ثم أمر بالقصد والاعتدال فى كل أموره فقال : { واقصد فِي مَشْيِكَ } أى وكن معتدلا فى مشيك ، بحيث لا تطبئ ولا تسرع . من القصد وهو التوسط فى الأمور .
{ واغضض مِن صَوْتِكَ } واخفض من صوتك فلا ترفعه إلا إذا استدعى الأمر رفعه ، فإن غض الصوت عند المحادثة فيه أدب وثقة بالنفس ، واطمئنان إلى صدق الحديث واستقامته .
وكان أهل الجاهلية يتفاخرون بجهارة الصوت وارتفاعه ، فنهى المؤمنون عن ذلك ، ومدح - سبحانه - الذين يخفضون أصواتهم فى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } وقوله - تعالى - { إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير } تعليل للأمر بخفض الصوت ، وللنهى عن رفعه بدون موجب .
أى : إن أقبح الأصوت وأبشعها لهو صوت الحمير ، فالجملة الكريمة حض على غض الصوت بأبلغ وجه وآكده ، حيث شبه - سبحانه الرافعين لأصواتهم فى غير حاجة إلى ذلك ، بأصوات الحمير التى هى مثار السخرية مع النفور منها .
وهكذا نجد أن لقمان قد أوصى ابنه بجملة من الوصايا السامية النافعة ، فقد أمره - أولا - بإخلاص العبادة لله - تعالى - ثم غرس فى قلبه الخوف من الله - عز وجل - ، ثم حضه على إقامة الصلاة ، وعلى الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، وعلى الصبر على الأذى ، ثم نهاه عن الغرور والتكبر والافتخار ، وعن رفع الصوت بدون مقتض لذلك . وبتفيذ هذه الوصايا ، يسعد الأفراد ، وترقى المجتمعات .
ومع النهي عن مشية المرح ، بيان للمشية المعتدلة القاصدة : واقصد في مشيك . . والقصد هنا من الاقتصاد وعدم الإسراف . وعدم إضاعة الطاقة في التبختر والتثني والاختيال . ومن القصد كذلك . لأن المشية القاصدة إلى هدف ، لا تتلكأ ولا تتخايل ولا تتبختر ، إنما تمضي لقصدها في بساطة وانطلاق .
والغض من الصوت فيه أدب وثقة بالنفس واطمئنان إلى صدق الحديث وقوته . وما يزعق أو يغلظ في الخطاب إلا سيء الأدب ، أو شاك في قيمة قوله ، أو قيمة شخصه ؛ يحاول إخفاء هذا الشك بالحدة والغلظة والزعاق !
والأسلوب القرآني يرذل هذا الفعل ويقبحه في صورة منفرة محتقرة بشعة حين يعقب عليه بقوله : ( إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) . . فيرتسم مشهد مضحك يدعو إلى الهزء والسخرية ، مع النفور والبشاعة . ولا يكاد ذو حس يتصور هذا المشهد المضحك من وراء التعبير المبدع ، ثم يحاول . . شيئا من صوت هذا الحمير . . !
وهكذ تنتهي الجولة الثانية ، بعدما عالجت القضية الأولى ، بهذا التنويع في العرض ، والتجديد في الأسلوب .
وقوله : { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } أي : امش مشيًا مقتصدا ليس بالبطيء المتثبط ، ولا بالسريع المفرط ، بل عدلا وسطًا بين بين .
وقوله : { وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ } أي : لا تبالغ في الكلام ، ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } قال مجاهد وغير واحد : إن أقبح الأصوات لصوت الحمير ، أي : غاية مَنْ رفع صوته أنه يُشَبه بالحمير في علوه ورفعه ، ومع هذا هو بغيض إلى الله تعالى . وهذا التشبيه في هذا بالحمير يقتضي تحريمه وذمه غاية الذم ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ليس لنا مثل السوء ، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه » .
وقال النسائي عند تفسير هذه الآية : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث ، عن جعفر بن ربيعة ، عن الأعرج ، {[22973]} عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه ]{[22974]} ( 10 ) قال : «إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله ، وإذا سمعتم نهيق الحمير{[22975]} فتعوذوا بالله من الشيطان ، فإنها رأت شيطانًا » .
وقد أخرجه بقية الجماعة سوى ابن ماجه ، من طرق ، عن جعفر بن ربيعة به ، {[22976]} وفي بعض الألفاظ : " بالليل " ، فالله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنّ أَنكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } .
يقول : وتواضع في مشيك إذا مشيت ، ولا تستكبر ، ولا تستعجل ، ولكن اتئد . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، غير أن منهم من قال : أمره بالتواضع في مشيه ، ومنهم من قال : أمره بترك السرعة فيه . ذكر من قال : أمره بالتواضع في مشيه :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ قال : التواضع .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ قال : نهاه عن الخيلاء . ذكر من قال : نهاه عن السرعة :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن عبد الله بن عقبة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، في قوله : وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ قال : من السرعة .
قوله : وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ يقول : واخفض من صوتك ، فاجعله قصدا إذا تكلمت ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ قال : أمره بالاقتصاد في صوته .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ قال : أخفض من صوتك .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : إنّ أنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ فقال بعضهم : معناه : إن أقبح الأصوات . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة وأبان بن تغلب ، قالا : حدثنا أبو معاوية عن جُوَيبر ، عن الضحاك إنّ أنْكَرَ الأصْوَاتِ قال : إن أقبح الأصوات لَصَوْتُ الحَمِيرِ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إنّ أنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ أي أقبح الأصوات لصوت الحمير ، أوّله زفير ، وآخره شهيق أمره بالاقتصاد في صوته .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، قال : سمعت الأعمش يقول : إنّ أنْكَرَ الأصْوَاتِ صوت الحمير .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن أشرّ الأصوات . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن يحيى بن واضح ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عكرمة والحكم بن عُتيبة إنّ أنْكَرَ الأصْوَاتِ قال : أشرّ الأصوات .
قال جابر : وقال الحسن بن مسلم : أشدّ الأصوات .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله إنّ أنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ قال : لو كان رفع الصوت هو خيرا ما جعله للحمير .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : إن أقبح أو أشرّ الأصوات ، وذلك نظير قولهم ، إذا رأوا وجها قبيحا ، أو منظرا شنيعا : ما أنكر وجه فلان ، وما أنكر منظره .
وأما قوله : لَصَوْتُ الحَمِيرِ فأضيف الصوت وهو واحد إلى الحمير وهي جماعة ، فإن ذلك لوجهين إن شئت ، قلت : الصوت بمعنى الجمع ، كما قيل لَذَهَبَ بسَمْعهمْ وإن شئت قلت : معنى الحمير : معنى الواحد ، لأن الواحد في مثل هذا الموضع يؤدّي عما يؤدّي عنه الجمع .
بعد أن بيّن له آداب حسن المعاملة مع الناس قفَّاها بحسن الآداب في حالته الخاصة ، وتلك حالتا المشي والتكلم ، وهما أظهر ما يلوح على المرء من آدابه .
والقصد : الوسط العَدل بين طرفين ، فالقصد في المشي هو أن يكون بين طرف التبختر وطرف الدبيب ويقال : قصد في مشيه . فمعنى { اقْصِدْ في مشيك } : ارتكب القصد .
والغَضُّ : نقص قوة استعمال الشيء . يقال : غَضَّ بصره ، إذا خفَّض نظره فلم يحدّق . وتقدم قوله تعالى { قل للمؤمنين يغُضُّوا من أبصارهم } في سورة النور ( 30 ) . فغض الصوت : جعله دون الجهر . وجيء ب { مِن } الدالة على التبعيض لإفادة أنه يغض بعضه ، أي بعضَ جهره ، أي ينقص من جُهُورته ولكنه لا يبلغ به إلى التخافت والسرار .
وجملة { إن أنكر الأصوات لصوتُ الحمير } تعليل علل به الأمر بالغض من صوته باعتبارها متضمنة تشبيهاً بليغاً ، أي لأن صوت الحمير أنكر الأصوات . ورفع الصوت في الكلام يشبه نهيق الحمير فله حظ من النكارة .
و { أنكَر : } اسم تفضيل في كون الصوت منكوراً ، فهو تفضيل مشتق من الفعل المبني للمجهول ومثله سماعي وغيرُ شاذ ، ومنه قولهم في المثل : « أشغل من ذات النِّحْيَيْنِ » أي أشد مشغولية من المرأة التي أُريدت في هذا المثل .
وإنما جمع { الحمير } في نظم القرآن مع أن { صوت } مفرداً ولم يقل الحمار لأن المعرف بلام الجنس يستوي مفرده وجمعُه . ولذلك يقال : إن لام الجنس إذا دخلتْ على جَمع أبطلت منه معنى الجَمْعِيَّة . وإنما أوثر لفظ الجمع لأن كلمة الحمير أسعد بالفواصل لأن من محاسن الفواصل والأسجاع أن تجري على أحكام القوافي ، والقافية المؤسسة بالواو أو الياء لا يجوز أن يرد معها ألف تأسيس فإن الفواصل المتقدمة من قوله { ولقد ءاتينا لقمان الحكمة } [ لقمان : 12 ] هي : حميد ، عظيم ، المصير ، خبير ، الأمور ، فخور ، الحمير . وفواصل القرآن تعتمد كثيراً على الحركات والمُدود والصيغ دون تماثل الحروف وبذلك تخالف قوافي القصائد . وهذا وفاء بما وعدتُ به عند الكلام على قوله تعالى { ولقد ءاتينا لقمان الحكمة } من ذكر ما انتهى إليه تتبعي لما أُثِر من حِكمة لقمان غير ما في هذه السورة وقد ذكر الألوسي في « تفسيره » منها ثمانياً وعشرين حكمة وهي :
قوله لابنه : أي بني ، إن الدنيا بحر عميق ، وقد غرق فيها أناس كثير فاجعل سفينتك فيها تقوى الله تعالى ، وحِشوها الإيمان ، وشراعها التوكل على الله تعالى لعلك أن تنجو ولا أراك ناجياً .
وقوله : من كان له من نفسه واعظ كان له من الله عز وجل حافظ ، ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله تعالى بذلك عزاً ، والذل في طاعة الله تعالى أقرب من التعزز بالمعصية .
وقوله : ضَرْبُ الوالد لولده كالسماد للزرع .
وقوله : يا بني إياك والدَّين فإنه ذل النهار وَهَمُّ الليل .
وقوله : يا بني ارجُ الله عز وجل رجاء لا يجرِّئك على معصيته تعالى ، وخَففِ الله سبحانه خوفاً لا يؤيسك من رحمته تعالى شأنه .
وقوله : من كَذب ذهب ماء وجهه ، ومَن ساء خلُقُه كثُر غمُّه ، ونقل الصخور من مواضعها أيسر من إفهام من لا يفهم .
وقوله : يا بني حَملْتُ الجندل والحديد وكلَّ شيء ثقيل فلم أحمل شيئاً هو أثقل من جار السوء ، وذقت المِرار فلم أذق شيئاً هو أمرّ من الفقر .
يا بني لا تُرسِلْ رسولك جاهلاً فإن لم تجد حكيماً فكن رسولَ نفسك .
يا بني ، إياك والكذب ، فإنه شَهي كلحم العصفور عما قليل يغلي صاحبه .
يا بني ، احضر الجنائز ولا تحضر العرس فإن الجنائز تذكرك الآخرة والعرس يشهيك الدنيا .
يا بني ، لا تأكل شِبَعاً على شِبَع فإن إلقاءك إياه للكلب خير من أن تأكله .
يا بني ، لا تكُن حُلواً فتُبلَعَ ولا تكن مُرّاً فتُلْفَظ .
وقوله لابنه : لا يأكل طعامك إلاَّ الأتقياء ، وشاور في أمرك العلماء .
وقوله : لا خير لك في أن تتعلمَ ما لم تَعْلَم ولَمّا تعملْ بما قد علمت فإن مثل ذلك مثل رجل احتطب حطباً فحمل حُزْمَة وذهب يحملها فعجز عنها فضم إليها أخرى .
وقوله : يا بني ، إذا أردت أن تواخي رجلاً فأغضبه قبل ذلك فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذَره .
وقوله : لتكن كلمتك طيبة ، وليكن وجهك بسطاً تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء .
وقوله : يا بني ، أنْزِل نفسك من صاحبك منزلة من لا حاجة له بك ولا بدّ لك منه .
يا بنيّ ، كن كمن لا يبتغي محمدَة الناس ولا يكسب ذمهم فنفسه منه في عناء والناس منه في راحة .
وقوله : يا بني ، امتنع بما يخرج من فيك فإنك ما سكتَّ سالم ، وإنما ينبغي لك من القول ما ينفعك .
وأنا أقفّي عليها ما لم يذكره الألوسي . فمن ذلك ما في « الموطأ » فيما جاء في طلب العلم من كتاب « الجامع » : مالك أنه بلغه أن لقمان الحكيم أوصى ابنه فقال : يا بني ، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور العلم كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء . وفيه فيما جاء في الصدق والكذب من كتاب وفيه فيما جاء في الصدق والكذب من كتاب « الجامع » أنه بلغه أنه قيل للقمان : ما بلغ بك ما نرى يريدون الفضل ؟ فقال : صدقُ الحديث ، وأداء الأمانة ، وترك ما لا يعْنيني .
وفي « جامع المستخرجة » للعتبي قال مالك : بلغني أن لقمان قال لابنه : يا بُني ليكنْ أول ما تفيد من الدنيا بعد خليل صالح امرأةً صالحة . وفي « أحكام القرآن » لابن العربي عن مالك : أن لقمان قال لابنه : يا بني إن الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون وهم إلى الآخرة سراعاً يذهبون ، وإنك قد استدبرت الدنيا منذ كنتَ واستقبلتَ الآخرة ، وإن داراً تسير إليها أقرب إليك من دار تخرج عنها .
وقال : ليس غنى كصحة ، ولا نعمة كطِيب نفْس . وقال : يا بني لا تجالس الفجار ولا تماشهم اتق أن ينزل عليهم عذاب من السماء فيصيبَك معهم ، وقال : يا بني ، جالس العلماء ومَاشِهِم عسى أن تنزل عليهم رحمة فتصيبك معهم . وفي « الكشاف » : أنه قال لرجل ينظر إليه : إن كنتَ تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق ، وإن كنتَ تراني أسود فقلبي أبيض . وأن مولاه أمره بذبحِ شاة وأن يأتيه بأطيب مضغتين فأتاه باللسان والقلب ، ثم أمره بذبح أخرى وأنْ ألْققِ منها أخبث مضغتين ، فألقى اللسان والقلب ؛ فسأله عن ذلك ، فقال : هما أطيب ما فيها إذا طابا وأخبث ما فيها إذا خبثا .
ودخل على داود وهو يسرد الدروع فأراد أن يسأله عماذا يصنع ، فأدركته الحكمة فسكت ، فلما أتمها داود لَبِسها وقال : نِعم لَبُوس الحرب أنتِ . فقال لقمان : الصمتُ حكمة وقليل فاعله . وفي « تفسير ابن عطية » : قيل للقمان : أيّ الناس شرّ ؟ فقال : الذي لا يبالي أن يراه الناس سيِّئاً أو مسيئاً .
وفي « تفسير القرطبي » : كان لقمان يفتي قبل مبعث داود فلما بعث داود قطع الفتوى . فقيل له ، فقال : ألا أكتفِي إذا كُفِيتُ . وفيه : إن الحاكم بأشدّ المنازل وكدرها يغشاه المظلوم من كل مكان إنْ يصبْ فبالحريِّ أن ينجو وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة . ومن يكن في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً . ومن يختر الدنيا على الآخرة تفتْه الدنيا ولا يُصب الآخرة . وفي « تفسير البيضاوي » : أن داود سأل لقمان : كيف أصبحتَ ؟ فقال : أصبحت في يَديْ غيري . وفي « درة التنزيل » المنسوب لفخر الدين الرازي : قال لقمان لابنه : إن الله رَضيني لك فلم يُوصني بكَ ولم يرضَك لي فأوصاك بي . وفي « الشفاء » لعياض : قال لقمان لابنه : إذا امتلأتْ المَعِدة نامت الفِكْرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة .
وفي كتاب « آداب النكاح » لقاسم بن يأمون التليدي الأخماسي{[324]} : أن من وصية لقمان : يا بني إنما مَثَل المرأة الصالحة كمثَل الدهن في الرأس يُليِّن العروق ويحسن الشعر ، ومَثَلها كمثل التاج على رأس الملك ، ومثلها كمثَل اللؤلؤ والجوهر لا يدري أحد ما قيمته . ومثَل المرأة السوء كمثل السَّيْل لا ينتهي حتى يبلغ منتهاه : إذا تكلمتْ أسمعت ، وإذا مشت أسرعت ، وإذا قعدت رفعت ، وإذا غضبت أسمعت . وكل داء يبرأ إلاَّ داء امرأة السوء .
يا بني ، لأن تساكن الأسد والأسْوَد{[325]} خير من أن تساكنها : تبكي وهي الظالمة ، وتحكم وهي الجائرة ، وتنطق وهي الجاهلة وهي أفعى بلدغها .
وفي « مجمع البيان » للطبرسي : يا بني ، سافر بسيفك وخُفّك وعمامتك وخبائك وسِقائك وخيوطك ومخرزك ، وتزود معك من الأدوية ما تنتفع به أنت ومن معك ، وكن لأصحابك موافقاً إلا في معصية الله عز وجل .
يا بني ، إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم في أمرك وأمورهم ، وأكثر التبسم في وجوههم ، وكن كريماً على زادك بينهم ، فإذا دعوك فأجبهم ، وإذا استعانوا بك فأعِنْهم ، واستعمِل طول الصمت وكثرة الصلاة ، وسَخاء النفس بما معك من دابّة أو ماء أو زاد ، وإذا استشهدوك على الحق فاشهَد لهم ، واجهد رأيك لهم إذا استشاروك ، ثم لا تعزم حتى تثبت وتنظر ، ولا تُجب في مشورة حتى تقوم فيها وتقعد وتنام وتأكل وتصلي وأنت مستعمل فكرتك وحكمتك في مشورته ، فإن من لم يمحض النصيحة من استشارة سلبه الله رأيه ، وإذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم ، فإذا رأيتهم يعملون فاعمل معهم ، واسمع لمن هو أكبر منك سنّاً . وإذا أمروك بأمر وسألوك شيئاً فقل نعم ولا تقل ( لا ) فإن ( لا ) عِيٌّ ولؤم ، وإذا تحيرتم في الطريق فأنزلوا ، وإذا شككتم في القصد فقفوا وتآمروا ، وإذا رأيتم شخصاً واحداً فلا تسألوه عن طريقكم ولا تسترشدوه فإن الشخص الواحد في الفلاة مُريب لعله يكون عين اللصوص أو يكون هو الشيطان الذي حيّركم . واحذروا الشخصين أيضاً إلا أن تروا ما لا أرى لأن العاقِل إذا أبصر بعينه شيئاً عرف الحق منه والشاهد يرى ما لا يرى الغائب .
يا بني إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرها لشيء ، صلِّها واسترح منها فإنها دَين ، وصلِّ في جماعة ولو على رأس زَجّ . وإذا أردتم النزول فعليكم من بقاع الأرض بأحسنها لوناً وألينها تربة وأكثرها عشباً . وإذا نزلت فصلّ ركعتين قبل أن تجلس ، وإذا أردت قضاء حاجتك فأبْعِد المذهب في الأرض . وإذا ارتحلت فصلّ ركعتين ثم ودّع الأرض التي حللتَ بها وسلّم على أهلها فإن لكل بقعة أهلا من الملائكة ، وإن استطعت أن لا تأكل طعاماً حتى تبتدىء فتتصدق منه فافعل . وعليك بقراءة كتاب الله لعله يعني الزبور ما دمت راكباً ، وعليك بالتسبيح ما دمت عاملاً عملاً ، وعليك بالدعاء ما دمت خالياً . وإياك والسير في أول الليل إلى آخره . وإياك ورفع الصوت في مسيرك . فقد استقصينا ما وجدنا من حكمة لقمان مما يقارب سبعين حكمة .