ثم وجه القرآن نداء عاما إلى المؤمنين نهاهم فيه عما كان شائعا فى الجاهلية من ظلم للنساء ؛ وإهدار لكرامتهن ، وأمرهم بحسن معاشرتهن ، وبعدم أخذ شئ من حقوقهن فقال - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين . . . . . مِّيثَاقاً غَلِيظاً } .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ( 19 ) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ( 20 ) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ( 21 )
قال القرطبى عند تفسيره للآية الأولى : اختلفت الروايات وأقوال المفسرين فى سبب نزولها ؛ فروى البخارى عن ابن عباس قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاءوا زوجوها ، وإن شاءوا لم يزوجوها ، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } .
وقال الزهرى وأبو مجلز : كان من دعاتهم إذا مات الرجل يلقى ابنه من غيرها أو أقرب عصبة ثوبه على المرأة فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها ، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذى أصدقها الميت . وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا ، وإن شاء عضلها لتفتدى منه بما ورثته من الميت أو تموت فيرثها . فأنزل الله هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } . الآية .
وقيل : كان يكون عند الرجل عجوز ونفسه تتوق إلى الشابة فيكره فراق العجوز لمالها فيمسكها ولا يقربها حتى تفتدى منه بمالها أو تموت فيرث مالها فنزلت هذه الآية .
ثم قال القرطبى : والمقصود من الآية إذهاب ما كانوا عليه فى جاهليتهم ، وألا تجعل النساء كالمال يورثن عن الرجال كما يورث المال . .
وهناك روايات أخرى فى سبب نزول هذه الآية هذه الآية ساقها ابن جرير وابن كثير وغيرهما ، وهى قريبة فى معناها ، مما أورده القرطبى ، لذا اكتفينا بما ساقه القرطبى .
وكلمة { كَرْهاً } قرأها حمزة والكسائى بضم الكاف . وقرأها الباقون بفتحها قال الكسائى : وهما لغتان بمعنى واحد . وقال الفراء : الكره - بفتح الكاف - بمعنى الإِكراه . وبالضم بمعنى المشقة . فما أكره عليه الإِنسان فهو كره - بالفتح - وما كان من جهة نفسه فهو كره - بالضم - .
والمعنى : يأيها الذين آمنوا وصدقوا بالحق الذى جاءهم من عند الله ، لا يحل لكم أن تأخذوا نساء موتاكم بطريق الإِرث وهو كارهات لذلك أو مكرهات عليه ، لأن هذا الفعل من أفعال الجاهلية التي حرمها الإِسلام لما فيها من ظلم للمرأة وإهانة لكرامتا .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : " كانوا يبلون النساء بضروب من البلايا ، ويظلموهن بأنواع من الظلم ، فزجروا عن ذلك . فقيل : { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } أى : أن تأخذوهن على سبيل الإرث كما تحاز المواريث وهن كارهات لذلك أو مكروهات .
وقد وجه - سبحانه - النداء إلى المؤمنين فقال : { أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } ليعم الخطاب جميع الأمة ، فيأخذ لك مكلف فيها بحظه منه سواء أكان هذا المكلف من أولياء المرأة أم من الأزواج أم من الحكام من غيرهم . وفى مخاطبتهم بصفة الإِيمان تحريك لحرارة العقيدة فى قلوبهم ، وتحريض لهم على الاستجابة إلى ما يقتضيه الإِيمان من طاعة لشريعة الله - تعالى - .
وصيغة { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ } صيغة تحريم صريح ؛ لأن الحل هو الإِباحة فى لسان العرب ولسان الشريعة . فنفيه يراجف معنى التحريم .
وليس النهى فى قوله : { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } منصبا على إرث أموالهن كما هو المعتاد ، وإنما النهى منصب على إرث المراة ذاتها كما كانوا يفعلون فى الجاهلية ؛ إذ كانوا يجعلون ذات المرأة كالمال فيرثونها من قريبهم كما يرثون ماله .
وقوله { كَرْهاً } مصدر منصوب على أنه حال من النساء . أى حال كونهن كارهات لذلك أو مكروهات عليه .
والتقييد بالكره لا يدل على الجواز عند عدمه ، لأن تخصيص الشئ بالذكر لا يدل على نفى ما عداه ، كما فى قوله - تعالى - : { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } وقوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ُلِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } نهى آخر عن بعض الأعمال السيئة التى كان أهل الجاهلية يعاملون بها المرأة . وهو معطوف على قوله : { أَن تَرِثُواْ . . . } . وأعيد حرف " لا " للتوكيد .
أى : لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ، ولا يحل لكم أن تعضلوهن .
وأصل العضل : التضييق والحبس والمنع . يقال : عضلت الناقة بولدها ، إذا نشب فى بطنها وتعسر عليه الخروج . وهو : أعضل به الأمر ، إذا اشتد وتعسر .
والمراد به هنا : منع المرأة من الزواج والتضييق عليها فى ذلك ، سواء أكان هذا المنع والتضييق من الزوج أم من غيره .
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : قوله - تعالى - : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } .
يقول : ولا تقهروهن لتذهبوا ببعض ما آيتموهن ، يعنى الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر فيؤذيها لتفتدى - أى : لتفتدى نفسها منه بأن تترك له مالها عليه من مهر أو مال - .
وقيل : كان أولياء الميت يمنعون زوجته من التزوج بمن شاءت ، ويتركونها على ذلك حتى تدفع لهم ما أخذت من ميراث الميت ، أو حتى تموت فيرثوها .
والمعنى : لا يحل لكم - أيها المؤمنون - أن ترثوا النساء كرها ، ولا أن تمنعوهن من الزواج { لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ } من الصداق أو غيره ، بأن يدفعن إليكم بعضه اضطراراً فتأخذوه منهن ، فإن هذا الفعل يبغضه الله - تعالى - .
ويبدو لنا من سياق الآية أن النهى عن عضل المرأة هنا - وإن كان يتناول جميع المكلفين - ، إلا أن المعنى به الأزواج ابتداء ، لأنهم - فى الغالب - هم الذين كانوا يفعلون ذلك .
ولذا قال ابن جرير - بعد أن ذكر الأقوال فى المعنى بالخطاب فى قوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } .
وأولى الأقوال التى ذكرناها بالصحة فى تأويل قوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } قول من قال : " نهى الله زوج المرأة عن التضييق عليها ، والإِضرار بها ، وهو لصحبتها كاره ولفراقها محب ، لتفتدى منه ببعض ما آتاها من الصداق " .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة ، لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل المرأة إلا لأحد رجلين : إما لزوجها بالتضييق عليها . . ليأخذ منها ما آتاها . . . أو لوليها الذى إليه إنكاحها . ولما كان الولى معلوما أنه ليس ممن آتاها شيئا . كان معلوما أن الذى عنى الله - تعالى - بنهييه عن عضلها هو زوجها الذى له السبيل إلى عضلها ضرارا لتفتدى منه .
والاستثناء فى قوله { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } متصل من أعم العلل والأسباب ، أى لا تعضلوهن لعلة من العلل أو لسبب من الأسباب إلا أن يأتين بفاحشة مبينة . لسوء أخلاقهن ، وكاشفة عن أحوالهن . كالزنا والنشوز ، وسوء الخلق ، وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء وفحش القول ونحوه ، فلكم العذر فى هذه الأحوال فى طلب الخلع منهن ، وأخذ ما أتيتموهن من المهر لوجود السبب من جهتهن لا من جهتكم .
والأصل فى هذا الحكم قوله - تعالى - { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا } ويرى بعضهم أن الاستثناء هنا منقطع فيكون المعنى : ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن لكن إن يأتين بفاحشة مبينة يحل لكم أخذ المهر الذى آتيتموهن إياه أو أخذ بعضه .
ثم أمر الله - تعالى - الرجال - وخصوصا الأزواج - بحسن معاشرة النساء فقال : { وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف } .
والمعاشرة : مفاعلة من العشرة وهى المخالطة والمصاحبة .
أى : وصاحبوهن وعاملوهن بالمعروف ، أى بما حض عليه الشرع وارتضاه العقل من الأفعال الحميدة ، والأقوال الحسنة .
قال ابن كثير : قوله - تعالى - { وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف } أى : طيبوا أقوالاكم لهن ، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم . كما تحب ذلك منها ، فافعل أنت مثله . كما قال - تعالى - { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلى " وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة ، دائم البشر ، يداعب أهله ، ويتلطف بهم ، ويضاحك نساءه . حتى أنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين - رضى الله عنها - يتودد إليها بذلك . قالت : سابقنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته . وذلك قبل أن أحمل اللحم . ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقنى . فقال : هذه بتلك . وكان صلى الله عليه وسلم يجمع نساءه كل ليلة فى بيت التي يبيت عندها فيأكل معهن العشاء فى بعض الأحيان ، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها . وكان ينام مع المرأة من نسائه فى شعار واحد . يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإِزار .
وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام .
يؤانس بذلك صلى الله عليه وسلم . وقد قال - تعالى - { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } هذا ، وللإِمام الغزالى كلام حسن فى كتابه الإِحياء عند حديثه عن آداب معاشرة النساء ، فقد قال ما ملخصه : ومن آداب المعاشرة حسن الخلق معهن ، واحتمال الأذى منهن ، ترحما عليهن ، لقصور عقلهن . قال - تعالى - : { وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف } وقال فى تعظيم حقهن : { وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } .
ثم قال : واعلم أنه حسن الخلق معها كف الأذى عنها ، بل احتمال الأذى منها ، والحلم عن طيشها وغضبها ، اقتداء برسولا لله صلى الله عليه وسلم . فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام . ومن آداب المعاشرة - أيضا - أن يزيد على احتمال الأذى منها بالمداعبة والمزح والملاعبة ، فهى التى تطيب قلوب النساء . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح معهن وينزل إلى درجات عقولهن فى الأعمال .
وقال عمر - رضى الله عنه - ينبغى للرجل أن يكون فى أهله مثل الصبى . فإذا التمسوا ما معنده وجدوه رجلا .
وكان ابن عباس - رضى الله عنه - يقول : " إنى - لأتزين لامرأتى كما تتزين لى " .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان أنه لا يصح للرجال أن يسترسلوا فى كراهية النساء إن عرضت لهم أسباب الكراهية ، بل عليهم أن يغلبوا النظر إلى المحاسن ، ويتغاضوا عن المكاره فقال : - تعالى - : { فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } .
أى : فإن كرهتم صحبتهن وإمساكهن فلا تتعجلوا فى مفارقتهن ، فإنه عسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله لكم فى الصبر عليه وعدم إنفاذه خيراً كثيراً فى الدنيا والآخرة .
فالآية الكريمة ترشد إلى حكم عظيمة منها أن على العاقل أن ينظر إلى الحياة الزوجية من جميع نواحيها ، لا من ناحية واحدة منها وهى ناحية البغض والحب . . وأن ينظر فى العلاقة التى بينه وبين زوجه بعين العقل والمصلحة المشتركة ، لا بعين الهوى . . وأن يحكم دينه وضميره قبل أن يحكم عاطفته ووجدانه . فربما كرهت النفس ما هو أصلح فى الدين وأحمد وأدنى إلى الخير ، وأحبت ما هو بضد ذلك ، وربما يكون الشئ الذى كرهته اليوم ولكنها لم تسترسل فى كراهيته سيجعل الله فيه خيراً كثيراً فى المستقبل . قال - تعالى - { وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } قال القرطبى : روى الإِمام مسلم فى صحيح عن أبى هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يفرك مؤمن مؤمنة ، إن كره منها خلقاً رضى منها آخر " أى : لا يبغضها بغضا كليا يحمله على فراقها .
أى لا ينبغى له ذلك ، بل يغفر سيئتها لحسنتها ، ويتغاضى عما يكره لما يجب - والفرك البغض الكلى الذى تنسى مع كل المحاسن - .
وقال مكحول : سمعت ابن عمر رضى الله عنهما - يقول : إن الرجل ليستخير الله - تعالى - فيخار له ، فيسخط على ربه - عز وجل - فلا يلبث أن ينظر فى العاقبة فإذا هو قد خير له .
والموضوع الثاني في هذا الدرس هو موضوع المرأة . .
ولقد كانت الجاهلية العربية - كما كانت سائر الجاهليات من حولهم - تعامل المرأة معاملة سيئة . . لا تعرف لها حقوقها الإنسانية ، فتنزل بها عن منزلة الرجل نزولا شنيعا ، يدعها أشبه بالسلعة منها بالإنسان . وذلك في الوقت الذي تتخذ منها تسلية ومتعة بهيمية ، وتطلقها فتنة للنفوس ، وإغراء للغرائز ، ومادة للتشهي والغزل العاري المكشوف . . فجاء الإسلام ليرفع عنها هذا كله ، ويردها إلى مكانها الطبيعي في كيان الأسرة وإلى دورها الجدي في نظام الجماعة البشرية . المكان الذي يتفق مع المبدأ العام الذي قرره في مفتتح هذه السورة : ( الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) . . ثم ليرفع مستوى المشاعر الإنسانية في الحياة الزوجية من المستوى الحيواني الهابط إلى المستوى الإنساني الرفيع ، ويظللها بظلال الاحترام والمودة والتعاطف والتجمل ؛ وليوثق الروابط والوشائج ، فلا تنقطع عند الصدمة الأولى ، وعند الانفعال الأول :
( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ، ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن - إلا أن يأتين بفاحشة مبينة - وعاشروهن بالمعروف ، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ، ويجعل الله فيه خيرا كثيرا . وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ، وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا . أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ؟ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ، وأخذن منكم ميثاقا غليظا ؟ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء - إلا ما قد سلف - إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ) . .
كان بعضهم في الجاهلية العربية - قبل أن ينتشل الإسلام العرب من هذه الوهدة ويرفعهم إلى مستواه الكريم - إذا مات الرجل منهم فأولياؤه أحق بامرأته ، يرثونها كما يرثون البهائم والمتروكات ! إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاءوا زوجوها وأخذوا مهرها - كما يبيعون البهائم والمتروكات ! - وإن شاءوا عضلوها وأمسكوها في البيت . دون تزويج ، حتى تفتدي نفسها بشيء . .
وكان بعضهم إذا توفي عن المرأة زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبه ، فمنعها من الناس ، وحازها كما يحوز السلب والغنيمة ! فإن كانت جميلة تزوجها ؛ وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها ، أو تفتدي نفسها منه بمال ! فأما إذا فاتته فانطلقت إلى بيت أهلها قبل أن يدركها فيلقي عليها ثوبه ، فقد نجت وتحررت وحمت نفسها منه !
وكان بعضهم يطلق المرأة ، ويشترط عليها ألا تنكح إلا من أراد ؛ حتى تفتدي نفسها منه ، بما كان أعطاها . . كله أو بعضه !
وكان بعضهم إذا مات الرجل حبسوا امرأته على الصبي فيهم حتى يكبر فيأخذها !
وكان الرجل تكون اليتيمة في حجره يلي أمرها ، فيحبسها عن الزواج ، حتى يكبر إبنه الصغير ليتزوجها ، ويأخذ مالها !
وهكذا . وهكذا . مما لا يتفق مع النظرة الكريمة التي ينظر بها الإسلام لشقي النفس الواحدة ؛ ومما يهبط بإنسانية المرأة وإنسانية الرجل على السواء . . ويحيل العلاقة بين الجنسين علاقة تجار ، أو علاقة بهائم !
ومن هذا الدرك الهابط رفع الإسلام تلك العلاقة إلى ذلك المستوى العالي الكريم ، اللائق بكرامة بني آدم ، الذين كرمهم الله وفضلهم على كثير من العالمين . فمن فكرة الإسلام عن الإنسان ، ومن نظرة الإسلام إلى الحياة الإنسانية ، كان ذلك الارتفاع ، الذي لم تعرفه البشرية إلا من هذا المصدر الكريم .
حرم الإسلام وراثة المرأة كما تورث السلعة والبهيمة ، كما حرم العضل الذي تسامه المرأة ، ويتخذ أداة للإضرار بها - إلا في حالة الإتيان بالفاحشة ، وذلك قبل أن يتقرر حد الزنا المعروف - وجعل للمرأة حريتها في اختيار من تعاشره ابتداء أو استئنافا . بكرا أم ثيبا مطلقة أو متوفى عنها زوجها . وجعل العشرة بالمعروف فريضة على الرجال - حتى في حالة كراهية الزوج لزوجته ما لم تصبح العشرة متعذرة - ونسم في هذه الحالة نسمة الرجاء في غيب الله وفي علم الله . كي لا يطاوع المرء انفعاله الأول ، فيبت وشيجة الزوجية العزيزة . فما يدريه أن هنالك خيرا فيما يكره ، هو لا يدريه . خيرا مخبوءا كامنا ، لعله إن كظم انفعاله واستبقى زوجة سيلاقيه :
( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ، ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن - إلا أن يأتين بفاحشة مبينة . وعاشروهن بالمعروف . فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ، ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) . .
وهذه اللمسة الأخيرة في الآية ، تعلق النفس بالله ، وتهدىء من فورة الغضب ، وتفثأ من حدة الكره ، حتى يعاود الإنسان نفسه في هدوء ؛ وحتى لا تكون العلاقة الزوجية ريشة في مهب الرياح . فهي مربوطة العرى بالعروة الوثقى . العروة الدائمة . العروة التي تربط بين قلب المؤمن وربه ، وهي أوثق العرى وأبقاها .
والإسلام الذي ينظر إلى البيت بوصفه سكنا وأمنا وسلاما ، وينظر إلى العلاقة بين الزوجين بوصفها مودة ورحمة وأنسا ، ويقيم هذه الآصرة على الاختيار المطلق ، كي تقوم على التجاوب والتعاطف والتحاب . . هو الإسلام ذاته الذي يقول للأزواج : ( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) . . كي يستأني بعقدة الزوجية فلا تفصم لأول خاطر ، وكي يستمسك بعقدة الزوجية فلا تنفك لأول نزوة ، وكي يحفظ لهذه المؤسسة الإنسانية الكبرى جديتها فلا يجعلها عرضة لنزوة العاطفة المتقلبة ، وحماقة الميل الطائر هنا وهناك . .
وما أعظم قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لرجل أراد أن يطلق زوجه " لأنه لا يحبها " . . " ويحك ! ألم تبن البيوت إلا على الحب ؟ فأين الرعاية وأين التذمم ؟ " . .
وما أتفه الكلام الرخيص الذي ينعق به المتحذلقون باسم " الحب " وهم يعنون به نزوة العاطفة المتقلبة ، ويبيحون باسمه - لا انفصال الزوجين وتحطيم المؤسسة الزوجية - بل خيانة الزوجة لزوجها ! أليست لا تحبه ؟ ! وخيانة الزوج لزوجته ! أليس أنه لا يحبها ؟ !
وما يهجس في هذه النفوس التافهة الصغيرة معنى أكبر من نزوة العاطفة الصغيرة المتقلبة ، ونزوة الميل الحيواني المسعور . ومن المؤكد أنه لا يخطر لهم أن في الحياة من المروءة والنبل والتجمل والاحتمال ، ما هو أكبر وأعظم من هذا الذي يتشدقون به في تصور هابط هزيل . . ومن المؤكد طبعا أنه لا يخطر لهم خاطر . . الله . . فهم بعيدون عنه في جاهليتهم المزوقة ! فما تستشعر قلوبهم ما يقوله الله للمؤمنين : ( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) . .
إن العقيدة الإيمانية هي وحدها التي ترفع النفوس ، وترفع الاهتمامات ، وترفع الحياة الإنسانية عن نزوة البهيمة ، وطمع التاجر ، وتفاهة الفارغ !
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنّ إِلاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنّ فَعَسَىَ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } .
يعني تبارك وتعالى ( بقوله ) : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا } : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله { لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثوا النّساءَ كَرْها } يقول : لا يحلّ لكم أن ترثوا نكاح نساء أقاربكم وآبائكم كرها .
فإن قال قائل : كيف كانوا يرثونهن ، وما وجه تحريم وراثتهن ، فقد علمت أن النساء مورّثات كما الرجال مورثون ؟ قيل : إن ذلك ليس من معنى وراثتهنّ إذا هنّ متن فتركن مالاً ، وإنما ذلك أنهن في الجاهلية كانت إحداهنّ إذا مات زوجها كان ابنه أو قريبه أولى بها من غيره ومنها بنفسها ، إن شاء نكحها وإن شاء عضلها فمنعها من غيره ولم يزوّجها حتى تموت ، فحرّم الله تعالى ذلك على عباده ، وحظر عليهم نكاح حلائل آبائهم ، ونهاهم عن عضلهنّ عن النكاح .
وبنحو القول الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أسباط بن محمد ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، يعني الشيباني ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها وَلا تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنّ } قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوّجها ، وإن شاءوا زوّجوها ، وإن شاءوا لم يزوّجوها ، وهم أحقّ بها من أهلها ، فنزلت هذه الاَية في ذلك .
وحدثني أحمد بن محمد الطوسي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن صالح ، قال : ثني محمد بن فضيل ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، عن أبيه ، قال : لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوّج امرأته ، وكان ذلك لهم في الجاهلية ، فأنزل الله : { لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثوا النّساءَ كَرْها } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد ، عن يزيد النحويّ ، عن عكرمة والحسن البصري قالا في قوله : { لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها وَلا تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنّ إلاّ أنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مبَيّنَةٍ } ، وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته ، فيعضلها حتى تموت أو تردّ إليه صداقها ، فأحكم الله عن ذلك ، يعني أن الله نهاكم عن ذلك .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها } قال : كانت الأنصار تفعل ذلك كان الرجل إذا مات حميمه ورث حميمه امرأته ، فيكون أولى بها من وليّ نفسها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها } . . . الاَية ، قال : كان الرجل إذا مات أبوه أو حميمه ، فهو أحقّ بامرأته ، إن شاء أمسكها أو يحبسها حتى تفتدي منه بصداقها أو تموت فيذهب بمالها . قال ابن جريج : فأخبرني عطاء بن أبي رباح أن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل ، فترك امرأة ، حبسها أهله على الصبيّ يكون فيهم ، فنزلت : { لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها } . . . الاَية . قال ابن جريج ، وقال مجاهد : كان الرجل إذا توفي أبوه كان أحقّ بامرأته ، ينكحها إن شاء إذا لم يكن ابنها ، أو ينكحها إن شاء أخاه أو ابن أخيه . قال ابن جريج : وقال عكرمة : نزلت في كبيشة بنت معن بن عاصم من الأوس ، توفي عنها أبو قيس بن الأسلت ، فجنح عليها ابنه ، فجاءت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا نبيّ الله ، لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح ! فنزلت هذه الاَية .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها } قال : كان إذا توفي الرجل كان ابنه الأكبر هو أحقّ بامرأته ينكحها إذا شاء إذا لم يكن ابنها ، أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن عمرو بن دينار مثل قول مجاهد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، قال : سمعت عمرو بن دينار يقول مثل ذلك .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما قوله : { لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها } ، فإن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو ابنه ، فإذا مات وترك امرأته ، فإن سبق وارث الميت فألقى عليها ثوبه فهو أحقّ بها أن ينكحها بمهر صاحبه أو ينكحها فيأخذ مهرها ، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها فهم أحقّ بنفسها .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان الباهلي ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها } كانوا بالمدينة إذا مات حميم الرجل وترك امرأة ، ألقى الرجل عليها ثوبه ، فورث نكاحها ، وكان أحقّ بها ، وكان ذلك عندهم نكاحا ، فإن شاء أمسكها حتى تفتدي منه ، وكان هذا في الشرك .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها } قال : كانت الوراثة في أهل يثرب بالمدينة ههنا ، فكان الرجل يموت فيرث ابنه امرأة أبيه ، كما يرث أمه لا يستطيع أن يمنع ، فإن أحبّ أن يتخذها اتخذها كما كان أبوه يتخذها ، وإن كره فارقها ، وإن كان صغيرا حبست عليه حتى يكبر ، فإن شاء أصابها وإن شاء فارقها ، فذلك قول الله تبارك وتعالى : { لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها } .
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها } وذلك أن رجالاً من أهل المدينة كان إذا مات حميم أحدهم ، ألقى ثوبه على امرأته ، فورث نكاحها ، فلم ينكحها أحد غيرها ، وحبسها عنده حتى تفتدي منه بفدية ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءع كَرْها } .
حدثني ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عليّ بن بذيمة ، عن مقسم ، قال : كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها ، فجاء رجل فألقى عليها ثوبه كان أحقّ الناس بها ، قال : فنزلت هذه الاَية : { لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها } .
فتأويل الاَية على هذا التأويل : يا أيها الذين آمنوا لا يحلّ لكن أن ترثوا آباءكم وأقاربكم نكاح نسائهم كرها ، فترك ذلك الاَباء والأقارب والنكاح ، ووجّه الكلام إلى النهي عن وراثة النساء ، اكتفاء بمعرفة المخاطبين بمعنى الكلام ، إذ كان مفهوما معناه عندهم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا يحلّ لكم أيها الناس أن ترثوا النساء تركاتهن كرها ، قال : وإنما قيل ذلك لأنهم كانوا يعضلون أياماهن وهن كارهات للعضل حتى يمتن فيرثوهن أموالهن . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها } قال : كان الرجل إذا مات وترك جارية ، ألقى عليها حميمه ثوبه ، فمنعها من الناس ، فإن كانت جميلة تزوّجها ، وإن كانت قبيحة حبسها حتى تموت ، فيرثها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري في قوله : { لا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها } قال : نزلت في ناس من الأنصار كانوا إذا مات الرجل منهم فأملك الناس بامرأته وليه ، فيمسكها حتى تموت فيرثها ، فنزلت فيهم .
قال أبو جعفر : وأولى القولين بتأويل الاَية ، القول الذي ذكرناه عمن قال معناه : لا يحلّ لكن أن ترثوا النساء كرها أقاربكم ، لأن الله جل ثناؤه قد بين مواريث أهل المواريث ، فذلك لأهله نحو وراثتهم إياه الموروث ذلك عنه من الرجال أو النساء . فقد علم بذلك أنه جلّ ثناؤه لم يحظر على عباده أن يرثوا النساء ما جعله لهم ميراثا عنهن ، وأنه إنما حظر أن يكرهن موروثات بمعنى حظر وراثة نكاحهن إذا كان ميتهم الذي ورثوه قد كان مالكا عليهن أمرهن في النكاح ملك الرجل منفعة ما استأجر من الدور والأرضين وسائر ما له منافع ، فأبان الله جل ثناؤه لعباده أن الذي يملكه الرجل منهم من بضع زوجته ، معناه غير معنى ما يملك أحدهم من منافع سائر المملوكات التي تجوز إجارتها ، فإن المالك بضع زوجته إذا هو مات لم يكن ما كان له ملكا من زوجته بالنكاح لورثته بعده ، كما لهم من الأشياء التي كان يملكها بشراء أو هبة أو إجارة بعد موته بميراثه ذلك عنه .
وأما قوله تعالى : { وَلا تَعّضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنّ } فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : تأويله : { وَلا تَعْضُلُوهُنّ } : أي ولا تحبسوا يا معشر ورثة من مات من الرجال أزواجهم عن نكاح من أردن نكاحه من الرجال كيما يمتن فتذهبوا ببعض ما آتيتموهن¹ أي فتأخذوا من أموالهم إذا متن ما كان موتاكم الذين ورثتموهن ساقوا إليهنّ من صدقاتهنّ . وممن قال ذلك جماعة قد ذكرنا بعضهم ، منهم ابن عباس ، والحسن البصري ، وعكرمة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولا تعضلوا أيها الناس نساءكم فتحبسوهنّ ضرارا ، ولا حاجة لكم إليهن فتضروا بهن ليفتدين منكم بما آتيتموهنّ من صدقاتهن . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلا تَعْضُلُوهُنّ } يقول : لا تقهروهن ، { لِتَذْهَبوا بِبَعْضِ ما آتَيْتمُوهُنّ } يعني الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ، ولها عليه مهر ، فيُضِرّ بها لتفتدي .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَلا تَعْضُلُوهُنّ } يقول : لا يحلّ لك أن تحبس امرأتك ضرارا حتى تفتدي منك . قال : أخبرنا معمر ، قال : وأخبرني سماك بن الفضل عن ابن البيلماني ، قال : نزلت هاتان الاَيتان ، إحداهما في أمر الجاهلية ، والأخرى في أمر الإسلام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، قال : أخبرنا سماك بن الفضل ، عن عبد الرحمن بن البيلماني في قوله : { لا يَحِلّ لَكمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها وَلا تَعْضلُوهُنّ } ، قال : نزلت هاتان الاَيتان ، إحداهما في الجاهلية ، والأخرى في الإسلام ، قال عبد الله لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء في الجاهلية ، ولا تعضلوهنّ في الإسلام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : { وَلا تَعْضُلوهُنّ } قال : لا تحبسوهنّ .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلا تَعْضُلوهُنّ لِتتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنّ } أما تعضلوهنّ ، فيقول : تضارّوهنّ ليفتدين منكم .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَلا تَعْضُلوهُنّ } قال : العضل : أن يكره الرجل امرأته ، فيضرّ بها حتى تفتدي منه ، قال الله تبارك وتعالى : { وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفْضَى بَعْضُكمْ إلى بَعْضٍ } .
وقال آخرون : المعنيّ بالنهي عن عضل النساء في هذه الاَية : أولياؤهنّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَلا تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْوَاجَهُنّ } كالعضل في سورة البقرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : بل المنهيّ عن ذلك زوج المرأة بعد فراقه إياها ، وقالوا : ذلك كان من فعل الجاهلية ، فنهوا عنه في الإسلام . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان العضل في قريش بمكة ، ينكح الرجل المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه ، فيفارقها على أن لا تتزوّج إلا بإذنه ، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد ، فإذا خطبها خاطب ، فإن أعطته وأرضته أذن لها ، وإلا عضلها . قال : فهذا قول الله : { وَلا تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنّ } . . . الاَية .
قال أبو جعفر : قد بينا فيما مضى معنى العضل وما أصله بشواهد ذلك من الأدلة .
وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصحة في تأويل قوله : { وَلا تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنّ } قول من قال : نهى الله جلّ ثناؤه زوج المرأة عن التضييق عليها والإضرار بها ، وهو لصحبتها كاره ، ولفراقها محبّ ، لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصداق .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة ، لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل امرأة ، إلا لأحد رجلين : إما لزوجها بالتضييق عليها وحبسها على نفسه ، وهو لها كاره ، مضارّة منه لها بذلك ، ليأخذ منها ما آتاها بافتدائها منه نفسها بذلك ، أو لوليها الذي إليها إنكاحها ، وإذا كان لا سبيل إلى عضلها لأحد غيرهما ، وكان الوليّ معلوما أنه ليس ممن آتاها شيئا ، فيقال : إن عضلها عن النكاح عضلها ليذهب ببعض ما آتاها ، كان معلوما أن الذي عنى الله تبارك وتعالى بنهيه عن عضلها ، هو زوجها الذي له السبيل إلى عضلها ضرارا لتفتدي منه .
وإذا صحّ ذلك ، وكان معلوما أن الله تعالى ذكره لم يجعل لأحد السبيل على زوجته بعد فراقه إياها وبينونتها منه ، فيكون له إلى عضلها سبيل لتفتدي منه من عضله إياها ، أتت بفاحشة أم لم تأت بها ، وكان الله جلّ ثناؤه قد أباح للأزواج عضلهنّ إذا أتين بفاحشة مبينة ، حتى يفتدين منه ، كان بينا بذلك خطأ التأويل الذي تأوّله ابن زيد ، وتأويل من قال : عنى بالنهي عن العضل في هذه الاَية : أولياء الأيامى ، وصحة ما قلنا فيه . { ولا تَعْضُلوهُنّ } في موضع نصب عطفا على قوله : { أنْ تَرِثوا النّساءَ كَرْها } ومعناه : لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء كرها ، ولا تعضلوهن ، وكذلك هي فيما ذكر في حرف ابن مسعود ، ولو قيل : هو في موضع جزم على وجه النهي لم يكن خطأ .
القول في تأويل قوله تعالى : { إلاّ أنْ يأْتْيِنَ بِفاحِشَةٍ مبَيّنَةٍ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : لا يحلّ لكم أيها المؤمنون أن تعضلوا نساءكم ضرارا منكم لهن ، وأنتم لصحبتهن كارهون ، وهن لكم طائعات ، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ من صدقاتهنّ ، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، فيحلّ لكن حينئذً الضرار بهنّ ليفتدين منكم .
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الفاحشة التي ذكرها الله جلّ ثناؤه في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معناها : الزنا ، وقال إذا زنت امرأة الرجل حلّ له عضلها والضرار بها لتفتدي منه بما آتاها من صداقها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا أشعث ، عن الحسن في البكر تفجر ، قال : تضرب مائة ، وتُنفى سنة ، وتردّ إلى زوجها ما أخذت منه . وتأوّل هذه الاَية : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْمُوهُنّ إلاّ أنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عطاء الخراساني في الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة : أخذ ما ساق إليها وأخرجها¹ فنسخ ذلك الحدود .
حدثنا أحمد بن منيع ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة قال : إذا رأى الرجل من امرأته فاحشة ، فلا بأس أن يضارّها ، ويشقّ عليها حتى تختلع منه .
حدثنا ابن حميد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرني معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة في الرجل يطلع من امرأته على فاحشة ، فذكر نحوه .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { إلاّ أنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مبَيّنَةٍ } وهو الزنا ، فإذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الكريم أنه سمع الحسن البصريّ : { إلاّ أنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ } قال : الزنا . قال : وسمعت الحسن وأبا الشعثاء يقولان : فإن فعلت حلّ لزوجها أن يكون هو يسألها الخلع لتفتدي .
وقال آخرون : الفاحشة المبينة في هذا الموضع : النشوز . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إلاّ أنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مبَيّنَةٍ } وهو البغض والنشوز ، فإذا فعلت ذلك ، فقد حلّ له منها الفدية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عنبسة ، عن عليّ بن بذيمة ، عن مقسم في قوله : «وَلاَ تَعْضُلوهُنّ لِتَذْهَبوا بِبَعْضٍ ما آتَيْتُمُوهُنّ إلاّ أنْ يَفْحُشْنَ » في قراءة ابن مسعود . قال : إذا عضلت وآذتك فقد حل لك أخذ ما أخذت منك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مطرف بن طريف ، عن خالد ، عن الضحاك بن مزاحم : { إلاّ أنْ يأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مبَيّنَةٍ } قال : الفاحشة ههنا النشوز ، فإذا نشزت حلّ له أن يأخذ خلعها منها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { إلاّ أنْ يأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مبَيّنَةٍ } قال : هو النشوز .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء بن أبي رباح : { إلاّ أنْ يأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مبَيّنَةٍ } فإن فعلن إن شئتم أمسكتموهنّ ، وإن شئتم أرسلتموهن .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : { إلاّ أنْ يأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مبَيّنَةٍ } قال : عدل ربنا تبارك وتعالى في القضاء فرجع إلى النساء ، فقال : { إلاّ أنْ يأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مبَيّنَةٍ } والفاحشة : العصيان والنشوز¹ فإذا كان ذلك من قبلها ، فإن الله أمره أن يضربها ، وأمره بالهجر ، فإن لم تدع العصيان والنشوز فلا جناح عليه بعد ذلك أن يأخذ منها الفدية .
قال أبو جعفر : وأولى ما قيل في تأويل قوله : { إلاّ أنْ يأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مبَيّنَةٍ } أنه معنيّ به كل فاحشة من بذاءة باللسان على زوجها ، وأذى له وزنا بفرجها . وذلك أن الله جلّ ثناؤه عمّ بقوله : { إلاّ أنْ يأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مبَيّنَةٍ } كل فاحشة مبينة ظاهرة ، فكلّ زوج امرأة أتت بفاحشة من الفواحش التي هي زنا أو نشوز ، فله عضلها على ما بين الله في كتابه ، والتضييق عليها حتى تفتدي منه بأيّ معاني فواحش أتت بعد أن تكون ظاهرة مبينة بظاهر كتاب الله تبارك وتعالى ، وصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . كالذي :
حدثني يونس بن سليمان البصريّ ، قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل ، قال : حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «اتّقوا اللّهَ فِي النّساءِ ، فانّكمْ أخَذْتُموهُنّ بأمانَةِ اللّهِ ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهنّ بِكَلِمَةِ اللّهِ ، وَإنّ لَكمْ عَلَيْهنّ أن لا يُوطِئنَ فُرشَكمْ أحَدا تَكْرَهونَهُ ، فإنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فاضْرِبوهنّ ضَرْبا غَيْرَ مُبَرّحٍ وَلهُنّ عَلَيْكمْ رِزْقُهُنّ وكِسْوَتُهُنّ بالمَعْرُوفِ » .
حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، قال : حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال : حدثنا صدقة بن يسار ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «أيّها النّاسُ إنّ النّساءَ عِنْدَكمْ عَوَانٌ ، أخَذْتُمُوهُنّ بأمانَةِ اللّهِ ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فرُوجَهُنّ بِكَلَمِةِ اللّهِ ، وَلَكمْ عَلَيْهنّ حَقٌ ، وَلهُنّ عَلَيْكُمْ حَقٌ ، ومِنْ حَقّكمْ عَلَيْهِنّ أنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكمْ أحَدًا وَلا يَعْصِيَنّكُمْ فِي مَعْرُوفٍ ، فإذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ فَلَهنّ رِزْقَهُنّ وَكِسْوَتُهُنّ بالمَعْرُوفِ » .
فأخبر صلى الله عليه وسلم ، أن من حقّ الزوج على المرأة أن لا توطىء فراشه أحدا ، وأن لا تعصيه في معروف وأن الذي يجب لها من الرزق والكسوة عليه ، وإنما هو واجب عليه ، إذا أدّت هي إليه ما يجب عليها من الحقّ بتركها إيطاء فراشه غيره ، وتركها معصيته في معروف . ومعلوم أن معنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «مِنْ حَقّكمْ عَلَيْهِنّ أنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أحَدا » إنما هو أن لا يمكنّ أنفسهنّ من أحد سواكم . وإذا كان ما روينا في ذلك صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبين أن لزوج المرأة إذا أوطأت امرأته نفسها غيره ، وأمكنت من جماعها سواه ، أن له منعها من الكسوة والرزق بالمعروف ، مثل الذي له من منعها ذلك إذا هي عصته في المعروف . وإذا كان ذلك له فمعلوم أنه غير مانع لها بمنعه إياها ماله منعها حقا لها واجبا عليه . وإذا كان ذلك كذلك فبّين أنها إذا افتدت نفسها عند ذلك من زوجها فأخذ منها زوجها ما أعطته أنه لم يأخذ ذلك عن عضل منهيّ عنه ، بل هو أخذ ما أخذ منها عن عضل له مباح . وإذ كان ذلك كذلك كان بينا أنه داخل في استثناء الله تبارك وتعالى الذي استثناه من العاضلين بقوله : { وَلا تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنّ إلاّ أنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مبَيّنَةً } . وإذ صحّ ذلك ، فبين فساد قول من قال : { إلاّ أنْ يأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مبَيّنَةٍ } منسوخ بالحدود ، لأن الحدّ حقّ الله تعالى على من أتى بالفاحشة التي هي زنا . وأما العضل لتفتدي المرأة من الزوج بما آتاها أو ببعضه فحقّ لزوجها كما عضله إياها وتضييقه عليها إذا هي نشزت عليه لتفتدي منه حقّ له ، وليس حكم أحدهما يبطل حكم الاَخر .
فمعنى الاَية : ولا يحلّ لكم أيها الذين آمنوا أن تعضلوا نساءكم ، فتضيقوا عليهنّ ، وتمنعوهنّ رزقهنّ وكسوتهن بالمعروف ، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صَدُقاتكم ، { إلاّ أنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ } من زنا أو بذاء عليكم ، وخلاف لكم فيما يجب عليهن لكم مبينة ظاهره ، فيحلّ لكم حينئذٍ عضلهنّ ، والتضييق عليهنّ ، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ من صداق ، إن هنّ افتدين منكم به .
واختلفت القراء في قراءة قوله : «مبَيّنَةً » فقرأه بعضهم : «مُبَيّنَةٍ » بفتح الياء ، بمعنى أنها قد بينت لكم وأعلنت وأظهرت . وقرأه بعضهم : «مبَيّنَةٍ » بكسر الياء ، بمعنى أنها ظاهرة بينة للناس أنها فاحشة . وهما قراءتان مستفيضتان في قراءة أمصار الإسلام ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب في قراءته الصواب ، لأن الفاحشة إذا أظهرها صاحبها فهي ظاهرة بينة ، وإذا ظهرت فبإظهار صاحبها إياها ظهرت ، فلا تكون ظاهرة بينة إلا وهي مبينة ولا مبينة إلا وهي مبينة ، فلذلك رأيت القراءة بأيهما قرأ القارىء صوابا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعاشِرُوهُنّ بالمَعْرُوفِ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَعاشِرُوهُنّ بالمَعْرُوفِ } : وخالقوا أيها الرجال نساءكم ، وصاحبوهنّ بالمعروف ، يعني بما أمرتم به من المصاحبة ، وذلك إمساكهنّ بأداء حقوقهنّ التي فرض الله جلّ ثناؤه لهنّ عليكم إليهنّ ، أو تسريح منكم لهن بإحسان . كما :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَعاشِروهُنّ بالمَعْرُوفِ } يقول : وخالطوهنّ . كذا قال محمد بن الحسين ، وإنما هو خالقوهنّ من العشرة وهي المصاحبة .
القول في تأويل قوله تعالى : { فإنْ كَرِهْتُمُوهُنّ فَعَسى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرا كَثِيرا } .
يعني بذلك تعالى ذكره : لا تعضلوا نساءكم لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ من غير ريبة ، ولا نشوز ، كان منهنّ ، ولكن عاشروهنّ بالمعروف وإن كرهتموهن ، فلعلكم أن تكرهوهنّ ، فتمسكوهنّ ، فيجعل الله لكم في إمساككم إياهنّ على كره منكم لهنّ خيرا كثيرا من ولد يرزقكم منهنّ ، أو عطفكم عليهنّ بعد كراهتكم إياهن . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { فإنْ كَرِهْتُمُوهُنّ فَعَسَى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئا وَيجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرا كَثِيرا } يقال : فعسى الله أن يجعل في الكراهة خيرا كثيرا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثني أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : { وَيجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرا كَثِيرا } قال : الولد .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَيجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرا كَثِيرا } والخير الكثير : أن يعطف عليها ، فيرزق الرجل ولدها ، ويجعل الله في ولدها خيرا كثيرا .
والهاء في قوله : { وَيجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرا كَثِيرا } على قول مجاهد الذي ذكرناه كناية عن مصدر تكرهوا ، كأن معنى الكلام عنده : فإن كرهتموهنّ ، فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا . ولو كان تأويل الكلام : فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله في ذلك الشيء الذي تكرهونه خيرا كثيرا ، كان جائزا صحيحا .
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } .
استئناف تشريع في أحكام النساء التي كان سياق السورة لبيانها وهي التي لم تزل آيها مبيّنة لأحكامها تأسيساً واستطراداً ، وبدءا وعودا ، وهذا حكم تابع لإبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من جعل زوج الميّت موروثة عنه وافتتح بقوله : { يا أيها الذين آمنوا } للتنويه بما خوطبوا به .
وخوطب الذين آمنوا ليعمّ الخطاب جميع الأمّة ، فيأخذ كلّ منهم بحظّه منه ، فمريد الاختصاص بامرأة الميّت يعلم ما يختصّ به منه ، والوليّ كذلك ، وولاة الأمور كذلك .
وصيغة { لا يحل } صيغة نهي صريح لأنّ الحلّ هو الإباحة في لسان العرب ولسان الشريعة ، فنفيه يرادف معنى التحريم .
والإرث حقيقته مصير الكسب إلى شخص عقب شخص آخر ، وأكثر ما يستعمل في مصير الأموال ، ويطلق الإرث مجازاً على تمحّض الملك لأحد بعد المشارك فيه ، أو في حالة ادّعاء المشارك فيه ، ومنه { يرث الأرض ومَن عليها } ، وهو فعل متعدّ إلى واحد يتعدّى إلى المتاع الموروث ، فتقول : ورثت مال فلان ، وقد يتعدى إلى ذات الشخص الموروث ، يقال : ورث فلان أباه ، قال تعالى : { فهب لي من لدنك وليا يرثني } [ مريم : 6 ] وهذا هو الغالب فيه إذا تعدّى إلى ما ليس بمال .
فتعدية فعل { أن ترثوا } إلى { النساء } من استعماله الأوّل : بتنزيل النساء منزلة الأموال الموروثة ، لإفادة تبشيع الحالة التي كانوا عليها في الجاهلية . أخرج البخاري ، عن ابن عباس ، قال : « كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته إن شاء بعضهم تزوّجها ، وإن شاءوا زوّجوها ، وإن شاءوا لم يزوجوّها ، فهم أحقّ بها من أهلها فنزلت هذه الآية » وعن مجاهد ، والسدّي ، والزهري كان الابن الأكبر أحقّ بزوج أبيه إذا لم تكن أمّه ، فإن لم يكن أبناء فوليّ الميّت إذا سبق فألقى على امرأة الميّت ثوبه فهو أحقّ بها ، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحقّ بنفسها . وكان من أشهر ما وقع من ذلك في الجاهلية أنّه لمّا مات أمية بن عبد شمس وترك امرأته ولها أولاد منه : العيص ، وأبو العيص ، والعاص ، وأبو العاص ، وله أولاد من غيرها منهم أبو عمرو بن أمية فخلف أبو عمرو على امرأة أبيه ، فولدت له : مُسافراً ، وأبا معيط ، فكان الأعياص أعماماً لمسافر وأبي معيط وأخوتهما من الأمّ » .
وقد قيل : نزلت الآية لمّا توفّي أبو قيس بن الأسلت رام ابنه أن يتزوّج امرأته كبشة بنت معن الأنصارية ، فنزلت هذه الآية . قال ابن عطية : وكانت هذه السيرة لازمة في الأنصار ، وكانت في قريش مباحة مع التراضي . وعلى هذا التفسير يكون قوله { كرهاً } حالا من النساء ، أي كارهات غير راضيات ، حتّى يرضين بأن يكنّ أزواجاً لمن يرضينه ، مع مراعاة شروط النكاح ، والخطاب على هذا الوجه لورثة الميّت .
وقد تكرّر هذا الإكراه بعوائدهم التي تمالؤوا عليها ، بحيث لو رامت المرأة المحيد عنها ، لأصبحت سبّة لها ، ولما وجدت من ينصرها ، وعلى هذا فالمراد بالنساء الأزواج ، أي أزواج الأموات .
ويجوز أن يكون فعل ( ترثوا ) مستعملا في حقيقته ومتعدّيا إلى الموروث فيفيد النهي عن أحوال كانت في الجاهلية : منها أنّ الأولياء يعضلون النساء ذوات المال من التزوّج خشية أنّهنّ إذا تزوّجن يلدن فيرثهنّ أزواجهنّ وأولادهنّ ولم يكن للوليّ العاصب شيء من أموالهنّ ، وهنّ يرغبن أن يتزوّجن ؛ ومنها أنّ الأزواج كانوا يكرهون أزواجهم ويأبَون أن يطلّقوهنّ رغبة في أن يمتن عندهم فيرثوهنّ ، فذلك إكراه لهنّ على البقاء على حالة الكراهية ، إذ لا ترضى المرأة بذلك مختارة ، وعلى هذا فالنساء مراد به جمع امرأة ، وقرأ الجمهور : كرها بفتح الكاف وقرأه حمزة ، والكسائي وخلف بضم الكاف وهما لغتان .
{ ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما ءاتيتموهن }
عطف النهي عن العضل على النهي عن إرث النساء كرها لمناسبة التماثل في الإكراه وفي أنّ متعلّقه سوء معاملة المرأة ، وفي أنّ العضل لأجل أخذ مال منهنّ .
والعضل : منع وليّ المرأة إيّاها أن تتزوّج ، وقد تقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى : { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } في سورة البقرة [ 232 ] .
فإن كان المنهي عنه في قوله : { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } هو المعنى المتبادر من فعل ( ترثوا ) ، وهو أخذ مال المرأة كرها عليها ، فعطف { ولا تعضلوهن } إمّا عطف خاصّ على عامّ ، إن أريد خصوص منع الأزواج نساءهم من الطلاق مع الكراهية ، رغبة في بقاء المرأة عنده حتّى تموت فيرث منها مالها ، أو عطف مباين إن أريد النهي عن منعها من الطلاق حتّى يلجئها إلى الافتداء منه ببعض ما آتاها ، وأيّامّا كان فإطلاق العضل على هذا الإمساك مجاز باعتبار المشابهة لأنّها كالتي لا زوج لها ولم تتمكّن من التزوّج .
وإن كان المَنهي عنه في قوله : { لا يحل لكم أن ترثوا النساء } المعنى المجازي لترثوا وهو كون المرأة ميراثاً ، وهو ما كان يفعله أهل الجاهلية في معاملة أزواج أقاربهم وهو الأظهر فعطف { ولا تعضلوهن } عطف حكم آخر من أحوال المعاملة ، وهو النهي عن أن يعضل الوليّ المرأة من أن تتزوّج لتبقى عنده فإذا ماتت ورثها ، ويتعيّن على هذا الاحتمال أن يكون ضمير الجمع في قوله : { لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } راجعاً إلى من يتوقّع منه ذلك من المؤمنين وهم الأزواج خاصّة ، وهذا ليس بعزيز أن يطلق ضمير صالح للجمع ويراد منه بعض ذلك الجمع بالقرينة ، كقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] أي لا يقتل بعضكم أخاه ، إذ قد يعرف أنّ أحداً لا يقتل نفسه ، وكذلك { فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] أي يسلم الداخل على الجالس . فالمعنى : ليذهب بعضكم ببعض ما آتاهنّ بعضكم ، كأن يريد الوليّ أن يذهب في ميراثه ببعض مال مولاته الذي ورثته من أمّها أو قريبها أو من زوجها ، فيكون في الضمير توزيع .
وإطلاق العضل على هذا المعنى حقيقة . والذهاب في قوله : { لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } مجاز في الأخذ ، كقوله : { ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] ، أي أزاله .
ليس إتيانهنّ بفاحشة مبيّنة بعضاً ممّا قبل الاستثناء لا من العضل ولا من الإذهاب ببعض المهر . فيحتمل أن يكون الاستثناء متّصلا استثناءً من عموم أحوال الفعل الواقع في تعليل النهي ، وهو إرادة الإذهاب ببعض ما آتَوْهُنّ ، لأنّ عموم الأفراد يستلزم عموم الأحوال ، أي إلاّ حال الإتيان بفاحشة فيجوز إذهابكم ببعض ما آتيتموهنّ . ويحتمل أن يكون استثناء منقطعاً في معنى الاستدراك ، أي لكن إتيانهنّ بفاحشة يُحِلّ لكم أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ ، فقيل : هذا كان حكم الزوجة التي تأتي بفاحشة وأنّه نسخ بالحدّ . وهو قول عطاء .
والفاحشة هنا عند جمهور العلماء هي الزنا ، أي أنّ الرجل إذا تحقّق زنى زوجه فله أن يعضلها ، فإذا طلبت الطلاق فله أن لا يطلّقها حتّى تفتدي منه ببعض صداقها ، لأنّها تسبّبت في بَعْثَرة حال بيت الزوج ، وأحوجته إلى تجديد زوجة أخرى ، وذلك موكول لدينه وأمانة الإيمان . فإنْ حاد عن ذلك فللقضاة حمله على الحقّ . وإنّما لم يَجْعل المفاداةَ بجميع المهر لئلا تصير مدّةُ العصمة عريَّة عن عوض مقابل ، هذا ما يؤخذ من كلام الحَسن . وأبي قلابة ، وابن سيرين وعطاء ؛ لكن قال عطاء : هذا الحكم نسخ بحدّ الزنا وباللعان ، فحرّم الإضرار والافتداء .
وقال ابن مسعود ، وابن عباس ، والضحّاك ، وقتادة : الفاحشة هنا البغض والنشوز ، فإذا نشزت جاز له أن يأخذ منها . قال ابن عطيّة : وظاهر قول مالك بإجازة أخذ الخلع عن الناشز يناسب هذا إلاّ أني لا أحفظ لمالك نصّا في الفاحشة في هذه الآية .
وقرأ الجمهور : مبيِّنة بكسر التحتية اسم فاعل من بيَّن اللازم بمعنى تبيَّن ، كما في قولهم في المثل « بَيَّنَ الصبحُ لذي عَيْنَيْن » . وقرأه ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلَف بفتح التحتية اسم مفعول من بيَّن المتعدي أي بيَّنها وأظْهَرَها بحيث أشْهَدَ عَليهنّ بها .
{ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا }
أعقب النهي عن إكراه النساء والإضرارِ بهنّ بالأمر بحسن المعاشرة معهنّ ، فهذا اعتراض فيه معنى التذييل لما تقدّم من النهي ، لأنّ حسن المعاشرة جامع لنفي الإضرار والإكراه ، وزائد بمعاني إحسان الصحبة .
والمعاشرة مفاعلة من العِشْرة وهي المخالطة ، قال ابن عطية : وأرى اللفظة من أعشار الجزور لأنّها مقاسمة ومخالطة ، أي فأصل الاشتقاق من الاسم الجامد وهو عدد العشرة . وأنَا أراها مشتقّة من العشِيرة أي الأهل ، فعاشَره جَعَلَه من عشيرته ، كما يقال : آخاه إذا جعله أخاً . أمّا العشيرة فلا يعرف أصل اشتقاقها . وقد قيل : إنها من العشرة أي اسم العدد وفيه نظر .
والمعروف ضدّ المنكر وسمّي الأمر المكروه منكراً لأنّ النفوس لا تأنس به ، فكأنّه مجهول عندها نَكِرة ، إذ الشأن أنّ المجهول يكون مكروهاً ثمّ أطلقوا اسم المنكر على المكروه ، وأطلقوا ضدّه على المحبوب لأنّه تألفه النفوس . والمعروف هنا ما حدّده الشرع ووصفه العرف .
والتفريع في قوله : { فإن كرهتموهن } على لازم الأمر الذي في قوله : { وعاشروهن } وهو النهي عن سوء المعاشرة ، أي فإن وجد سبب سوء المعاشرة وهو الكراهية . وجملة { فعسى أن تكرهوا } نائبه مناب جواب الشرط ، وهي عليه له فعلم الجواب منها . وتقديره : فتثبتوا ولا تعجلوا بالطلاق ، لأن قوله { فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً } يفيد إمكان أن تكون المرأة المكروهة سببَ خيرات فيقتضي أن لا يتعجّل في الفراق .
و { عَسَى } هنا للمقاربة المجازية أو الترجّي . و{ أن تكرهوا } سادَ مسدّ معموليها ، { وَيَجْعَلَ } معطوف على { تكرهوا } ، ومناط المقاربةِ والرجاءِ هو مجموع المعطوف والمعطوف عليه ، بدلالة القرينة على ذلك .
وهذه حكمة عظيمة ، إذ قد تكره النفوس ما في عاقبته خير فبعضه يمكن التوصّل إلى معرفة ما فيه من الخير عند غوص الرأي . وبعضه قد علم الله أنّ فيه خيراً لكنّه لم يظهر للناس . قال سهل بن حنيف ، حين مرجعه من صفّين « اتَّهِموا الرأي فلقد رأيتُنا يَوم أبي جندل ولو نستطيع أن نردّ على رسول الله أمْره لردَدْنا . واللَّه ورسولُه أعلم » . وقد قال تعالى ، في سورة البقرة { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم } [ البقرة : 216 ] .
والمقصود من هذا : الإرشادُ إلى إعماق النظر وتغلغل الرأي في عواقب الأشياء ، وعدم الاغترار بالبوارق الظاهرة . ولا بميل الشهوات إلى ما في الأفعال من ملائم ، حتّى يسبره بمسبار الرأي ، فيتحقّق سلامة حسن الظاهر من سُوء خفايا الباطن .
واقتصر هنا على مقاربة حصول الكراهية لشيء فيه خير كثير ، دون مقابلة ، كما في آية البقرة ( 216 ) { وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم } لأنّ المقام في سورة البقرة مقام بيان الحقيقة بطَرفيها إذ المخاطبون فيها كَرِهوا القتال ، وأحبّوا السلم ، فكان حالهم مقتضيا بيان أنّ القتال قد يكون هو الخير لما يحصل بعده من أمن دائم ، وخضد شوكة العدوّ ، وأنّ السلم قد تكون شرّا لما يحصل معها من استخفاف الأعداء بهم ، وطمعهم فيهم ، وذهاب عزّهم المفضي إلى استعبادهم ، أمّا المقام في هذه السورة فهو لبيان حكم من حدث بينه وبين زوجه ما كَرّهه فيها ، ورام فراقها ، وليس له مع ذلك ميل إلى غيرها ، فكان حاله مقتضياً بيان ما في كثير من المكروهات من الخيرات ، ولا يناسب أن يبيّن له أنّ في بعض الأمور المحبوبة شروراً لكونه فتحا لباب التعلّل لهم بما يأخذون من الطرف الذي يميل إليه هواهم . وأُسند جعل الخير في المكروه هُنا للَّه بقوله : { ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } المقتضى أنه جَعْل عارض لمكروه خاصّ ، وفي سورة البقرة ( 216 ) قَال : { وهو خير لكم } لأنّ تلك بيان لما يقارن بعض الحقائق من الخفاء في ذات الحقيقة ، ليكون رجاء الخير من القتال مطّردا في جميع الأحوال غير حاصل بجَعْل عارض ، بخلاف هذه الآية ، فإنّ الصبْر على الزوجة الموذية أو المكروهة إذا كان لأجل امتثال أمر الله بحسن معاشرتها ، يكون جعل الخير في ذلك جزاءً من الله على الامتثال .