ثم حكى - سبحانه - معاذيرهم الواهية التى تدل على بلادة عقولهم ، وانتكاس أفكارهم ، وتفاهة شخصيتهم فقال - تعالى - : { قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا . . . } .
وقوله { بِمَلْكِنَا } قرأه نافع وعاصم - بفتح الميم وسكون اللام - أى : بأمرنا . وقرأه حمزة والكسائي { بِمِلْكِنَا } بكسر الميم وسكون اللام - أى : بطاقتنا : وقرأه الباقون - بضم الميم وسكون اللام - أى : بسلطاننا ، وهو مصدر مضاف لفاعله ومفعوله محذوف ، أى : بملكنا أمرنا .
أى : قال بنو إسرائيل لنبيهم موسى على سبيل الاعتذار الذى هو أقبح من ذنب : ما أخلفنا موعدك فعبدنا العجل بأمرنا وطاقتنا واختيارنا ، فقد كان الحال أكبر من أن يدخل تحت سلطاننا ، ولو خلينا بيننا وبين أنفسنا ولم يسول لنا السامرى ما سول لبقينا على العهد الذى عاهدناك عليه ، وهو أن نعبد الله - تعالى - وحده .
وقوله : { ولكنا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القوم فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري } حكاية لبقية ما قالوه من أعذار قبيحة .
ولفظ : " حملنا " قرأه ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم - بضم الحاء وتشديد الميم - على أنه فعل ونائب فاعل ، وقرأه الباقون - بفتح الحاء والميم - على أنه فعل وفاعل .
قال الآلوسى ما ملخصه : والمراد بالقوم : القبط ، والأوزار : الأحمال وتسمى بها الآثام ، وقصدوا بذلك ما استعاروه من القبط من الحلى فى عيد لهم قبل الخروج من مصر ، وقيل : استعاروه باسم العرس . وقيل : هى ما ألقاه البحر على الساحل مما كان على الذين غرقوا وهم فرعون وجنوده فأخذ بنو إسرائيل ذلك على أنه غنيمة مع أنها لم تكن حلالا لهم .
أى : قال بنو إسرائيل لموسى : ما أخلفنا عهدك بأمرنا ولكنا حملنا أثقالا وأحمالا من زينة القبط التى أخذناها منهم بدون حق { فَقَذَفْنَاهَا } فى النار بتوجيه من السامرى ، { فَكَذَلِكَ } أى : فكما ألقينا ما معنا { أَلْقَى السامري } ما معه من تلك الزينة .
قال ابن كثير : وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط ، فألقوها عنهم ، فعبدوا العجل ، فتورعوا عن الحقير ، وفعلوا الأمر الكبير .
عندئذ يعتذرون بذلك العذر العجيب ، الذي يكشف عن أثر الاستعباد الطويل ، والتخلخل النفسي والسخف العقلي : ( قالوا : ما أخلفنا موعدك بملكنا )فلقد كان الأمر أكبر من طاقتنا ! ( ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها ) . . وقد حملوا معهم أكداسا من حلي المصريات كانت عارية عند نسائهم فحملنها معهن . فهم يشيرون إلى هذه الأحمال . ويقولون : لقد قذفناها تخلصا منها لأنها حرام .
{ قَالُوا } أي : بنو إسرائيل في جواب ما أنبهم{[19466]} موسى وقرعهم : { مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } أي : عن قدرتنا واختيارنا .
ثم شرعوا يعتذرون بالعذر البارد ، يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حُلي القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم ، حين خرجوا من مصر ، { فَقَذَفْنَاهَا } أي : ألقيناها عنا . وقد تقدم في حديث " الفتون " أن هارون عليه السلام هو الذي كان أمرهم بإلقاء الحلي في حفرة فيها نار .
وفي رواية السُّدِّيّ ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس : إنما أراد هارون أن يجتمع الحُلي كله في تلك الحفيرة{[19467]} ويجعل حجرًا واحدًا . حتى إذا رجع موسى يرى{[19468]} فيه ما يشاء . ثم جاء [ بعد ]{[19469]} ذلك السامري فألقى عليها تلك القبضة التي أخذها من أثر الرسول ، وسأل هارون أن يدعو الله أن يستجيب له في دعوته ، فدعا له هارون - وهو لا يعلم ما يريد - فأجيب له{[19470]} فقال السامري عند ذلك : أسأل الله أن يكون عجلا . فكان عجلا له خُوار ، أي : صوت ، استدراجًا وإمهالا ومحنة واختبارًا ؛ ولهذا قالوا : { فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبادة بن البَخْتَريّ{[19471]} حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حَمَّاد عن سماك ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ؛ أن هارون مَرَّ بالسامري وهو ينحت العجل ، فقال له : ما تصنع ؟ فقال : أصنع ما يضر ولا ينفع فقال هارون : اللهم اعطه ما سأل على ما في نفسه ومضى هارون ، فقال{[19472]} السامري : اللهم إني أسألك أن يَخُور فَخَار ، فكان إذا خار سجدوا له ، وإذا خار رفعوا رؤوسهم .
ثم رواه من وجه آخر عن حماد وقال : [ أعمل ]{[19473]} ما ينفع ولا يضر .
فقالوا - أي : الضُّلال منهم ، الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه - : { هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } أي : نسيه هاهنا ، وذهب يتطلبه . كذا تقدم في حديث " الفتون " عن ابن عباس . وبه قال مجاهد .
وقال سِماك عن عكرمة عن ابن عباس : { فَنَسِيَ } أي : نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم .
وقال محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس فقالوا : { هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى } قال : فعكفوا عليه وأحبوه حبًّا لم يحبوا شيئًا قط يعني مثله ، يقول الله : { فَنَسِيَ } أي : ترك ما كان عليه من الإسلام يعني : السامري .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.