ثم بين - سبحانه - جابنا من أهوال يوم القيامة ، ومن حال الكافرين فيه ، فقال : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ .
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود وَهُمْ سَالِمُونَ } .
والظرف " يوم " يجوز أن يكون متعلقا بقوله - تعالى - قبل ذلك { فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ . . . } ويصح أن يكون متعلقا بمحذوف تقديره ، اذكر ، والمراد باليوم ، يوم القيامة .
والكشف عن الساق معناه التشمير عنها وإظهارها ، وهو مثل لشدة الحال ، وصعوبة الخطب والهول ، وأصله أن الإنسان إذا اشتد خوفه ، أسرع فى المشى ، وشمر عن ثيابه ، فينكشف ساقه .
قال صاحب الكشاف : الكشف عن الساق ، والإبداء عن الخدام - أى : الخلخال الذى تلبسه المرأة فى رجلها - وهو جمع خَدَمة كرقاب جمع رقبة - مثل فى شدة الأمر ، وصعوبة الخطب ، وأصله فى الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهن فى الهرب ، وإبداء خِدَامهن عند ذلك . .
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها . . . وإن شمرت عن سوقها الحرب شمرا
فمعنى يوم يكشف عن ساق : يوم يشتد الأمر يتفاقم ، ولا كشف ولا ساق ، كما تقول للأقطع الشحيح : يده مغلولة ، ولا يد ثَمَّ ولا غل ، وإنما هو مثل فى البخل . .
فإن قلت : فلم جاءت منكرة فى التمثيل ؟ قلت : للدلالة على أنه أمر مبهم فى الشدة فظيع خارج عن المألوف . .
والمعنى : اذكر لهم - أيها الرسول الكريم - لكى يعتبروا ويتعظوا أهوال يوم القيامة ، يوم يشتد الأمر ، ويعظم الهول .
{ وَيُدْعَوْنَ } هؤلاء الذين فسقوا عن أمر ربهم فى هذا اليوم { إِلَى السجود } لله - تعالى - على سبيل التوبيخ لهم ، لأنهم كانوا ممتنعين عنه فى الدنيا . .
{ فَلاَ يَسْتَطِيعُون } أى : فلا يستطيعون ذلك ، لأنه الله - تعالى - سلب منهم القدرة على السجود له فى هذا اليوم العظيم ، لأنه يوم جزاء وليس يوم تكليف والذين يدعونهم إلى السجود ، هم الملائكة بأمره - تعالى - .
وقوله : { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ . . . } حال من فاعل { يدعون } وخشوع الأبصار : كناية عن الذلة والخوف الشديد ، ونسب الخشوع إلى الأبصار ، لظهور أثره فيها .
أى : هم يدعون إلى السجود فلا يستطيعون ذلك . لأنه - تعالى - سلب منهم القدرة عليه ، ثم يساقون إلى النار ، حالة كونهم ذليلة أبصارهم ، منخفضة رءوسهم . .
{ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أى : تغشاهم وتعلوهم ذلة وانكسار . .
{ وَقَدْ كَانُواْ } فى الدنيا { يُدْعَوْنَ إِلَى السجود } لله - تعالى - { وَهُمْ سَالِمُونَ } أى : قادرون على السجود له - تعالى - ، ومتمكنون من ذلك أقوى تمكن . . ، ولكنهم كانوا يعرضون عمن يدعوهم إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - ، ويستهزئون به . .
قال الإِمام انب كثير ما ملخصه : قوله : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ . . . } يعنى يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال ، والزلازل ، والبلايا ، والامتحان ، والأمور العظام . .
روى البخارى عن أبى سعيد الخدرى قال : سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول : يكشف ربنا عن ساقه ، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ، ويبقى من كان يسجد فى الدنيا رياء وسمعة ، فيذهب ليسجد فيعود ظهره ، طبقا واحدا - أى : يصير ظهره كالشئ الصلب فلا يقدر على السجود- .
وعن ابن عباس قال : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } : وهو يوم كرب وشدة . .
( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون . خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة . وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ) . .
فيقفهم وجها لوجه أمام هذا المشهد كأنه حاضر اللحظة ، وكأنه يتحداهم فيه أن يأتوا بشركائهم المزعومين . وهذا اليوم حقيقة حاضرة في علم الله لا تتقيد في علمه بزمن . واستحضارها للمخاطبين على هذا النحو يجعل وقعها عميقا حيا حاضرا في النفوس على طريقة القرآن الكريم .
والكشف عن الساق كناية - في تعبيرات اللغة العربية المأثورة - عن الشدة والكرب . فهو يوم القيامة الذي يشمر فيه عن الساعد ويكشف فيه عن الساق ، ويشتد الكرب والضيق . . ويدعى هؤلاء المتكبرون إلى السجود فلا يملكون السجود ، إما لأن وقته قد فات ، وإما لأنهم كما وصفهم في موضع آخر يكونون : ( مهطعين مقنعي رؤوسهم )وكأن أجسامهم وأعصابهم مشدودة من الهول على غير إرادة منهم ! وعلى أية حال فهو تعبير يشي بالكرب والعجز والتحدي المخيف . .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } .
يقول تعالى ذكره يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل : يبدو عن أمر شديد . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبيد المحاربيّ ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن أُسامة بن زيد ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال : هو يوم حرب وشدّة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، عن ابن عباس يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال : عن أمر عظيم كقول الشاعر :
*** وقامَتِ الحَرْبُ بنا على ساقِ ***
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ولا يبقى مؤمن إلا سجد ، ويقسو ظهر الكافر فيكون عظما واحدا . وكان ابن عباس يقول : يكشف عن أمر عظيم ، إلا تسمع العرب تقول :
*** وقامَتِ الحَرْبُ بنا على ساق ***
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ يقول : حين يكشف الأمر ، وتبدو الأعمال ، وكشفه : دخول الاَخرة وكشف الأمر عنه .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن ابن عباس ، قوله يَوْمَ يُكْشَفُ عَن ساقٍ هو الأمر الشديد المفظع من الهول يوم القيامة .
حدثني محمد بن عبيد المحاربيّ وابن حميد ، قالا : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال : شدّة الأمر وجدّه قال ابن عباس : هي أشد ساعة في يوم القيامة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يَوْم يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال : شدّة الأمر ، قال ابن عباس : هي أوّل ساعة تكون في يوم القيامة غير أن في حديث الحارث قال : وقال ابن عباس : هي أشدّ ساعة تكون في يوم القيامة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران عن سفيان ، عن عاصم بن كليب ، عن سعيد بن جبير ، قال : عن شدّة الأمر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال : عن أمر فظيع جليل .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال : يوم يكشف عن شدة الأمر .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وكان ابن عباس يقول : كان أهل الجاهلية يقولون : شمّرت الحرب عن ساق يعني إقبال الاَخرة وذهاب الدنيا .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، قال : حدثنا أبو الزهراء ، عن عبد الله ، قال : «يتمثل الله للخلق يوم القيامة حتى يمرّ المسلمون ، قال : فيقول : من تعبدون ؟ فيقولون : نعبد الله لا نشرك به شيئا ، فينتهزهم مرّتين أو ثلاثا ، فيقول : هل تعرفون ربكم ؟ فيقولون : سبحانه إذا اعترف إلينا عرفناه ، قال : فعند ذلك يكشف عن ساق ، فلا يبقى مؤمن إلا خرّ لله ساجدا ، ويبقى المنافقون ظهورهم طَبَقٌ واحد ، كأنما فيها السفافيد ، فيقولون : ربنا ، فيقول : قد كنتم تدعون إلى السجود وأنتم سالمون » .
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا شريك ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله ابن مسعود ، قال : «ينادي مناد يوم القيامة : أليس عدلاً من ربكم الذي خلقكم ، ثم صوّركم ، ثم رزقكم ، ثم توليتم غيره أن يولى كُلّ عبد منكم ما تولى ، فيقولون : بلى ، قال : فيمثل لكلّ قوم آلهتهم التي كانوا يعبدونها ، فيتبعونها حتى توردهم النار ، ويبقى أهل الدعوة ، فيقول بعضهم لبعض : ماذا تنتظرون ، ذهب الناس ؟ فيقولون : ننتظر أن يُنادي بنا ، فيجيء إليهم في صورة ، قال : فذكر منها ما شاء الله ، فيكشف عما شاء الله أن يكشف ، قال : فيخرّون سجدا إلا المنافقين ، فإنه يصير فقار أصلابهم عظما واحدا مثل صياصي البقر ، فيقال لهم : ارفعوا رؤوسكم إلى نوركم » ثم ذكر قصة فيها طول .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا الأعمش ، عن المنهال عن قيس بن سكن ، قال : حدّث عبد الله وهو عند عمر يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ العَالمِينَ قال : «إذا كان يوم القيامة قال : يقوم الناس بين يدي ربّ العالمين أربعين عاما ، شاخصة أبصارهم إلى السماء ، حُفاة عُراة ، يلجمهم العرق ، ولا يكلمهم بشر أربعين عاما ، ثم ينادي مناد : يا أيها الناس أليس عدلاً من ربكم الذي خلقكم وصوّركم ورزقكم ، ثم عبدتم غيره ، أن يوّلَى كلّ قوم ما تولوا ؟ قالوا : نعم ؟ قال : فيرفع لكل قوم ما كانوا يعبدون من دون الله قال : ويمثل لكل قوم ، يعني آلهتم ، فيتبعونها حتى تقذفهم في النار ، فيبقى المسلمون والمنافقون ، فيقال : ألا تذهبون فقد ذهب الناس ؟ فيقولون : حتى يأتينا ربنا ، قال : وتعرفونه ؟ فقالوا : إن اعترف لنا ، قال : فيتجلى فيخرّ من كان يعبده ساجدا ، قال : ويبقى المنافقون لا يستطيعون كأن في ظهورهم السفافيد . قال : فيذهب بهم فيساقون إلى النار ، فيقذف بهم ، ويدخل هؤلاء الجنة ، قال : فيستقبلون في الجنة بما يستقبلون به من الثواب والأزواج والحور العين ، لكلّ رجل منهم في الجنة كذا وكذا ، بين كل جنة كذا وكذا ، بين أدناها وأقصاها ألف سنة هو يرى أقصاها كما يرى أدناها قال : ويستقبله رجل حسن الهيئة إذا نظر إليه مُقبلاً حسب أنه ربه ، فيقول له : لا تفعل إنما أنا عبدك وقَهْرَمانك على ألف قرية قال : يقول عمر : يا كعب ألا تسمع ما يحدّث به عبد الله » ؟ .
حدثنا ابن جَبَلة ، قال : حدثنا يحيى بن حماد ، قال : حدثنا أبو عوانة ، قال : حدثنا سليمان الأعمش ، عن المنهال ابن عمرو ، عن أبي عبيدة وقيس بن سكن ، قالا : قال عبد الله وهو يحدّث عمر ، قال : وجعل عمر يقول : ويحك يا كعب ، ألا تسمع ما يقول عبد الله ؟ «إذا حشر الناس على أرجلهم أربعين عاما شاخصة أبصارهم إلى السماء ، لا يكلمهم بشر ، والشمس على رؤوسهم حتى يلجمهم العرق ، كلّ برّ منهم وفاجر ، ثم ينادي منادٍ من السماء : يا أيها الناس أليس عدلاً من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وصوّركم ، ثم توليتم غيره ، أن يولي كلّ رجل منكم ما تولى ؟ فيقولون : بلى ثم ينادي مناد من السماء : يا أيها الناس ، فلتنطلق كلّ أمة إلى ما كانت تعبد ، قال : ويبسط لهم السراب ، قال : فيمثل لهم ما كانوا يعبدون ، قال : فينطلقون حتى يلجوا النار ، فيقال للمسلمين : ما يحبسكم ؟ فيقولون : هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فيقال لهم : هل تعرفونه إذا رأيتموه ؟ فيقولون : إن اعترف لنا عرفناه » .
قال : وثني أبو صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «حتى إن أحدهم ليلتفّ فيكشف عن ساق ، فيقعون سجودا ، قال : وتُدْمَج أصلاب المنافقين حتى تكون عظما واحدا ، كأنها صياصي البقر ، قال : فيقال لهم : ارفعوا رؤوسكم إلى نوركم بقدر أعمالكم قال : فترفع طائفة منهم رؤوسهم إلى مثل الجبال من النور ، فيمرّون على الصراط كطرف العين ، ثم ترفع أخرى رؤوسهم إلى أمثال القصور ، فيمرّون على الصراط كمرّ الريح ، ثم يرفع آخرون بين أيديهم أمثال البيوت ، فيمرّون كمرّ الخيل ثم يرفع آخرون إلى نور دون ذلك ، فيشدّون شدّا وآخرون دون ذلك يمشون مشيا حتى يبقى آخر الناس رجل على أنملة رجله مثل السراج ، فيخرّ مرّة ، ويستقيم أخرى ، وتصيبه النار فتشعث منه حتى يخرج ، فيقول : ما أُعطي أحد ما أعطيت ، ولا يدري مما نجا ، غير أني وجدت مسها ، وإني وجدت حرّها » وذكر حديثا فيه طول اختصرت هذا منه .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، قال : حدثنا هشام بن سعد ، قال : حدثنا زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخُدْريّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ألا لتلحق كلّ أمة بما كانت تعبد ، فلا يبقى أحدّ كان يعبد صنما ولا وثنا ولا صورة إلا ذهبوا حتى يتساقطوا في النار ، ويبقى من كان يعبد الله وحده من برّ وفاجر ، وغُبّرات أهل الكتاب ثم تعرض جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا ، ثم تدعى اليهود ، فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون : عزَيز ابن الله ، فيقول : كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد ، فماذا تريدون ؟ فيقولون : أي ربنا ظمئنا فيقول : أفلا تردون فيذهبون حتى يتساقطوا في النار ، ثم تدعى النصارى ، فيقال : ماذا كنتم تعبدون ؟ فيقولون : المسيح ابن الله ، فيقول : كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد ، فماذا تريدون ؟ فيقولون : أي ربنا ظمئنا اسقنا ، فيقول : أفلا تردون ، فيذهبون فيتساقطون في النار ، فيبقى من كان يعبد الله من برّ وفاجر قال : ثم يتبدّى الله لنا في صورة غير صورته التي رأيناه فيها أوّل مرّة ، فيقول : أيها الناس لحقت كلّ أمة بما كانت تعبد ، وبقيتم أنتم فلا يكلمه يومئذٍ إلا الأنبياء ، فيقولون : فارقنا الناس في الدنيا ، ونحن كنا إلى صحبتهم فيها أحوج لحقت كلّ أمة بما كانت تعبد ، ونحن ننتظر ربنا الذي كنا نعبد ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، فيقول : هل بينكم وبين الله آية تعرفونه بها ؟ فيقولون نعم ، فيكشف عن ساق ، فيخرّون سجدا أجمعون ، ولا يبقى أحد كان سجد في الدنيا سمعة ولا رياء ولا نفاقا ، إلا صار ظهره طبقا واحدا ، كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه قال : ثم يرجع يرفع برّنا ومسيئنا ، وقد عاد لنا في صورته التي رأيناه فيها أوّل مرّة ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعم أنت ربنا ثلاث مرّار » .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثني أبي وسعيد بن الليث ، عن الليث ، قال : حدثنا خالد ابن يزيد ، عن أبي هلال ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يُنادِي مُنادِيةِ فَيَقُولُ : لِيَلْحَقْ كُل قَوْمٍ بِمَا كانُوا يَعْبُدُونَ فَيَذْهَبُ أصحَابُ الصّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ ، وأصحَابُ الأوْثانِ مَعَ أوْثانِهِم ، وأصحَابُ كُلّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ ، حتى يَبْقَى مَنْ كانَ يَعْبُدُ اللّهَ مِنْ بَرْ وَفاجِرٍ وَغُبّرَاتِ أهْل الكِتابِ ، ثُمّ يُؤْتي بِجَهَنّمْ تَعْرِضُ كأنّها سَرَابٌ » ثم ذكر نحوه ، غير أنه قال «فإنّا نَنْتَظِرُ رَبّنا » فقال : إن كان قاله فيأتِيهم الجبار ، ثم حدثنا الحديث نحو حديث المسروقي .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عبد الرحمن المحاربيّ ، عن إسماعيل بن رافع المدنيّ ، عن يزيد بن أبي زياد عن رجل من الأنصار ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يأْخُذُ اللّهُ للْمَظْلُومِ مِنَ الظّالِمِ حتى إذَا لَمْ يَبْقَ تَبعةٌ لأَحَدٍ عِنْدِ أحَدٍ جَعَلَ اللّهُ مَلَكا مِنَ المَلائِكَةِ على صُورَةِ عُزَيْزٍ ، فَنَتْبَعُهُ اليهُودُ ، وَجَعَلَ اللّهُ مَلَكا مِنَ المَلائِكَةِ على صُورَةِ عِيسَى فَتَتْبَعُهُ النّصَارَى ، ثُمّ نادَى مُنادٍ أسمَعَ الخَلائِقَ كُلّهُمْ ، فَقالَ : ألا لِيَلْحَقْ كُلّ قَوْمٍ بِآلَهَتِهِمْ ومَا كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله ، فَلا يَبْقَى أحَدٌ كانَ يَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللّهِ شيْئا إلا مُثّلَ لَهُ آلهَتُهُ بَينَ يَدَيْه ، ثُمّ قادَتْهُمْ إلى النّارِ حتى إذَا لَمْ يَبْقَ إلاّ المُؤْمِنُون فِيهِمُ المُنافِقُون قالَ اللّهُ جَلّ ثَناؤُهُ : أيّها النّاسُ ذَهَبَ النّاسُ ، ذَهَبَ النّاسُ ، الْحَقُوا بِآلِهَتِكُمْ ومَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ، فَيَقُولُونَ : وَاللّهِ مالَنا إلَهٌ إلاّ اللّهُ ومَا كُنّا نَعْبُدُ إلَها غَيْرَه ، وَهُوَ اللّهُ ثَبّتَهُمْ ، ثُمّ يَقُولُ لَهُمُ الثّانِيَةَ مِثْلَ ذلكَ : الْحَقُوا بآلِهَتِكُمْ ومَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ، فَيَقُولُونَ مِثْلَ ذلكَ ، فَيُقالُ : هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَينَ رَبّكُمْ مِنْ آيَةٍ تَعْرِفُونَها ؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ ، فَيَتَجَلّى لَهُمْ مِنْ عَظَمَتِهِ ما يَعْرِفُونَهُ أنّه رَبّهُمْ فَيَخِرّونَ لَهُ سُجّدا على وُجُوهِهمْ وَيَقَعُ كُلّ مُنافِقٍ على قَفاهُ ، ويَجْعَلُ اللّهُ أصْلابَهُمْ كَصَياصِي البَقَرِ » .
وحدثني أبو زيد عمر بن شبة ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا أبو سعيد روح بن جناح ، عن مولى لعمر بن عبد العزيز ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال : «عن نور عظيم ، يخرّون له سجدا » .
حدثني جعفر بن محمد البزْوَرِيّ ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر ، عن الربيع في قوله الله يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال : يكشف عن الغطاء ، قال : ويُدْعَونَ إلى السجود وهم سالمون .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن أُسامة بن زيد ، عن عكرِمة ، في قوله يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال : هو يومُ كربٍ وشدّة .
وذُكر عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك : «يَوْمَ تَكْشِفُ عَنْ ساقٍ » بمعنى تكشف القيامة عن شدّة شديدة ، والعرب تقول : كشَف هذا الأمرُ عن ساق : إذا صار إلى شدّة ومنه قول الشاعر :
كَشَفَتْ لَهُمْ عَنْ ساقِها *** وَبَدَا مِنَ الشّرّ الصّرَاحُ
وقوله : وَيُدْعَوْنَ إلى السّجُودِ فَلا يَسْتَطيعُونَ يقول : ويدعوهم الكشف عن الساق إلى السجود لله تعالى فلا يطيقون ذلك .
وقوله تعالى : { يوم يكشف عن ساق } ، قال مجاهد : هي أول ساعة من يوم القيامة ، وهي أفظعها ، وتظاهر حديث من النبي صلى الله عليه وسلم : «أنه ينادي مناد يوم القيامة ليتبع كل أحد ما كان يعبد » ، قال : «فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر القمر ، وكذلك كل عابد لكل معبود ثم تبقى هذه الأمة وغبرات أهل الكتاب{[11257]} ، معهم منافقوهم وكثير من الكفرة ، فيقال لهم : ما شأنكم لم تقفون ، وقد ذهب الناس فيقولون ننتظر ربنا فيجيئهم الله تعالى في غير الصورة التي عرفوه بها ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، قال فيقول : أتعرفونه بعلامة ترونها فيقولون : نعم ، فيكشف لهم عن ساق ، فيقولون : نعم أنت ربنا ، ويخرون للسجود فيسجد كل مؤمن وتصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظماً واحداً ، فلا يستطيعون سجوداً »{[11258]} .
قال القاضي أبو محمد : هكذا هو الحديث وإن اختلفت منه ألفاظ بزيادة ونقصان ، وعلى كل وجه فما ذكر فيه من كشف الساق وما في الآية من ذلك ، فإنما هو عبارة عن شدة الهول وعظم القدرة التي يرى الله تعالى ذلك اليوم حتى يقع العلم أن تلك القدرة إنما هي لله تعالى وحده ، ومن هذا المعنى قول الشاعر في صفة الحرب [ جد طرفة ] : [ مجزوء الكامل ]
كشفت لهم عن ساقها . . . وبدا عن الشر البراح{[11259]}
وشمرت عن ساقها فشدوا . . . {[11260]}
في سنة قد كشفت عن ساقها . . . حمراء تبري اللحم عن عراقها{[11261]}
وأصل ذلك أنه من أراد الجد في أمر يحاوله فإنه يكشف عن ساقه تشميراً وجداً ، وقد مدح الشعراء بهذا المعنى فمنه قول دريد : [ الطويل ]
كميش الإزار خارج نصف ساقه . . . صبور على الضراء طلاع أنجدِ{[11262]}
وعلى هذا من إرادة الجد والتشمير في طاعة الله تعالى ، قال صلى الله عليه وسلم : «أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه »{[11263]} . وقرأ جمهور الناس : «يُكشَف عن ساق » بضم الياء على بناء الفعل للمفعول ، وقرأ ابن مسعود : «يَكشِف » بفتح الياء وكسر الشين على معنى يكشف الله ، وقرأ ابن عباس : «تُكشف » بضم التاء على معنى تكشف القيامة والشدة والحال الحاضرة ، وقرأ ابن عباس أيضاً : «تَكشف » بفتح التاء على أن القيامة هي الكاشفة ، وحكى الأخفش عنه أنه قرأ : «نَكشِف » بالنون مفتوحة وكسر الشين ، ورويت عن ابن مسعود . وقوله تعالى : { ويدعون } ظاهره أن ثم دعاء إلى السجود ، وهذا يرده ما قد تقرر في الشرع من أن الآخرة ليست بدار عمل وأنها لا تكليف فيها ، فإذا كان هذا فإنما الداعي ما يرونه من سجود المؤمنين فيريدون هم أن يسجدوا عند ذلك فلا يستطيعونه . وقد ذهب بعض العلماء إلى أنهم يدعون إلى السجود على جهة التوبيخ ، وخرج بعض الناس من قوله : { فلا يستطيعون } أنهم كانوا يستطيعونه قبل ذلك ، وذلك غير لازم . وعقيدة الأشعري : أن الاستطاعة إنما تكون مع التلبس بالفعل لما قبله ، وهذا القدر كاف من هذه المسألة هاهنا .
يجوز أن يكون { يوم يُكشف } متعلقاً بقوله : { فليأتوا بشركائهم } [ القلم : 41 ] ، أي فليأتوا بالمزعومين يومَ القيامة ، وهذا من حُسن التخلص إلى ذكر أهوال القيامة عليهم .
ويجوز أن يكون استئنافاً متعلقاً بمحذوف تقديره : اذكُرْ يوم يُكشف عن ساق ويُدعون إلى السجود الخ للتذكير بأهوال ذلك اليوم .
وعلى كلا الوجهين في تعلق { يوم } فالمراد باليوم يوم القيامة .
والكشف عن ساق : مثَل لشدة الحال وصعوبة الخطب والهول ، وأصله أن المرء إذا هلع أن يسرع في المشي ويشمر ثيابه فيكشف عن ساقه كما يقال : شمر عن ساعد الجد ، وأيضاً كانوا في الروع والهزيمة تشمر الحرائر عن سوقهن في الهرب أو في العمل فتنكشف سوقهن بحيث يشغلهن هول الأمر عن الاحتراز من إبداء ما لا تبدينه عادةً ، فيقال : كشفت عن ساقها أو شَمَّرت عن ساقها ، أو أبْدت عن ساقها ، قال عبد الله بن قيس الرقيات :
كيف نوْمي على الفراش ولما *** تشملْ الشامَ غارةٌ شَعْواء
تُذهل الشيخ عن بنيه وتبـدي *** عن خِدَام العقيلة العذراء
وفي حديث غزوة أحد قال أنس بن مالك : « انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولقد رأيت عائشة وأم سليم وأنهما لمشمّرتان أرى خَدَم سوقهمَا تنقلان القِرَب على متُونهما ثم تُفْرِغَانها في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها » الخ ، فإذا قالوا : كشف المرء عن ساقه فهو كناية عن هول أصابه وإن لم يكن كشف ساقه . وإذا قالوا : كشف الأمر عن ساق ، فقد مثلوه بالمرأة المروعة ، وكذلك كشفت الحرب عن ساقها ، كل ذلك تمثيل إذ ليس ثمة ساق قال حاتم :
فتى الحرب عضّت به لحرب الحرب عضها *** وإن شمرت عن سَاقها الحرب شمَّرا
كشفتْ لهم عن ساقها *** وبدا من الشر البَواح
وقرأ ابن عباس { يوم تَكشف } بمثناة فوقية وبصيغة البناء للفاعل على تقدير تكشف الشدة عن ساقها أو تكشف القيامة ، وقريب من هذا قولهم : قامت الحرب على ساق .
والمعنى : يوم تبلغ أحوال الناس منتهى الشدة والروْع ، قال ابن عباس : يكشف عن ساق : عن كرب وشدة ، وهي أشد ساعة في يوم القيامة .
وروى عبد بن حميد وغيره عن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن هذا ، فقال : « إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب » ، أما سمعتم قول الشاعر :
صبراً عَنَاقُ إنه لشِرْباقْ *** فقد سنّ لي قومُككِ ضربَ الأعناقْ{[434]}
وقال مجاهد : { يكشف عن ساق } : شدّة الأمر .
وجملة { ويُدْعون } ليس عائداً إلى المشركين مثل ضمير { إِنا بلوناهم } [ القلم : 17 ] إذ لا يساعد قوله : { وقد كانوا يدعون إلى السجود } فإن المشركين لم يكونوا في الدنيا يُدْعَون إلى السجود . فالوجه أن يكون عائداً إلى غير مذكور ، أي ويُدعَى مدعوون فيكون تعريضاً بالمنافقين بأنهم يحشرون مع المسلمين ويمتحن الناس بدعائهم إلى السجود ليتميز المؤمنون الخُلص عن غيرهم تَميز تشريف فلا يستطيع المنافقون السجود فيفتضح كفرهم ، قال القرطبي عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود : فمن كان يعبد الله مخلصاً يخِرُّ ساجداً له ويبقى المنافقون لا يستطيعون كأنَّ في ظهورهم السفافيد اه .
فيكون قوله تعالى : { ويدعون إلى السجود } إدماجاً لذكر بعض ما يحصل من أحوال ذلك اليوم .
وفي « صحيح مسلم » من حديث الرؤية وحديث الشفاعة عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فيُكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلاّ أذن الله له بالسجود ، ولا يبقى من كان يسجد رياء إلاّ جعل الله ظهره طبقَة واحدة كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه " الحديث ، فيصلح ذلك تفسيراً لهذه الآية .
وقد اتبع فريق من المفسرين هذه الرواية وقالوا : يكشِف الله عن ساقه ، أي عن مثل الرِجْل ليراها الناس ثم قالوا هذا من المتشابه ، على أنه روي عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { عن ساقِ } قال يكشف عن نور عظيم يَخرون له سجداً .
ورُويت أخبار أخرى ضعيفة لا جدوى في ذكرها .
و { السجود } الذي يُدعون إليه : سجودُ الضراعة والخضوع لأجل الخلاص من أهوال الموقف .
وعدم استطاعتهم السجود لسلب الله منهم الاستطاعة على السجود ليعلموا أنهم لا رجاء لهم في النجاة .
والذي يدعوهم إلى السجود الملائكة الموكلون بالمحشر بأمر الله تعالى كقوله تعالى : { يَوم يدعو الداعي إلى شيء نكر إلى قوله : { مهطعين إلى الداعي } [ القمر : 68 ] ، أو يدعو بعضهم بعضاً بإلهام من الله تعالى ، وهو نظير الدعوة إلى الشفاعة في الأثر المروي « فيقول بعضهم لبعض : لو استشفعنا إلى ربّنا حتى يريحنا من موقفنا هذا » .