التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ} (279)

ثم هدد الله - تعالى كل من يتعامل بالربا تهديداً عنيفاً فقال : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } .

أي : فإن لم تتركوا الربا وأخذتم منه شيئاً بعد نهيكم عن ذلك ، فكونوا على علم ويقين بحرب كائنة من الله - تعالى - ورسوله ، ومن حاربه الله ورسوله لا يفلح أبدا .

وقوله : ( فأذنوا ) من أذن بالشيء يأذن إذا علمه . وقرئ ( فآذنوا ) من آذنهن الأمر وآذنه به : أعلمه إياه : أي اعلموا من لم ينته عن الربا بحرب من الله ورسوله .

وتنكير " حرب " للتهويل والتعظيم أي فكونوا على علم ويقين من أن حربا عظيمة ستنزل عليكم من الله وروسله .

قال بعضهم : والمراد المبالغة في التهديد دون نفس الحرب . وقال آخرون : المراد نفس الحرب بمعننى أن الإِصرار على عمل الربا إن كان من شخص وقدر عليه الإِمام قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من الحبس والتعزير إلى أن تظهر منه التوبة . وإن وقع ممن يكون له عسر وشوكة ، حاربه الإِمام كما يحارب الفئة الباغية ، وكما حارب أبو بكر الصديق ما نعى الزكاة وقال ابن عباس : من تعامل بالربا يستتاب فإن تاب فبها وإلا ضرب عنقه .

ثم بين - سبحانه - ما يجب عليهم عند توبتهم عن التعامل بالربا فقال : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } .

أي : وإن تبتم عن التعامل بالربا الذي يوجب الحرب عليكم من الله ورسوله ، فلكم رءوس أموالكم أي أصولها بأن تأخوذها ولا تأخذوا سواها ، وبذل كلا تكونون ظالمين لغرمائكم ولا يكونون ظالمين لكم ، لأن من أخذ رأس ماله بدون كان مقسطاً ومتفضلا ، ومن دفع ما عليه بدون إنقاص منه كان صادقا في معاملته .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ} (279)

275

فهذه صفحة الترغيب . . وإلى جوارها صفحة الترهيب . . الترهيب الذي يزلزل القلوب :

( فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) . .

يا للهول ! حرب من الله ورسوله . . حرب تواجهها النفس البشرية . . حرب رهيبة معروفة المصير ، مقررة العاقبة . . فأين الإنسان الضعيف الفاني من تلك القوة الجبارة الساحقة الماحقة ؟ !

ولقد أمر رسول الله [ ص ] عامله على مكة بعد نزول هذه الآيات التي نزلت متأخرة أن يحارب آل المغيرة هناك إذا لم يكفوا عن التعامل الربوي . وقد أمر [ ص ] في خطبته يوم فتح مكة بوضع كل ربا في الجاهلية - وأوله ربا عمه العباس - عن كاهل المدينين الذي ظلوا يحملونه إلى ما بعد الإسلام بفترة طويلة ، حتى نضج المجتمع المسلم ، واستقرت قواعده ، وحان أن ينتقل نظامه الاقتصادي كله من قاعدة الربا الوبيئة . وقال [ ص ] في هذه الخطبة :

" وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين . وأول ربا أضع ربا العباس " . . ولم يأمرهم برد الزيادات التي سبق لهم أخذها في حالة الجاهلية .

فالإمام مكلف - حين يقوم المجتمع الإسلامي - أن يحارب الذين يصرون على قاعدة النظام الربوي ، ويعتون عن أمر الله ، ولو اعلنوا أنهم مسلمون . كما حارب أبو بكر - رضي الله عنه - مانعي الزكاة ، مع شهادتهم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقامتهم للصلاة . فليس مسلما من يأبى طاعة شريعة الله ، ولا ينفذها في واقع الحياة !

على أن الإيذان بالحرب من الله ورسوله أعم من القتال بالسيف والمدفع من الإمام . فهذه الحرب معلنة - كما قال أصدق القائلين - على كل مجتمع يجعل الربا قاعدة نظامه الاقتصادي والاجتماعي . هذه الحرب معلنة في صورتها الشاملة الداهمة الغامرة . وهي حرب على الأعصاب والقلوب . وحرب على البركة والرخاء . وحرب على السعادة والطمأنينة . . حرب يسلط الله فيها بعض العصاة لنظامه ومنهجه على بعض . حرب المطاردة والمشاكسة . حرب الغبن والظلم . حرب القلق والخوف . . وأخيرا حرب السلاح بين الأمم والجيوش والدول . الحرب الساحقة الماحقة التي تقوم وتنشأ من جراء النظام الربوي المقيت . فالمرابون أصحاب رؤوس الأموال العالمية هم الذين يوقدون هذه الحروب مباشرة أو عن طريق غير مباشر . وهم يلقون شباكهم فتقع فيها الشركات والصناعات . ثم تقع فيها الشعوب والحكومات . ثم يتزاحمون على الفرائس فتقوم الحرب ! أو يزحفون وراء أموالهم بقوة حكوماتهم وجيوشها فتقوم الحرب ! أو يثقل عبء الضرائب والتكاليف لسداد فوائد ديونهم ، فيعم الفقر والسخط بين الكادحين والمنتجين ، فيفتحون قلوبهم للدعوات الهدامة فتقوم الحرب ! وأيسر ما يقع - إن لم يقع هذا كله - هو خراب النفوس ، وانهيار الأخلاق ، وانطلاق سعار الشهوات ، وتحطم الكيان البشري من أساسه ، وتدميره بما لا تبلغه أفظع الحروب الذرية الرعيبة !

إنها الحرب المشبوبة دائما . وقد اعلنها الله على المتعاملين بالربا . . وهي مسعرة الآن ؛ تأكل الأخضر واليابس في حياة البشرية الضالة ؛ وهي غافلة تحسب أنها تكسب وتتقدم كلما رأت تلال الإنتاج المادي الذي تخرجه المصانع . . وكانت هذه التلال حرية بأن تسعد البشر لو أنها نشأت من منبت زكي طاهر ؛ ولكنها - وهي تخرج من منبع الربا الملوث - لا تمثل سوى ركام يخنق أنفاس البشرية ، ويسحقها سحقا ؛ في حين تجلس فوقه شرذمة المرابين العالميين ، لا تحس آلام البشرية المسحوقة تحت هذا الركام الملعون !

لقد دعا الإسلام الجماعة المسلمة الأولى ، ولا يزال يدعو البشرية كلها إلى المشرع الطاهر النظيف ، وإلى التوبة من الإثم والخطيئة والمنهج الوبيء :

( وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم . لا تظلمون ولا تظلمون ) . .

فهي التوبة عن خطيئة . إنها خطيئة الجاهلية . الجاهلية التي لا تتعلق بزمان دون زمان ، ولا نظام دون نظام . . إنما هي الانحراف عن شريعة الله ومنهجه متى كان وحيث كان . . خطيئة تنشىء آثارها في مشاعر الأفراد وفي أخلاقهم وفي تصورهم للحياة . وتنشىء آثارها في حياة الجماعة وارتباطاتها العامة . وتنشىء آثارها في الحياة البشرية كلها ، وفي نموها الاقتصادي ذاته . ولو حسب المخدوعون بدعاية المرابين ، إنها وحدها الأساس الصالح للنمو الاقتصادي !

واسترداد رأس المال مجردا ، عدالة لا يظلم فيها دائن ولا مدين . . فأما تنمية المال فلها وسائلها الأخرى البريئة النظيفة . لها وسيلة الجهد الفردي . ووسيلة المشاركة على طريقة المضاربة وهي إعطاء المال لمن يعمل فيه ، ومقاسمته الربح والخسارة . ووسيلة الشركات التي تطرح أسهمها مباشرة في السوق - بدون سندات تأسيس تستأثر بمعظم الربح - وتناول الأرباح الحلال من هذا الوجه . ووسيلة إيداعها في المصارف بدون فائدة - على أن تساهم بها المصارف في الشركات والصناعات والأعمال التجارية مباشرة أو غير مباشرة - ولا تعطيها بالفائدة الثابتة - ثم مقاسمة المودعين الربح على نظام معين أو الخسارة إذا فرض ووقعت . . وللمصارف أن تتناول قدرا معينا من الأجر في نظير إدارتها لهذه الأموال . . ووسائل أخرى كثيرة ليس هنا مجال تفصيلها . . وهي ممكنة وميسرة حين تؤمن القلوب ، وتصح النيات على ورود المورد النظيف الطاهر ، وتجنب المورد العفن النتن الآسن !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ} (279)

يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بتقواه ، ناهيًا لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ } أي : خافوه وراقبوه فيما تفعلون { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } أي : اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال ، بعد هذا الإنذار { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : بما شرع الله لكم من تحليل البيع ، وتحريم الربا وغير ذلك .

وقد ذكر زيد بن أسلم ، وابن جُرَيج ، ومقاتل بن حيان ، والسدي : أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف ، وبني المغيرة من بني مخزوم ، كان بينهم ربا في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه ، طلبت ثقيف أن تأخذه منهم ، فتشاوروا{[4616]} وقالت بنو المغيرة : لا نؤدي الربا في الإسلام فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فقالوا : نتوب إلى الله ، ونذر ما بقي من الربا ، فتركوه كلهم .

وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار ، قال ابن جريج : قال ابن عباس : { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ } أي : استيقنوا بحرب من الله ورسوله . وتقدم من رواية ربيعة بن كلثوم ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : يقال يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب . ثم قرأ : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ }

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فمن كان مقيمًا على الربا لا ينزع عنه فحق{[4617]} على إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن نزع وإلا ضرب عنقه .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا هشام بن حسان ، عن الحسن وابن سيرين ، أنهما قالا والله إن هؤلاء الصيارفة لأكلة الربا ، وإنهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله ، ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم ، فإن تابوا وإلا وضع فيهم السلاح . وقال قتادة : أوعدهم الله بالقتل كما تسمعون ، وجعلهم بهرجا أينما أتوا{[4618]} ، فإياكم وما خالط هذه البيوع من الربا ؛ فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه ، فلا تلجئنكم إلى معصيته فاقة . رواه ابن أبي حاتم .

وقال الربيع بن أنس : أوعد الله آكل الربا بالقتل . رواه ابن جرير .

وقال السهيلي : ولهذا قالت عائشة لأم محبة ، مولاة زيد بن أرقم ، في مسألة العينة : أخبريه أن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل ، إلا أن يتوب ، فخصت الجهاد ؛ لأنه ضد قوله : { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } قال : وهذا المعنى ذكره كثير{[4619]} . قال : ولكن هذا إسناده إلى عائشة ضعيف .

ثم قال تعالى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ } أي : بأخذ الزيادة{[4620]} { وَلا تُظْلَمُونَ } أي : بوضع رؤوس الأموال أيضا ، بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص{[4621]} منه .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الحسين بن إشكاب ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن شيبان ، عن شبيب بن غرقدة البارقي ، عن سليمان بن الأحوص عن أبيه قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال : " ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله ، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب ، موضوع كله " كذا وجدته : سليمان بن الأحوص .

وقد قال ابن مردويه : حدثنا الشافعي ، حدثنا معاذ بن المثنى ، أخبرنا مسدد ، أخبرنا أبو الأحوص ، حدثنا شبيب بن غرقدة ، عن سليمان بن عمرو ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع ، فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون " {[4622]} .

وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أبي حُرَّة{[4623]} الرقاشي ، عن عمرو - هو ابن خارجة - فذكره .


[4616]:في جـ، أ، و: "فتشاجروا".
[4617]:في أ: "يحق".
[4618]:في جـ، أ، و: "أينما ثقفوا".
[4619]:في جـ، أ، و: "ذكره ابن بطال".
[4620]:في جـ، أ: "بأخذ الربا".
[4621]:في جـ، أ: "ولا نقصان".
[4622]:ورواه أبو داود في السنن برقم (3334) عن مسدد به، ورواه ابن ماجة في السنن برقم (3055) من طريق أبي الأحوص به.
[4623]:في جـ: "عن أبي حمزة".

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ} (279)

{ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } أي فاعلموا بها ، من أذن بالشيء إذا علم به ، وقرأ حمزة وعاصم في رواية ابن عياش " فآذنوا " أي فأعلموا بها غيركم ، من الأذن وهو الاستماع فإنه من طرق العلم ، وتنكير حرب للتعظيم وذلك يقتضي أن يقاتل المربي بعد الاستتابة حتى يفيء إلى أمر الله ، كالباغي ولا يقتضي كفره . روي : أنها لما نزلت قالت ثقيف لا يدي لنا بحرب الله ورسوله . { وإن تبتم } من الارتباء واعتقاد حله . { فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون } بأخذ الزيادة . { ولا تظلمون } بالمطل والنقصان ، ويفهم منه أنها إن لم يتوبوا فليس لهم رأس مالهم وهو سديد على ما قلناه ، إذ المصر على التحليل مرتد وماله فيء :

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ} (279)

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ( 279 )

ثم توعدهم تعالى إن لم يذروا الربا بحرب من الله ومن رسوله وأمته ، والحرب داعية القتل ، وروى ابن عباس أنه يقال يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب ، وقال ابن عباس أيضاً : من كان مقيماً( {[2731]} ) على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن نزع والإ ضرب عنقه ، وقال قتادة : أوعد الله أهل الربا بالقتل فجعلهم بهرجاً( {[2732]} ) أينما ثقفوا ، ثم ردهم تعالى مع التوبة إلى رؤوس أموالهم ، وقال لهم : { لا تَظلمون } في أخذ الربا { ولا تُظلمون } في أن يتمسك بشيء من رؤوس أموالكم ، فتذهب أموالكم .

ويحتمل أن يكون لا تظلمون في مطل ، لأن مطل الغني ظلم ، كما قال صلى الله عليه وسلم( {[2733]} ) .

فالمعنى أن يكون القضاء مع وضع الربا . وهكذا سنة الصلح ، وهذا أشبه شيء بالصلح ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشار على كعب بن مالك في دين ابن أبي حدرد بوضع الشطر ، فقال كعب : نعم يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للآخر : قم فاقضه ، فتلقى العلماء أمره بالقضاء سنة في المصالحات ، وقرأ الحسن «ما بقِيْ » بكسر القاف وإسكان الياء ، وهذا كما قال جرير : [ البسيط ]

هو الخليفةُ فارضوْا ما رَضَي لكُمُ . . . ماضي العَزِيمَةِ ما في حُكْمِهِ جَنَفُ( {[2734]} )

ووجهها أنه شبه الياء بالألف ، فكما لا تصل الحركة إلى الألف فكذلك لم تصل هنا إلى الياء ، وفي هذا نظر ، وقرأ أبو السمال من «الرّبُوْ » بكسر الراء المشددة وضم الباء وسكون الواو ، وقال أبو الفتح : شذ هذا الحرف في أمرين :

أحدهما الخروج من الكسر إلى الضم بناء لازماً( {[2735]} ) ، والآخر وقوع الواو بعد الضمة في آخر الاسم ، وهذا شيء لم يأت إلا في الفعل ، نحو يغزو ويدعو وأما ذو الطائية بمعنى الذي فشاذة جداً ، ومنهم من يغير واوها إذا فارق الرفع ، فيقول رأيت ذا قام ، ووجه القراءة أنه فخم الألف انتحاء بها الواو التي الألف بدل منها على حد قولهم ، الصلاة والزكاة وهي بالجملة قراءة شاذة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر والكسائي : «فأذنَوا » مقصورة مفتوحة الذال ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر : «فآذِنوا » ممدودة مكسورة الذال .

قال سيبويه : آذنت أعلمت ، وأذنت ناديت وصوت بالإعلام قال : وبعض يجري آذنت مجرى أذنت ، قال أبو علي : من قال : «فأذنوا » فقصر ، معناه فاعلموا الحرب من الله ، قال ابن عباس وغيره من المفسرين : معناه فاستيقنوا الحرب من الله تعالى .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه وهي عندي من الإذن ، وإذا أذن المرء في شيء فقد قرره وبنى مع نفسه عليه ، فكأنه قال لهم فقرروا الحرب بينكم وبين الله ورسوله ، ملزمهم من لفظ الآية أنهم مستدعو الحرب والباغون بها ، إذ هم الآذنون بها وفيها ، ويندرج في هذا المعنى الذي ذكرته علمهم بأنهم حرب وتيقنهم لذلك ، قال أبو علي : ومن قرأ «فآذنوا » فمد ، فتقديره فأعلموا من لم ينته عن ذلك بحرب ، والمفعول محذوف ، وقد ثبت هذا المفعول في قوله تعالى :

{ فقل آذنتكم على سواء }( {[2736]} ) [ الأنبياء : 109 ] وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم لا محالة ، قال : ففي إعلامهم ، وليس في علمهم إعلامهم غيرهم ، فقراءة المد أرجح ، لأنها أبلغ وآكد قال الطبري : قراءة القصر أرجح لأنها تختص بهم ، وإنما أمروا على قراءة المد بإعلام غيرهم .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والقراءتان عندي سواء لأن المخاطب في الآية محصور بأنه كل من لم يذر ما بقي من الربا ، فإن قيل لهم : «فأذنوا » فقد عمهم الأمر ، وإن قيل لهم : «فآذنوا » بالمد فالمعنى أنفسكم وبعضكم بعضاً ، وكأن هذه القراءة تقتضي فسحاً لهم في الارتياء والتثبت أي فأعلموا نفوسكم هذا ثم انظروا في الأرجح لكم ، ترك الربا أو الحرب( {[2737]} ) ، وقرأ جميع القراء «لا تَظلمون » بفتح التاء و «لا تُظلمون » بضمها( {[2738]} ) وقد مضى تفسيره .

وروى المفضل عن عاصم : لا «تُظلمون » بضم التاء في الأولى وفتحها في الثانية . قال أبو علي : وتترجح قراءة الجماعة فإنها تناسب قوله { فإن تبتم } في إسناد الفعلين إلى الفاعل فيجي «تظلمون » بفتح التاء أشكل بما قبله .


[2731]:- أي حريصا عليه، مداوما على استعماله، مستحلا له.
[2732]:- أي شيئا مباحا غير محترم.
[2733]:- حديث: (مطل الغني ظلم). متفق عليه عن أبي هريرة، وفي لفظ لبعضهم عنه: (المطل ظلم الغني).
[2734]:- الجَنَف: الميل والظلم. والشاهد في قوله: (مارضيْ) –بإسكان الياء، ومثله (ما بقي) في قوله الشاعر: لعمرك ما أخشى التَّصَعْلُكَ ما بَقِـيْ على الأرض قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الأبَاعِـراَ
[2735]:- أي: لا عارضا.
[2736]:- من الآية (109) من سورة الأنبياء.
[2737]:- وضح أبو (ح) في تفسيره: «البحر المحيط» 2-338 – الرأي في أصل الكلمة (فأذنوا) – فقال: «فآذنوا أمر من آذن الرباعي، بمعنى أعلم، مثل قوله تعالى: [فقل آذنتكم على سواء]، وقرأ باقي السبعة فأذنوا أمر من أذن الثلاثي مثل قوله: [لا يتكلّمون إلا من أذن له الرحمن]. ثم نقل كل ما ذكره ابن عطية عن ابن عباس وأبي علي والطبري.
[2738]:- يحتمل أن تكون الجملة حالا من ضمير (لكم)، أي فلكم رؤوس أموالكم غير ظالمين ولا مظلومين، والعامل في الحال ما في حرف الجر من معنى الفعل – ويحتمل أن تكون استئنافية، وإخبار منه تعالى بأنهم إذا اقتصروا على رؤوس أموالهم كان ذلك هو الإنصاف.