ثم حكى - سبحانه - الأسباب التى منعت بعض الناس من الإِيمان فقال : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً } .
والمراد بالناس : كفار مكة ومن حذا حذوهم فى الشرك والضلال والمراد بسنة الأولين : ما أنزله - سبحانه - بالأمم السابقة من عذاب بسبب إصرارها على الكفر والجحود .
والمعنى : وما منع الكفار من الإِيمان وقت أن جاءهم الهدى عن طريق نبيهم صلى الله عليه وسلم ومن أن يستغفروا ربهم من ذنوبهم ، إلا ما سبق فى علمنا ، من أنهم لا يؤمنون ، بل يستمرون على كفرهم حتى تأتيهم سنة الأولين ، أى : سنتنا فى إهلاكهم بعذاب الاستئصال بسبب إصرارهم على كفرهم .
ويجوز أن يكون الكلام على حذف مضاف ، و " أن " وما بعدها فى قوله { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ } فى تأويل فاعل الفعل { منع } .
والمعنى : وما منع الناس من الإيمان والاستغفار وقت مجئ الهدى إليهم ، إلا طلب إتيان سنة الأولين ، كأن يقولوا - كما حكى الله - تعالى - عن بعضهم : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } فسنة الأولين أنهم طلبوا من أنبيائهم تعجيل العذاب ، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر .
وقوله : { أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً } بيان لعذاب آخر ينتظرونه .
وكلمة { قُبُلا } قرأها عاصم والكسائى وحمزة - بضم القاف والباء - على أنها جمع قبيل وهو النوع فيكون المعنى : أو يأتيهم العذاب على صنوف وأنواع مختلفة ، ومن جهات متعددة يتلو بعضها بعضا .
وقرأها الباقون : { قِبَلا } - بكسر القاف وفتح الباء - بمعنى عيانا ومواجهة .
والمعنى : أو يأتيهم العذاب عيانا وجهارا ، وأصله من المقابلة ، لأن المتقابلين يعاين ويشاهد كل منهما الآخر .
وهى على القراءتين منصوبة على الحالية من العذاب .
فحاصل معنى الآية الكريمة أن هؤلاء الجاحدين لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا حين نزول العذاب الدنيوى بهم وهو ما اقتضته سنة الله - تعالى - فى أمثالهم ، أو حين نزول أصناف العذاب بهم فى الآخرة .
ثم يعرض الشبهة التي تعلق بها من لم يؤمنوا - وهم كثرة الناس - على مدار الزمان والرسالات :
( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين ، أو يأتيهم العذاب قبلا ) . .
فلقد جاءهم من الهدى ما يكفي للاهتداء . ولكنهم كانوا يطلبون أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم من هلاك - استبعادا لوقوعه واستهزاء - أو أن يأتيهم العذاب مواجهة يرون أنه سيقع بهم . وعندئذ فقط يوقنون فيؤمنون !
يخبر تعالى عن تمرد{[18290]} الكفرة في قديم الزمان وحديثه ، وتكذيبهم بالحق البين الظاهر مع ما يشاهدون من الآيات [ والآثار ]{[18291]} والدلالات الواضحات ، وأنه ما منعهم من اتباع ذلك إلا طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وعدوا به عيانًا ، كما قال أولئك لنبيهم : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ الشعراء : 187 ] ، وآخرون قالوا : { ائْتِنَا{[18292]} بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ العنكبوت : 29 ] ، وقالت قريش : { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ، { وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ الحجر : 7 ، 6 ] إلى غير ذلك [ من الآيات الدالة على ذلك ]{[18293]} .
ثم قال : { إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ } من غشيانهم بالعذاب وأخذهم عن آخرهم ، { أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا } أي : يرونه عيانًا مواجهة [ ومقابلة ]{[18294]} ،
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا مَنَعَ النّاسَ أَن يُؤْمِنُوَاْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىَ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبّهُمْ إِلاّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنّةُ الأوّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً } .
يقول عزّ ذكره : وما منع هؤلاء المشركين يا محمد الإيمان بالله إذ جاءهم الهدى بيان الله ، وعلموا صحة ما تدعوهم إليه وحقيقته ، والاستغفار مما هم عليه مقيمون من شركهم ، إلا مجيئهم سنتنا في أمثالهم من الأمم المكذبة رسلها قبلهم ، أو إتيانهم العذاب قُبُلا .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : أو يأتيهم العذاب فجأة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : أوْ يَأتِيَهُمُ العَذَابُ قُبُلاً قال فجأة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : معناه : أو يأتيهم العذاب عيانا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله أوْ يَأتِيَهُمُ العَذَابُ قُبُلاً قال : قبلاً معاينة ذلك القبل .
وقد اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته جماعة ذات عدد أوْ يَأْتِيَهُمْ العَذَابُ قُبُلاً بضمّ القاف والباء ، بمعنى أنه يأتيهم من العذاب ألوان وضروب ، ووجهوا القُبُل إلى جمع قبيل ، كما يُجمع القتيل القُتُل ، والجديد الجُدُد . وقرأ جماعة أخرى : «أوْ يَأْتِيَهُمْ العَذَابُ قِبَلاً » بكسر القاف وفتح الباء ، بمعنى أو يأتيهم العذاب عيانا من قولهم : كلمته قِبَلاً . وقد بيّنت
القول في ذلك في سورة الأنعام بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
{ وما منع الناس أن يؤمنوا } من الإيمان . { إذ جاءهم الهدى } وهو الرسول الداعي والقرآن المبين . { ويستغفروا ربهم } ومن الاستغفار من الذنوب . { إلا أن تأتيهم سنّة الأولين } إلا طلب أو انتظار أو تقدير أن تأتيهم سنة الأولين ، وهي الاستئصال فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه { أو يأتيهم العذاب } عذاب الآخرة . { قُبلاً } عيانا . وقرأ الكوفيون { قُبُلاً } بضمتين وهو لغة فيه أو جمع قبيل بمعنى أنواع ، وقرئ بفتحتين وهو أيضا لغة يقال لقيته مقابلة وقبلاً وقبلاً وقبلياً ، وانتصابه على الحال من الضمير أو { العذاب } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.