وقوله - تعالى - : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ . . . } كلام مستأنف ، جئ به على سبيل الاعتراض فى أثناء وصية لقمان لابنه ، لبيان سمو منزلة الوالدين ، ولأن القرآن كثيرا ما يقرن بين الأمر بوحدانية الله - تعالى ، والأمر بالإِحسان إلى الوالدين .
ومن ذلك قوله - تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً } وقوله - عز وجل - : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً } أى : أمرنا كل إنسان أن يكون بارا بأبويه ، وأن يحسن إليهما ، وأن يطيع أمرهما فى المعروف .
ثم بين - سبحانه - ما بذلته الأم من جهد يوجب الإِحسان إليهما فقال : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ } أى : حملته أمه فى بطنها وهى تزداد فى كل يوم ضعفا على ضعف ، بسبب زيادة وزنه ، وكبر حجمه ، وتعريضها لألوان من التعب خلال حمله ووضعه .
والوهن : الضعف . يقال : وهو فلان يهن وهنا : إذا ضعف . ولفظ " وهنا " حال من أمه بتقدير مضاف . أى : حملته أمه ذات وهن ، أو مصدر مؤكد لفعل هو الحال . أى : تهن وهنا . وقوله : { على وَهْنٍ } متعلق بمحذوف صفة للمصدر . أى : وهنا كائنا على وهن .
وقوله : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } بيان لمدة إرضاعه . والفصال : الفطام عن الرضاع . أى : وفطام المولود عن الرضاعة يتم بانقضاء عامين من ولادته ، كما قال - تعالى - : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } وهاتان الجملتان { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } جاءتا بعد الوصية بالوالدين عموما ، تأكيدا لحق الأم ، وبيانا لما تبذله من جهد شاق فى سبيل أولادها ، تستحق من أجله كل رعاية وتكريم وإحسان .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فقوله : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } كيف اعترض به بين المفسر والمفسر ؟
قلت : لما وصى بالوالدين : ذكر ما تكابده الأم وتعانيه من المشاق والمتاعب فى حمله وفصاله هذه المدة المتطاولة ، إيجابا للتوصية بالوالدة خصوصا وتذكيرا بحقها العظيم مفردا ، ومن ثم " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن قال له : من أبر ؟ قال : " أمك ثم أمك ثم أمك ، ثم قال بعد ذلك : " ثم أباك " " .
وقوله - سبحانه - : { أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير } بيان لما تستلزمه الوصية بالوالدين أى : وصينا الإِنسان بوالديه حسنا ، وقلنا له : اشكر لخالقكم فضله عليك ، بأن تخلص له العبادة والطاعة ، واشكر لوالديك ما تحملاه من أجلك من تعب ، بأن تحسن إليهما ، واعلم أن مصيرك إلى خالقك - عز وجل - وسيحاسبك على أعمالك ، وسيجازيك عليها بما تستحقه من ثواب أو عقاب .
وفي ظل نصيحة الأب لابنه يعرض للعلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق ؛ ويصور هذه العلاقة صورة موحية فيها انعطاف ورقة . ومع هذا فإن رابطة العقيدة مقدمة على تلك العلاقة الوثيقة :
( ووصينا الإنسان بوالديه ، حملته أمه وهنا على وهن ، وفصاله في عامين ، أن اشكر لي ولوالديك ، إلي المصير . وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ، وصاحبهما في الدنيا معروفا ، واتبع سبيل من أناب إلي . ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ) . .
وتوصية الولد بالوالدين تتكرر في القرآن الكريم ، وفي وصايا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولم ترد توصية الوالدين بالولد إلا قليلا . ومعظمها في حالة الوأد - وهي حالة خاصة في ظروف خاصة - ذلك أن الفطرة تتكفل وحدها برعاية الوليد من والديه . فالفطرة مدفوعة إلى رعاية الجيل الناشىء لضمان امتداد الحياة ، كما يريدها الله ؛ وإن الوالدين ليبذلان لوليدهما من أجسامهما وأعصابهما وأعمارهما ومن كل ما يملكان من عزيز وغال ، في غير تأفف ولا شكوى ؛ بل في غير انتباه ولا شعور بما يبذلان ! بل في نشاط وفرح وسرور كأنهما هما اللذان يأخذان ! فالفطرة وحدها كفيلة بتوصية الوالدين دون وصاة ! فأما الوليد فهو في حاجة إلى الوصية المكررة ليلتفت إلى الجيل المضحي المدبر المولي الذاهب في أدبار الحياة ، بعدما سكب عصارة عمره وروحه وأعصابه للجيل المتجه إلى مستقبل الحياة ! وما يملك الوليد وما يبلغ أن يعوض الوالدين بعض ما بذلاه ، ولو وقف عمره عليهما . وهذه الصورة الموحية : ( حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين )ترسم ظلال هذا البذل النبيل . والأم بطبيعة الحال تحتمل النصيب الأوفر ؛ وتجود به في انعطاف أشد وأعمق وأحنى وأرفق . . روى الحافظ أبو بكر البزار في مسنده - بإسناده - عن بريد عن أبيه أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها ، فسأل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] هل أديت حقها ? قال : " لا . ولا بزفرة واحدة " . هكذا . . ولا بزفرة . . في حمل أو في وضع ، وهي تحمله وهنا على وهن .
وفي ظلال تلك الصورة الحانية يوجه إلى شكر الله المنعم الأول ، وشكر الوالدين المنعمين التاليين ؛ ويرتب الواجبات ، فيجيء شكر الله أولا ويتلوه شكر الوالدين . . ( أن اشكر لي ولوالديك ) . . ويربط بهذه الحقيقة حقيقة الآخرة : ( إلي المصير )حيث ينفع رصيد الشكر المذخور .
ثم قَرَنَ بوصيته إياه بعبادة الله وحده البر بالوالدين . كما قال تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ الإسراء : 23 ] . وكثيرا ما يقرن تعالى بين ذلك في القرآن .
وقال هاهنا { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ } . قال مجاهد : مشقة وَهْن الولد .
وقال عطاء الخراساني : ضعفا على ضعف .
وقوله : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } أي : تربيته وإرضاعه بعد وضعه في عامين ، كما قال تعالى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [ البقرة : 233 ] .
ومن هاهنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ؛ لأنه قال تعالى في الآية الأخرى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا } [ الأحقاف : 15 ] .
وإنما يذكر تعالى تربيةَ الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلا ونهارًا ، ليُذكّر الولد بإحسانها المتقدم إليه ، كما قال تعالى : { وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [ الإسراء : 24 ] ؛ ولهذا قال : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } أي : فإني سأجزيك{[22952]} على ذلك أوفر الجزاء .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عبد الله بن أبي شيبة ، ومحمود بن غَيْلان قالا حدثنا عبيد الله ، أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق{[22953]} عن سعيد بن وهب قال : قدم علينا معاذ بن جبل ، وكان بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إني [ رسول ] {[22954]} رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم : أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا ، وأن تطيعوني لا آلوكم خيرًا ، وأن المصير إلى الله ، وإلى الجنة أو إلى النار ، إقامة فلا ظعن ، وخلود فلا موت .
{ ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا } ذات وهن أو تهن { وهنا على وهن } أي تضعف ضعفا فوق ضعف فإنها لا تزال يتضاعف ضعفها والجملة في موضع الحال ، وقرئ بالتحريك ويقال وهن يهن وهنا ووهن يوهن وهنا . { وفصاله في عامين } وفطامه في انقضاء عامين وكانت ترضعه في تلك المدة ، وقرئ " وفصله في عامين " وفيه دليل على أن أقصى مدة الرضاع حولان . { أن اشكر لي ولوالديك } تفسير ل { وصينا } أو علة له أو بدل من والديه بدل الاشتمال ، وذكر الحمل والفصال في البين اعتراض مؤكد للتوصية في حقها خصوصا ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام لمن قال من أبر أمك ثم " أمك ثم أمك ثم قال بعد ذلك أباك " . { إلي المصير } فأحاسبك على شكرك وكفرك .