وبعد أن ذكر - سبحانه - جملة من نعمه التى أوجدها لعباده فى البر ، أتبع ذلك ببيان جانب من نعمه عليهم عن طريق خلقه للبحر ، فقال - تعالى - : { وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون }
ففى هذه الآية الكريمة بين - سبحانه - أربع نعم على عباده فى تسخير البحر لهم .
أما النعمة الأولى فتتجلى فى قوله - تعالى - { وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً } .
والطرى : ضد اليابس ، والمصدر الطراوة ، وفعله طَرُوَ بوزن خشن وقرب .
أى : وهو - سبحانه - وحده الذى ذلل لكم البحر ، بحيث مكنكم من الانتفاع به ، وأقدركم على الركوب عليه ، وعلى الغوص فيه ، وعلى الصيد منه ، لتأكلوا من أسماكه لحما . طريا غضا شهيا .
ووصف - سبحانه - لحم أسماكه بالطراوة ، لأن أكله فى هذه الحالة أكثر فائدة ، وألذ مذاقا ، فالمنة بأكله على هذه الحالة أتم وأكمل .
وقال بعض العلماء : وفى وصفه بالطراوة ، تنبيه إلى أنه ينبغى المسارعة إلى أكله ، لأنه يسرع إليه الفساد والتغير ، وقد أثبت الطب أن تناوله بعد ذهاب طراوته من أضر الأشياء ، فسبحان الخبير بخلقه ، ومعرفته ما يضر استعماله وما ينفع ، وفيه أيضا إيماء إلى كمال قدرته - تعالى - فى خلقه الحلو الطرى فى الماء المر الذى لا يشرب .
وقد كره العلماء أكل الطافى منه على وجه الماء ، وهو الذى يموت حتف أنفه فى الماء فيطفو على وجهه ، لحديث جابر - رضى الله عنه - عن النبى صلى الله عليه وسلم : " ما نضب عنه الماء فكلوا ، وما لفظه فكلوا ، وما طفا فلا تأكلوا " .
فالمراد من ميتة البحر فى الحديث : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " مالفظه البحر لا مامات فيه من غير آفة .
وقوله { وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } نعمة ثانية من نعم الله - تعالى - للإِنسان فى تسخير البحر له .
والحلية - بالكسر - اسم لما يتحلى به الناس . وجمعها حِلى وحُلى - بضم الحاء وكسرها - يقال : تحلت المرأة إذا لبست الحلى ، أى : ومن فوائد تسخير البحر لكم أنه سبحانه أقدركم على الغوص فيه ، لتستخرجوا منه ما يتحلى به نساؤكم كاللؤلؤ والمرجان وما يشبههما .
قال - تعالى - { مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تِكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } والتعبير بقوله - سبحانه - { تستخرجو . . } يشير إلى كثرة الإِخراج فالسين والتاء للتأكيد ، مثل استجاب بمعنى أجاب . كما يشير إلى أن من الواجب على المسلمين أن يباشروا بأنفسهم استخراج ما فى البحر من كنوز وألا يتركوا ذلك لأعدائهم .
وأسند - سبحانه - لباس الحلية إلى ضمير جمع الذكور فقال : { تلبسونها } على سبيل التغليب ، وإلا فإن هذه الحلية يلبسها النساء فى معظم الأحيان .
قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله { تلبسونها } أى : تلبسها نساؤكم ، وأسند الفعل إلى ضمير الرجال ، لاختلاطهم بهم ، وكونهم متبوعين ، أو لأنهم سبب لتزينهن ، فإنهن يتزين ليحسن فى أعين الرجال ، فكأن ذلك زينتهم ولباسهم .
والفوج الخامس من أفواج الخلق والأنعام في البحر الملح الذي لا يشرب ولا يسقي ، ولكنه يشتمل على صنوف من آلاء الله على الإنسان :
( وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا ، وتستخرجوا منه حلية تلبسونها ، وترى الفلك مواخر فيه ، ولتبتغوا من فضله ، ولعلكم تشكرون ) . .
ونعمة البحر وأحيائه تلبي كذلك ضرورات الإنسان وأشواقه . فمنه اللحم الطري من السمك وغيره للطعام . وإلى جواره الحلية من اللؤلؤ ومن المرجان ، وغيرهما من الأصداف والقواقع التي يتحلى بها أقوام ما يزالون حتى الآن . والتعبير كذلك عن الفلك يشي بتلبية حاسة الجمال لا بمجرد الركوب والانتقال : ( وترى الفلك مواخر فيه )فهي لفتة إلى متاع الرؤية وروعتها : رؤية الفلك( مواخر )تشق الماء وتفرق العباب . . ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام التوجيه القرآني العالي إلي الجمال في مظاهر الكون ، بجانب الضرورة والحاجة ، لنتملى هذا الجمال ونستمتع به ، ولا نحبس أنفسنا داخل حدود الضرورات والحاجات .
كذلك يوجهنا السياق - أمام مشهد البحر والفلك تشق عبابه - إلى ابتغاء فضل الله ورزقه ، وإلى شكره على ما سخر من الطعام والزينة والجمال في ذلك الملح الأجاج : ( ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ) .
يخبر تعالى عن تسخيره{[16354]} البحر المتلاطم الأمواج ، ويمتن على عباده بتذليله لهم ، وتيسيره للركوب فيه ، وجعله السمك والحيتان فيه ، وإحلاله{[16355]} لعباده لحمها حيها وميتها ، في الحل والإحرام{[16356]} وما يخلقه فيه من اللآلئ والجواهر النفيسة ، وتسهيله للعباد استخراجها من قرارها حلية يلبسونها ، وتسخيره البحر لحمل{[16357]} السفن التي تمخره ، أي : تشقه .
وقيل : تمخر الرياح ، وكلاهما صحيح بجؤجئها وهو صدرها المسنَّم - الذي أرشد العباد إلى صنعتها ، وهداهم إلى ذلك ، إرثا عن أبيهم نوح ، عليه السلام ؛ فإنه أول من ركب السفن ، وله كان تعليم صنعتها ، ثم أخذها الناس عنه قرنًا بعد قرن ، وجيلا بعد جيل ، يسيرون من قطر إلى قطر ، وبلد إلى بلد ، وإقليم إلى إقليم ، تجلب ما هنا إلى هنالك ، وما هنالك إلى هنا{[16358]} ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : نعمه وإحسانه .
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : وجدت في كتابي عن محمد بن معاوية{[16359]} البغدادي : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن [ عمر ، عن ]{[16360]} سُهَيل بن أبى صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة [ رفعه ]{[16361]} قال : كلم الله هذا البحر الغربي ، وكلم البحر الشرقي ، فقال للبحر الغربي : إني حامل فيك عبادًا من عبادي ، فكيف أنت صانع فيهم{[16362]} ؟ قال : أغرقهم . فقال : بأسك في نواحيك . وأحملهم على يدي . وحَرّمه الحلية والصيد . وكلم هذا البحر الشرقي فقال : إني حامل فيك عبادًا من عبادي ، فما أنت صانع بهم ؟ فقال : أحملهم على يدي ، وأكون لهم{[16363]} كالوالدة لولدها . فأثابه الحلية والصيد{[16364]} .
ثم قال البزار : لا نعلم من رواه عن سهيل غير عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر{[16365]} وهو منكر الحديث . وقد رواه سهيل عن النعمان بن أبي عياش{[16366]} عن عبد الله بن عمرو{[16367]} موقوفا{[16368]} .
{ وَهُوَ الّذِي سَخّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : والذي فعل هذه الأفعال بكم وأنعم عليكم أيها الناس هذه النعم ، الذي سخر لكم البحر ، وهو كلّ نهر ملحا ماؤه أو عذبا . لتَأْكُلُوا منْهُ لَحْما طرِيّا وهو السمك الذي يصطاد منه . وتَسْتَخْرِجُوا منْهُ حلْيَةً تَلْبَسُونَها وهو اللؤلؤ والمرجان . كما :
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : أخبرنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قوله : وَهُوَ الّذِي سَخّرَ البَحْرَ لتَأْكُلُوا منْهُ لَحْما طَرِيّا قال : منهما جميعا . وتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حلْيَةً تَلْبَسُونَهَا قال : هذا اللؤلؤ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْما طَرِيّا يعني حيتان البحر .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا حماد ، عن يحيى ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الملك ، قال : جاء رجل إلى أبي جعفر ، فقال : هل في حليّ النساء صدقة ؟ قال : لا ، هي كما قال الله تعالى : حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفُلْكَ يعني السفن ، مَوَاخرَ فِيهِ وهي جمع ماخرة .
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : مَوَاخرَ فقال بعضهم : المواخر : المواقر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمرو بن موسى القزاز ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا يونس ، عن الحسن ، في قوله : وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخرَ فِيهِ قال : المواقر .
حدثنا به عبد الرحمن بن الأسود ، قال : حدثنا محمد بن ربيعة ، عن أبي بكر الأصمّ ، عن عكرمة ، في قوله : وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخرَ فِيهِ قال : ما أخذ عن يمين السفينة وعن يسارها من الماء ، فهو المواخر .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي مكين ، عن عكرمة ، في قوله : وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخرَ فِيهِ قال : هي السفينة تقول بالماء هكذا ، يعني تشقه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح : وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخرَ فِيهِ قال : تجري فيه متعرضّة .
حدثني به محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخرَ فِيهِ قال : تمخر السفينة الرياح ، ولا تمخر الريحَ من السفن إلا الفلك العظامُ .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد نحوه ، غير أن الحرث قال في حديثه : ولا تمخر الرياح من السفن .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مَوَاخرَ قال : تمخر الريح .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخرَ فِيهِ تجري بريح واحدة ، مُقبلة ومُدبرة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : تجري مقبلة ومدبرة بريح واحدة .
حدثنا المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن يزيد بن إبراهيم ، قال : سمعت الحسن : وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخرَ فِيهِ قال : مقبلة ومدبرة بريح واحدة .
والمخْر في كلام العرب : صوت هبوب الريح إذا اشتدّ هبوبها ، وهو في هذا الموضع : صوت جري السفينة بالريح إذا عصفت وشقها الماء حينئذ بصدرها ، يقال منه : مخرت السفينة تمخر مخرا ومخورا ، وهي ماخرة ، ويقال : امتخرت الريح وتمخرتها : إذا نظرتَ من أين هبوبها وتسمّعت صوت هبوبها . ومنه قول واصل مولى ابن عيينة : كان يقال : إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح ، يريد بذلك : لينظر من أين مجراها وهبوبها ليستدبرها فلا ترجع عليه البول وتردّه عليه .
وقوله : وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يقول تعالى ذكره : ولتتصرّفوا في طلب معايشكم بالتجارة سخر لكم . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ قال : تجارة البرّ والبحر .
وقوله : وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ يقول : ولتشكروا ربكم على ما أنعم به عليكم من ذلك سخر لكم ما سخر من هذه الأشياء التي عدّدها في هذه الاَيات .
{ وهو الذي سخّر البحر } جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب والاصطياد والغوص . { لتأكلوا منه لحما طريا } هو السمك ، ووصفه بالطراوة لأنه أرطب اللحوم يسرع إليه الفساد فيسارع إلى أكله ، ولإظهار قدرته في خلقه عذبا طريا في ماء زعاق ، وتمسك به مالك والثوري على أن من حلف أن لا يأكل لحما حنث بأكل السمك . وأجيب عنه بأن مبنى الإيمان على العرف وهو لا يفهم منه عند الإطلاق ألا ترى أن الله تعالى سمى الكافر دابة ولا يحنث الخالق على أن لا يركب دابة بركوبه . { وتستخرجوا منه حلية تلبسونها } كاللؤلؤ والمرجان أي تلبسها نساؤكم ، فأسند إليهم لأنهن من جملتهم ولأنهن يتزين بها لأجلهم . { وترى الفلك } السفن . { مواخر فيه } جواري فيه تشقه بحيزومها ، من المخر وهو شق الماء . وقيل صوت جري الفلك . { ولتبتغوا من فضله } من سعة رزقه بركوبها للتجارة . { ولعلكم تشكرون } أي تعرفون نعم الله تعالى فتقومون بحقها ، ولعل تخصيصه بتعقيب الشكر لأنه أقوى في باب الأنعام من حيث أنه جعل المهالك سببا للانتفاع وتحصيل المعاش .