التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٖۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمۡعِهِمۡ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٞ} (29)

ثم بين - سبحانه - لونا آخر من ألوان كمال قدرته فقال : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ } .

والمراد بالآيات هنا : الدلائل والعلامات الواضحة الدالة على كمال قدرته - عز وجل - .

وقوله : { وَمَا بَثَّ } معطوف على { خَلْقُ السماوات والأرض } .

أى : ومن العلامات الناصعة الدالة على كمال قدرته - تعالى - خلقه للسموات وللأرض بتلك الصورة الباهرة التى نشاهدها بأعيننا ، وخلقه - أيضا - لما ث فيها من دابة ، ولما نشر وفرق فيهما من دواب لا يعلم عددها إلا الله - تعالى - .

والدابة : اسم لكل ما يدب على وجه الأرض أو غيرها . وظاهر الآية الكريمة يفيد وجود دواب فى السماوات .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم قال : { فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ } والدواب فى الأرض وحدها ؟ .

قلت : يجوز أن ينسب الشئ إلى جميع المذكور وإن كان متلبسا ببعضه كما يقال : بنو تميم فيهم شاعر مجيد ، أو شجاع بطل ، وإنما هو فخذ من أفخاذهم .

ويجوز أن يكون للملائكة - عليهم السلام - مشى مع الطيران ، فيوصفوا بالدبيب كما يوصف به الأناسى ، ولا يبعد أن يخلق - سبحانه - فى السماوات حيوانا يمشى فيها مشى الأناسى على الأرض ، سبحان الذى خلق ما نعلم وما لا نعمل من أصناف الخلق .

وقوله - تعالى - : { وَهُوَ على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ } بيان لكمال قدرته - عز وجل - .

أى : وهو - سبحانه - قادر قدرة تامة على جمع الخلائق يوم القيامة للحساب والجزاء .

كما قال - تعالى - فى آية أخرى : { قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٖۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمۡعِهِمۡ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٞ} (29)

ومن آياته خلق السماوات والأرض ، وما بث فيهما من دابة . وهو على جمعهم إذا يشاء قدير . وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ، ويعفو عن كثير . وما أنتم بمعجزين في الأرض ، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير . .

وهذه الآية الكونية معروضة على الأنظار ، قائمة تشهد بذاتها على ما جاء الوحي ليشهد به ، فارتابوا فيه واختلفوا في تأويله . وآية السماوات والأرض لا تحتمل جدلا ولا ريبة . فهي قاطعة في دلالتها ، تخاطب الفطرة بلغتها ، وما يجادل فيها مجادل وهو جاد . إنها تشهد بأن الذي أنشأها ودبرها ليس هو الإنسان ، ولا غيره من خلق الله . ولا مفر من الاعتراف بمنشىء مدبر . فإن ضخامتها الهائلة ، وتناسقها الدقيق ، ونظامها الدائب ، ووحدة نواميسها الثابتة . . كل أولئك لا يمكن تفسيره عقلاً إلا على أساس أن هناك إلهاً أنشأها ويدبرها . أما الفطرة فهي تتلقى منطق هذا الكون تلقياً مباشراً ، وتدركه وتطمئن إليه ، قبل ان تسمع عنه كلمة واحدة من خارجها !

وتنطوي آية السماوات والأرض على آية أخرى في ثناياها : ( وما بث فيهما من دابة ) . . والحياة في هذه الأرض وحدها - ودع عنك ما في السماوات من حيوات أخرى لا ندركها - آية اخرى . وهي سر لم ينفذ إلى طبيعته أحد ، فضلاً على التطلع إلى إنشائه . سر غامض لا يدري أحد من أين جاء ، ولا كيف جاء ، ولا كيف يتلبس بالأحياء ! وكل المحاولات التي بذلت للبحث عن مصدره أو طبيعته أغلقت دونها الستر والأبواب ؛ وانحصرت البحوث كلها في تطور الأحياء - بعد وجود الحياة - وتنوعها ووظائفها ؛ وفي هذا الحيز الضيق المنظور اختلفت الآراء والنظريات . فأما ما وراء الستر فبقي سراً خافياً لا تمتد إليه عين ، ولا يصل إليه إدراك . . إنه من أمر الله . الذي لا يدركه سواه .

هذه الأحياء المبثوثة في كل مكان . فوق سطح الأرض وفي ثناياها . وفي أعماق البحر وفي أجواز الفضاء - ودع عنك تصور الأحياء الأخرى في السماء - هذه الأحياء المبثوثة التي لا يعلم الإنسان منها إلا النزر اليسير ، ولا يدرك منها بوسائله المحدودة إلا القليل المشهور . هذه الأحياء التي تدب في السماوات والأرض يجمعها الله حين يشاء ، لا يضل منها فرد واحد ولا يغيب !

وبنو الإنسان يعجزهم أن يجمعوا سربا من الطير الأليف ينفلت من أقفاصهم ، أو سرباً من النحل يطير من خلية لهم !

وأسراب من الطير لا يعلم عددها إلا الله . وأسراب من النحل والنمل وأخواتها لا يحصيها إلا الله . وأسراب من الحشرات والهوام والجراثيم لا يعلم مواطنها إلا الله . وأسراب من الأسماك وحيوان البحر لا يطلع عليها إلا الله . وقطعان من الأنعام والوحش سائمة وشاردة في كل مكان . وقطعان من البشر مبثوثة في الأرض في كل مكان . . ومعها خلائق أربى عدداً وأخفى مكاناً في السماوات من خلق الله . . كلها . . كلها . . يجمعها الله حين يشاء . .

وليس بين بثها في السماوات والأرض وجمعها إلا كلمة تصدر . والتعبير يقابل بين مشهد البث ومشهد الجمع في لمحة على طريقة القرآن ؛ فيشهد القلب هذين المشهدين الهائلين قبل أن ينتهي اللسان من آية واحدة قصيرة من القرآن !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٖۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمۡعِهِمۡ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٞ} (29)

يقول تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ : } الدالة على عظمته وقدرته العظيمة وسلطانه القاهر { خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا } أي : ذرأ فيهما ، أي : في السموات والأرض ، { مِنْ دَابَّةٍ } وهذا يشمل الملائكة والجن والإنس وسائر الحيوانات ، على اختلاف أشكالهم وألوانهم ولغاتهم ، وطباعهم وأجناسهم ، وأنواعهم ، وقد فرقهم في أرجاء أقطار الأرض والسموات ، { وهو } مع هذا كله { عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ } أي : يوم القيامة يجمع الأولين والآخرين وسائر الخلائق في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، فيحكم فيهم بحكمه العدل الحق .