فى الزوايا خبايا ، وفى الرجال بقايا .
والفساد فى الأرض : يشمل ما يكون فيها من المعاصى واختلال الأحوال وارتكاب المنكرات والبعد عن الصراط المستقيم .
والمعنى : فلا وجد من أولئك الأقوام الذين كانوا من قبلكم ، رجال أصحاب خصال كريمة ، وعقول سليمة ، تجعلهم هذه الخصال وتلك العقول ينهون أنفسهم وغيرهم عن الإِفساد فى الأرض ، وعن انتهاك الحرمات ؟
كلا إنهم لم يكن فيهم هؤلاء الرجال الذين ينهون عن الفساد فى الأرض ، إلا عددا قليلا منهم أنجيناهم بسبب إيمانهم عن الفساد فى الأرض .
وفى هذا من التوبيخ لأهل مكة ولكل من تقاعس عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ما فيه ، لأن الله - تعالى - بين أن عذاب الاستئصال الذى حل بالظالمين السابقين ، كان من أسبابه عدم نهيهم عن الفساد فى الأرض .
قال الشوكانى : والاستثناء فى قوله { إِلاَّ قَلِيلاً . . . } منقطع ، أى : لكن قليلا ممن أنجينا منهم كانوا ينهون عن الفساد فى الأرض ، وقيل : هو متصل ، لأن فى حرف التحضيض معى النفى ، فكأنه قال : ما كان فى القرون أولو بقية ينهون عن الفساد فى الأرض ، إلا قليلا من أنجينا منهم ، ومن فى قوله { مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ } بيانية ، لأنه لم ينج إلا الناهون .
وقال ابن كثير : ولهذا أمر الله - تعالى - هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وأولئك هم المفلحون ، وفى الحديث : " إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه ، أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده " ولهذا قال : { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض . . . }
وقوله : { واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ .
. . } إشارة إلى أن هؤلاء القاعدين عن النهى عن الإِفساد فى الأرض ، قد استمروا على فجورهم وفسقهم دون أن يلتفتوا إلى خصال الخير ، وإلى سبيل الصلاح .
وأترفوا من الترف ومعناه التقلب فى نعم الله - تعالى - مع ترك شكره - سبحانه - عليها .
والمترف : هو الشخص الذى أبطرته النعمة ، فانغمس فى الشهوات والمعاصى ، وأعرض عن الأعمال الصالحة . .
والجملة الكريمة معطوفة على كلام مقدر يقتضيه الكلام ، والمعنى : أن هؤلاء الذين لم يكن فيهم أولو بقية ينهون عن الفساد فى الأرض إلا من استثنى ، قد استمروا فى طغيانهم واتبعوا ما أنعموا فيه من الثروة والعيش الهنئ والشهوت العاجلة ، فكفروا النعمة ، واستكبروا وفسقوا عن أمر ربهم ، وكانوا قوما مجرمين ، أى مصرين على ارتكاب الجرائم والمنكرات ، فحق عليهم العقاب الذى يستحقونه بسبب هذه السيئات .
يقول تعالى : فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير ، ينهون عما كان يقع بينهم من
الشرور والمنكرات والفساد في الأرض .
وقوله : { إِلا قَلِيلا } أي : قد وجد منهم من هذا الضرب قليل ، لم يكونوا كثيرا ، وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غِيَره ، وفجأة نِقَمه ؛ ولهذا أمر تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، كما قال تعالى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ آل عمران : 104 ] . وفي الحديث : " إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيّروه ، أوشك أن يَعُمَّهُم الله بعقاب " ؛ ولهذا قال تعالى : { فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ } .
وقوله : { وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ } أي : استمروا على ما هم فيه من المعاصي والمنكرات ، ولم يلتفتوا إلى إنكار أولئك ، حتى فَجَأهم العذابُ ، { وَكَانُوا مُجْرِمِينَ } .
{ فلولا كان } فهلا كان . { من القرون من قبلكم أولو بقيّةٍ } من الرأي والعقل ، أو أولو فضل وإنما سمي { بقية } لأن الرجل يستبقي أفضل ما يخرجه ، ومنه يقال فلان من بقية القوم أي من خيارهم ، ويجوز أن يكون مصدرا كالتقية أي ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من العذاب ، ويؤيده أنه قرئ { بقية } وهي المرة من مصدر بقاه يبقيه إذا راقبه . { ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممّن أنجينا منهم } لكن قليلا منهم أنجيناهم لأنهم كانوا كذلك ، ولا يصح اتصاله إلا إذا جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض . { واتبع الذين ظلموا ما أُترفوا فيه } ما أنعموا فيه من الشهوات واهتموا بتحصيل أسبابها وأعرضوا عما وراء ذلك . { وكانوا مجرمين } كافرين كأنه أراد أن يبين ما كان السبب لاستئصال الأمم السالفة ، وهو فشو الظلم فيهم واتباعهم للهوى وترك النهي عن المنكرات مع الكفر ، وقوله واتبع معطوف مضمر دل عليه الكلام إذ المعنى : فلم ينهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا وكانوا مجرمين عطف على { اتبع } أو اعترض . وقرئ " واتبع " أي وأتبعوا جزاء ما أترفوا فتكون الواو للحال ، ويجوز أن تفسر به المشهورة ويعضده تقدم الإنجاء .
{ لولا } هي التي للتحضيض - لكن يقترن بها هنا معنى التفجع والتأسف الذي ينبغي أن يقع من البشر على هذه الأمم التي لم تهتد ، وهذا نحو قوله : { يا حسرة على العباد }{[6535]} ، و { القرون من قبلكم } هم قوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكره ، والقرن من الناس : المقترنون في زمان طويل أكثره - فيما حد الناس - مائة سنة ، وقيل ثمانون وقيل غير ذلك إلى ثلاثين سنة ؛ والأول أرجح لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن إلى رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد »{[6536]} قال ابن عمر : يريد أنها تخرم ذلك القرن و { بقية } هنا يراد بها النظر والعقل والحزم والثبوت في الدين ، وإنما قيل : { بقية } لأن الشرائع والدول ونحوها - قوتها في أولها ثم لا تزال تضعف فمن ثبت في وقت الضعف فهو بقية الصدر الأول .
وقرأت فرقة : «بقية » بتخفيف الياء وهو رد فعيلة إلى فعلة{[6537]} ، وقرأ أبو جعفر وشيبة «بُقْية » بضم الباء وسكون القاف على وزن فُعلة .
و { الفساد في الأرض } هو الكفر وما اقترن به من المعاصي ، وهذه الآية فيها تنبيه لأمة محمد وحض على تغيير المنكر والنهي عن الفساد ثم استثنى الله تعالى القوم الذين نجاهم مع أنبيائهم وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم . و { قليلاً } نصب على الاستثناء وهو منقطع عند سيبويه ، والكلام عنده موجب ، وغيره يراه منفياً من حيث معناه أنه لم يكن فيهم أولو بقية .
وقرأ جمهور الناس «واتبعَ » على بناء الفعل للفاعل ، وقرأ حفص بن محمد : «واتبع » على بنائه للمفعول ، ورويت عن أبي عمرو{[6538]} .
و { ما أترفوا فيه } أي عاقبة ما نعموا به - على بناء الفعل للمفعول - والمترف : المنعم الذي شغلته ترفته عن الحق حتى هلك ومنه قول الشاعر :
تحيي رؤوس المترفين الصداد*** إلى أمير المؤمنين الممتاد{[6539]}