ثم حكى القرآن لوناً من ألوان مكرهم فقال : { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله } .
أى : وإذا جاءت أولئك المشركين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم " لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها " حجة قاطعة تشهد بصدقك يا محمد فيما تبلغه عن ربك ، قالوا حسدا لك ، لن نؤمن لك يا محمد حتى تعطى من الوحى والرسالة مثلما أعطى رسل الله ، وأضافوا الإيتاء إلى رسل الله ، لأنهم لا يعترفون بما أوتيه صلى الله عليه وسلم من الوحى والرسالة .
روى أن الوليد بن المغيرة قال للنبى صلى الله عليه وسلم : لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أولى بها منك لأنى أكبر منك سناً وأكثر مالا فأنزل الله هذه الآية " .
وقال مقاتل : نزلت فى أبى جهل وذلك أنه قال : زاحمنا بنو عبد المطلب فى الشرف حتى إذا صرنا كفرسى رهان قالوا : منا نبى يوحى إليه ، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحى كما يأتيه ، فأنزل الله هذه الآية " .
وقد رد الله - تعالى - على هؤلاء الحاسدين ردا حاسما فقال : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } أى : أن للرسالة موضوعا مخصوصا لا يصلح وضعها إلا فيه ، فمن كان مخصوصاً موصوفا بتلك الصفات لأجلها يصلح وضع الرسالة فيه كان رسولا وإلا فلا ، والعالم بتلك الصفات ليس إلا الله - تعالى - ثم قال : وفى هذه الجملة الكريمة تنبيه على دقيقة أخرى وهى أن أقل ما لا بد منه فى حصول النبوة والرسالة والبراءة عن المكر والغدر والغل والحسد ، وقوله { لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله } عين المكر والغدر والغل والحسد ، فكيف يعقل حصول النبوة والرسالة مع هذه الصفات " .
وهذه الجملة حجة لأهل الحق على أن الرسالة هبة من الله يختص بها من يشاء من عباده ، ولا ينالها أحد بكسبه ولا بذكائه ولا بنسبه .
ولذا قال الإمام الآلوسى : وجملة { الله أَعْلَمُ } . . . الخ . استئناف بيانى ، والمعنى : أن منصب الرسالة ليس مما ينال بما يزعمونه من كثرة المال والولد ، وتعاضد الأسباب والعدد ، وإنما ينال بفضائل نفسانية ، ونفس قدسية أفاضها الله - تعالى - بمحض الكرم والجود على من كمل استعداده " .
هذا . وقد وردت أحاديث كثيرة تحدث النبى صلى الله عليه وسلم فيها عن اصطفاء الله له وفضله عليه ، ومن ذلك ما رواه الإمام مسلم عن وائلة ابن الأسقع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله - عز وجل - اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من بنى إسماعيل بنى كنانة ، واصطفى من بنى كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بنى هاشم ، واصطفى من بنى هاشم محمدا صلى الله عليه وسلم " .
وروى الإمام أحمد عن المطلب عن أبى وداعة عن العباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله خلق الخلق فجعلنى فى خير خلقه ، وجعلهم فريقين ، فجعلنى فى خير فرقة ، وخلق القبائل فجعلنى فى خير قبيلة ، وجعلهم بيوتا ، فجعلنى فى خيرهم بيتا ، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا " .
ثم بين - سبحانه - عاقبة أولئك الماكرين الحاسدين للنبى - صلى الله عليه وسلم - على ما آتاه الله من فضله فقال : { سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } .
قال القرطبى ما ملخصه : الصغار : الضيم والذل والهوان . والمصدر الصغر بالتحريك - وأصله من الصغر دون الكبر فكأن الذل يصغر إلى المرء نفسه وقيل : أصله من الصغر وهو الرضا بالذل . والصاغر : الراضى بالذل . وأرض مصغرة : نبتها صغير لم يطل . ويقال : صغر - بالكسر - يصغر صغراً وصغاراً فهو صاغر إذا ذل وهان " .
والمعنى : سيصيب الذين أجرموا بعد تكبرهم وغرورهم وتطاولهم ذل عظيم وهوان شديد ثابت لهم عند الله فى الدنيا والآخرة ، وبسبب مكرهم المستمر ، وعدائهم الدائم لرسل الله وأوليائه .
والجملة الكريمة استئناف آخر ناع على أولئك الماكرين ما سيلقونه من ألوان العقوبات بعد ما نعى عليهم حرمانهم مما أنكره من إيتائهم مثل ما أوتى رسل الله ، والسين للتأكيد .
والعندية فى قوله " عند الله " مجاز عن حشرهم يوم القيامة ، أو عن حكمه سبحانه - وقضائه فيهم بذلك ، كقولهم : ثبت عند فلان القاضى كذا أى : فى حكمه ، ولذا قدم الصغار على العذاب لأنه يصيبهم فى الدنيا .
قال ابن كثير : ولما كان المرك غالبا إنما يكون خفيا ، وهو التلطف فى التحيل والخديعة ، قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقا ولا يظلم ربك أحداً . وجاء فى الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ينصب لكل غادر لواء عند إسته يوم القيامة فيقال : هذه غدرة فلان بن فلان " والحكمة فى ذلك أنه لما كان الغدر خفيا لا يطلع عليه الناس ، فيوم القيامة يصير علما منشوراً على صاحبه بما فعل " .
ثم يكشف السياق القرآني عن طبيعة الكبر في نفوس أعداء رسل الله ودينه . . الكبر الذي يمنعهم من الإسلام ؛ خيفة أن يرجعوا عباداً لله كسائر العباد ، فهم يطلبون امتيازاً ذاتياً يحفظ لهم خصوصيتهم بين الأتباع . ويكبر عليهم أن يؤمنوا للنبي فيسلموا له ، وقد تعودوا أن يكونوا في مقام الربوبية للأتباع ، وأن يشرعوا لهم فيقبلوا منهم التشريع ، وأن يأمروهم فيجدوا منهم الطاعة والخضوع . . من أجل ذلك يقولون قولتهم المنكرة الغبية كذلك : لن نؤمن حتى نؤتي مثلما أوتي رسل الله :
( وإذا جاءتهم آية قالوا : لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) .
وقد قال الوليد بن المغيرة : لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك ، لأني أكبر منك سنا ، وأكثر منك مالا ! وقال أبو جهل : والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً ، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه !
وواضح أن الكبر النفسي ، وما اعتاده الأكابر من الخصوصية بين الأتباع ، ومظهر هذه الخصوصية الأول هو الأمر منهم والطاعة والاتباع من الأتباع ! . . واضح أن هذا من أسباب تزيين الكفر في نفوسهم ، ووقوفهم من الرسل والدين موقف العداء .
ويرد الله على قولتهم المنكرة الغبية . . أولا بتقرير أن أمر اختيار الرسل للرسالة موكول إلى علمه المحيط بمن يليق بهذا الأمر الكوني الخطير . . ويرد عليهم ثانيا بالتهديد والتحقير وسوء المصير :
( الله أعلم حيث يجعل رسالته . سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) . .
إن الرسالة أمر هائل خطير . أمر كوني تتصل فيه الإرادة الأزلية الأبدية بحركة عبد من العبيد . ويتصل فيه الملأ الأعلى بعالم الإنسان المحدود . وتتصل فيه السماء بالأرض ، والدنيا بالآخرة ، ويتمثل فيه الحق الكلي ، في قلب بشر ، وفي واقع ناس ، وفي حركة تاريخ . وتتجرد فيها كينونة بشرية من حفظ ذاتها لتخلص لله كاملة ، لا خلوص النية والعمل وحده ، ولكن كذلك خلوص المحل الذي يملؤه هذا الأمر الخطير . فذات الرسول [ ص ] تصبح موصولة بهذا الحق ومصدره صلة مباشرة كاملة . وهي لا تتصل هذه الصلة إلا أن تكون من ناحية عنصرها الذاتي صالحة للتلقي المباشر الكامل بلا عوائق ولا سدود . .
والله وحده - سبحانه - هو الذي يعلم أين يضع رسالته ، ويختار لها الذات التي تنتدب من بين ألوف الملايين ، ويقال لصاحبها : أنت منتدب لهذا الأمر الهائل الخطير .
والذين يتطلعون إلى مقام الرسالة ؛ أو يطلبون أن يؤتوا مثل ما أوتي الرسول . . هم أولا من طبيعة لا تصلح أساساً لهذا الأمر . فهم يتخذون من ذواتهم محوراً للوجود الكوني ! والرسل من طبيعة أخرى ، طبيعة من يتلقى الرسالة مستسلماً ، ويهب لها نفسه ، وينسى فيها ذاته ، ويؤتاها من غير تطلع ولا ارتقاب : ( وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب ، إلا رحمة من ربك ) . . ثم هم بعد ذلك جهال لا يدركون خطورة هذا الأمر الهائل ، ولا يعلمون أن الله وحده هو الذي يقدر بعلمه على اختيار الرجل الصالح . .
( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) . .
وقد جعلها سبحانه حيث علم ، واختار لها أكرم خلقه وأخلصهم ، وجعل الرسل هم ذلك الرهط الكريم ، حتى انتهت إلى محمد خير خلق الله وخاتم النبيين .
ثم التهديد بالصغار والهوان على الله ، وبالعذاب الشديد المهين :
( سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) . .
والصغار عند الله يقابل الاستعلاء عند الأتباع ، والاستكبار عن الحق ، والتطاول إلى مقام رسل الله ! . .
والعذاب الشديد يقابل المكر الشديد ، والعداء للرسل ، والأذى للمؤمنين .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نّؤْمِنَ حَتّىَ نُؤْتَىَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وإذا جاءت هؤلاء المشركين الذين يجادلون المؤمنين بزخرف القول فيما حرم الله عليهم ليصدّوا عن سبيل الله آيةٌ يعني : حجة من الله على صحة ما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله وحقيقته ، قالوا لنبيّ الله وأصحابه : لَنْ نُؤْمِنَ يقول : يقولون : لن نصدّق بما دعانا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من الإيمان به ، وبما جاء به من تحريم ما ذكر أن الله حرّمه علينا حتى نُؤْتَى يعنون : حتى يعطيهم الله من المعجزات مثل الذي أعطى مسوى من فلق البحر ، وعيسى من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص . يقول تعالى ذكره : اللّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ يعني بذلك جلّ ثناؤه : أن آيات الأنبياء والرسل لم يعطَها من البشر إلاّ رسول مرسل ، وليس العادلون بربهم الأوثان والأصنام منهم فيعطوها . يقول جلّ ثناؤه : فأنا أعلم بمواضع رسالاتي ومن هو لها أهل ، فليس لكم أيها المشركون أن تتخيروا ذلك عليّ أنتم ، لأن تخير الرسول إلى المرسِل دون المرسَل إليه ، والله أعلم إذا أرسل رسالة بموضع رسالاته .
القول في تأويل قوله تعالى : سَيُصِيبُ الّذِينَ أجَرمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كانُوا يَمْكُرُونَ .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، معلمه ما هو صانع بهؤلاء المتمرّدين عليه : سيصيب يا محمد الذي اكتسبوا الإثم بشركهم بالله وعبادتهم غيره صَغَارٌ يعني : ذلة وهوان . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : سَيُصِيبُ الّذِينَ أجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللّهِ قال : الصغار : الذلة .
وهو مصدر من قول القائل : صَغِرَ يَصْغَرُ صَغارا وَصَغَرا ، وهو وأشدّ الذلّ .
وأما قوله : صَغارٌ عِنْدَ اللّهِ فإن معناه : سيصيبهم صغارٌ من عند الله ، كقول القائل : سيأتيني رزقي عند الله ، بمعنى : من عند الله ، يراد بذلك : سيأتيني الذي لي عند الله . وغير جائز لمن قال : «سيصيبهم صغار عند الله » أن يقول : «جئت عند عبد الله » بمعنى : جئت من عند عبد الله ، لأن معنى «سيصيبهم صغار عند الله » : سيصيبهم الذي عند الله من الذلّ بتكذيبهم رسوله فليس ذلك بنظير «جئت من عند عبد الله » .
وقوله : وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ يقول : يصيب هؤلاء المكذّبين بالله ورسوله المستحلين ما حرّم الله عليهم من الميتة مع الصغار ، عذاب شديد بما كانوا يكيدون للإسلام وأهله بالجدال بالباطل والزخرف من القول غرورا لأهل دين الله وطاعته .
هذه الآية آية ذم للكفار وتوعد لهم ، يقول وإذا جاءتهم علامة ودليل على صحة الشرع تشططوا وتسحبوا وقالوا : إنما يفلق لنا البحر ، إنما يحيي لنا الموتى ونحو ذلك{[5079]} ، فرد الله عز وجل عليهم بقوله : { الله أعلم حيث يجعل رسالاته } أي فيمن اصطفاه وانتخبه لا فيمن كفر وجعل يتشطط على الله ، قال الزجاج : قال بعضهم : الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل المبعث مطاعين في قومهم ، و { أعلم } معلق العمل ، والعامل في { حيث } فعل تقديره : يعلم حيث{[5080]} ، ثم توعد تعالى بأن هؤلاء المجرمين الأكابر في الدنيا سيصيبهم عند الله صغار وذلة ، و { عند الله } متعلقة ب { سيصيب } ، ويصح أن تتعلق ب { صغاراً } لأنه مصدر ، قال الزجّاج : التقدير صغار ثابت عند الله ، قال أبو علي : وهو متعلق ب { صغار } دون تقدير ثابت ولا شيء غيره .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا جاءتهم آية}، يعني انشقاق القمر، والدخان، {قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله}، يعني النبي صلى الله عليه وسلم وحده يقول الله: {الله أعلم حيث يجعل رسالته}، الله أعلم حيث يختص بنبوته من يشاء. {سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله} يعني مذلة،
{وعذاب شديد بما كانوا يمكرون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإذا جاءت هؤلاء المشركين الذين يجادلون المؤمنين بزخرف القول فيما حرم الله عليهم ليصدّوا عن سبيل الله "آيةٌ "يعني: حجة من الله على صحة ما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله وحقيقته، قالوا لنبيّ الله وأصحابه: "لَنْ نُؤْمِنَ" يقول: يقولون: لن نصدّق بما دعانا إليه محمد (صلى الله عليه وسلم) من الإيمان به، وبما جاء به من تحريم ما ذكر أن الله حرّمه علينا "حتى نُؤْتَى" يعنون: حتى يعطيهم الله من المعجزات مثل الذي أعطى موسى من فلق البحر، وعيسى من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. يقول تعالى ذكره: "اللّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ" يعني بذلك جلّ ثناؤه: أن آيات الأنبياء والرسل لم يعطَها من البشر إلاّ رسول مرسل، وليس العادلون بربهم الأوثان والأصنام منهم فيعطوها. يقول جلّ ثناؤه: فأنا أعلم بمواضع رسالاتي ومن هو لها أهل، فليس لكم أيها المشركون أن تتخيروا ذلك عليّ أنتم، لأن تخير الرسول إلى المرسِل دون المرسَل إليه، والله أعلم إذا أرسل رسالة بموضع رسالاته.
"سَيُصِيبُ الّذِينَ أجَرمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كانُوا يَمْكُرُونَ" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، معلمه ما هو صانع بهؤلاء المتمرّدين عليه: سيصيب يا محمد الذي اكتسبوا الإثم بشركهم بالله وعبادتهم غيره "صَغَارٌ" يعني: ذلة وهوان... وأما قوله: "صَغارٌ عِنْدَ اللّهِ" فإن معناه: سيصيبهم صغارٌ من عند الله... وقوله: "وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ" يقول: يصيب هؤلاء المكذّبين بالله ورسوله المستحلين ما حرّم الله عليهم من الميتة مع الصغار، عذاب شديد بما كانوا يكيدون للإسلام وأهله بالجدال بالباطل والزخرف من القول غرورا لأهل دين الله وطاعته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يخبر عز وجل [عن] غاية سفههم وتعنتهم وأنهم عن علم يعاندون، ويتكبرون على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم علموا أن ما ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية، وأنه رسول حين {قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} [وعلموا أن الرسالة لا تجعل إلا في المعظم عند الله والمفضل لديه حين تمنوا أنهم لا يؤمنون حتى يؤتوا من الآيات مثل ما أوتي رسل الله]...
ولو لم يكن ذلك ما تمنوا إيتاء ما أوتي الرسل، [وقد] علموا أن هذا القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم آية وحجة، وأنه من عند الله نزل حين قالوا: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31] وعلموا أيضا أن الرسالة لا تجعل إلا في عظماء من البشر وكبرائهم حين قالوا: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} لكنهم ظنوا أنها إنما تجعل في العظماء الذين هم عند الخلق عظماء، فقال الله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} فتناقضت أقاويلهم وحجاجهم بما ذكرنا من إقرارهم بالرسل والآيات وتفضيلهم أنفسهم على غيرهم من البشر...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... أخبر تعالى على وجه الإنكار عليهم بأنه تعالى أعلم منهم ومن جميع الخلق حيث يجعل رسالاته، لأن الرسالة تابعة للمصلحة، ولا يبعث الله تعالى إلا من يعلم أن مصلحة الخلق تتعلق ببعثه دون من لا يتعلق ذلك به...
ومن يعلم أنه يقوم بأعباء الرسالة دون من لا يقوم بها...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
بعد إزاحة العلة، وبيان الحجة، وزوال الشبهة (فالتعلُّل) باستزادة البصيرة إعلام عن سوء الأدب، وذلك منهم من التعدي؛ لمساواة مَنْ جاء بالاستحقاق بمَنْ جاء بنوع من تسويلات النَّفْس يوجب مقاساة الهوان.
وملازمةُ الحدود، وتركُ التعدي على الحقِّ قضيةُ التوفيق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{الله أَعْلَمُ} كلام مستأنف للإنكار عليهم، وأن لا يصطفى للنبوة إلاّ من علم أنه يصلح لها وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم {سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ} من أكابرها {صَغَارٌ} وقماءة بعد كبرهم وعظمتهم {وَعَذَابٌ شَدِيدٌ} في الدارين من الأسر والقتل وعذاب النار.
.اعلم أنه تعالى حكى عن مكر هؤلاء الكفار وحسدهم أنهم متى ظهرت لهم معجزة قاهرة تدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: لن نؤمن حتى يحصل لنا مثل هذا المنصب من عند الله، وهذا يدل على نهاية حسدهم، وأنهم إنما بقوا مصرين على الكفر لا لطلب الحجة والدلائل، بل لنهاية الحسد...
وأما قوله تعالى: {لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} ففيه قولان: القول الأول: وهو المشهور، أراد القوم أن تحصل لهم النبوة والرسالة، كما حصلت لمحمد عليه الصلاة والسلام، وأن يكونوا متبوعين لا تابعين، ومخدومين لا خادمين. والقول الثاني: وهو قول الحسن، ومنقول عن ابن عباس: أن المعنى، وإذا جاءتهم آية من القرآن تأمرهم باتباع النبي. قالوا: {لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتي رسل الله} وهو قول مشركي العرب {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا} إلى قوله: {حتى تنزل علينا كتابا نقرأه}... وعلى هذا التقدير: فالقوم ما طلبوا النبوة، وإنما طلبوا أن تأتيهم آيات قاهرة ومعجزات ظاهرة مثل معجزات الأنبياء المتقدمين كي تدل على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام. قال المحققون: والقول الأول أقوى وأولى، لأن قوله: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} لا يليق إلا بالقول الأول، ولمن ينصر القول الثاني أن يقول: إنهم لما اقترحوا تلك الآيات القاهرة، فلو أجابهم الله إليها وأظهر تلك المعجزات على وفق التماسهم، لكانوا قد قربوا من منصب الرسالة، وحينئذ يصلح أن يكون قوله: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} جوابا على هذا الكلام...
وقوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} فيه تنبيه على دقيقة أخرى وهي: أن أقل ما لا بد منه في حصول النبوة والرسالة البراءة عن المكر والغدر، والغل والحسد...
. وقوله: {لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} عين المكر والغدر والحسد، فكيف يعقل حصول النبوة والرسالة مع هذه الصفات؟... ثم بين تعالى أنهم لكونهم موصوفين بهذه الصفات الذميمة سيصيبهم صغار عند الله وعذاب شديد وتقريره أن الثواب لا يتم إلا بأمرين، التعظيم والمنفعة، والعقاب أيضا إنما يتم بأمرين: الإهانة والضرر. والله تعالى توعدهم بمجموع هذين الأمرين، في هذه الآية، أما الإهانة فقوله: {سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد} وإنما قدم ذكر الصغار على ذكر الضرر، لأن القوم إنما تمردوا عن طاعة محمد عليه الصلاة والسلام طلبا للعز والكرامة، فالله تعالى بين أنه يقابلهم بضد مطلوبهم، فأول ما يوصل إليهم إنما يوصل الصغار والذل والهوان،... فحصل بهذا الكلام أنه تعالى أعد لهم الخزي العظيم والعذاب الشديد، ثم بين أن ذلك إنما يصيبهم لأجل مكرهم وكذبهم وحسدهم...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
استئناف للرد عليهم بأن النبوة ليست بالنسب والمال وإنما هي بفضائل نفسانية يخص الله سبحانه وتعالى بها من يشاء من عباده فيجتبي لرسالاته من علم أنه يصلح لها، وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أي وإذا جاءت أولئك المشركين الذين {أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها} آيةٌ بينة من القرآن تتضمن حجة عقلية ظاهرة الدلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به عن ربه من التوحيد والهدى قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله إلى الأمم قبلنا. قال هذا أكابرهم المجرمون، ورؤساؤهم الماكرون، وتبعهم عليه الغوغاء المقلدون. قال ابن جرير فيه: يعنون حتى يعطيهم الله من المعجزات مثل الذي أعطى موسى من فلق البحر وعيسى من إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص، وقال ابن كثير أي حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة كما تأتي إلى الرسل كقوله جل وعلا: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} (الفرقان 21) الآية.
فالقول الأول معناه أنهم لا يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا إذا أوتوا على يديه من الآيات الكونية التي يؤيده الله بها مثل ما أوتي أولئك الرسل عليهم السلام. ومعنى القول الآخر أنهم لا يكونون مؤمنين بالرسالة مطلقا إلا إذا صاروا رسلا يوحى إليهم، وهذا أقرب إلى قوله تعالى في الرد عليهم {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، وإن كان كل من المعنيين صحيحا واقعا...
وهذه الجملة من كلام الله تعالى رد عليهم وبيان لجهالتهم ينتظره السامع والقارئ بعد حكاية ما تقدم من قولهم، والوقف قبله تام لأنه آخر قولهم المحكي عنهم...
وقوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} حجة لأهل الحق على أن الرسالة فضل من الله تعالى يختص به من يشاء من خلقه لا ينالها أحد بكسب ولا يتوسل إليها بسبب ولا نسب، وعلى أنه تعالى لا يختص بهذه الرحمة العظيمة، والمنقبة الكريمة، إلا من كان أهلا لها بما أهله هو من سلامة الفطرة وعلو الهمة وزكاء النفس، وطهارة القلب، وحب الخير والحق. وكان أذكياء العرب في الجاهلية على شركهم بالله تعالى يعلمون أن الصادقين محبي الحق وفاعلي الخير من الفضلاء أهل لكرامته تعالى وعنايته كما يؤخذ من استنباط أم المؤمنين خديجة في حديث أم المؤمنين عائشة في بدء الوحي فإنه صلى الله عليه وسلم لما قال لخديجة رضوان الله عليها {لقد خشيت على نفسي} قالت له: كلا فوالله لا يخزيك الله أبدا: إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق 109 هذا لفظ مسلم...
بعد أن رد الله تعالى على أولئك المستكبرين المغرورين ما تضمنه قولهم من دعوى الاستعداد لمنصب الرسالة يخطر في بال القارئ ما يسائل به نفسه عن جزائهم، فقال تعالى في بيان ذلك: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ}. هذا الوعيد صريح في كون قائلي ذلك القول: {لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} من المجرمين الماكرين الذين مضت سنة الله تعالى أن يكونوا أكابر وزعماء في كل قرية دب فيها الفساد، وكان أهلها مقاومين للإصلاح. وفيما ذهبنا إليه من عود مكرهم عليهم بعقاب الله تعالى إياهم في الآخرة باضطراد، وفي الدنيا حيث يمكرون بالرسل ويصدون عما جاءوا به أو ما يقرب مما جاءوا به من الإصلاح، وقد قصر الحافظ ابن كثير في اقتصاره على ذكر عقابهم في الآخرة.
الصغار: كالصغر (بالتحريك) في الأمور المعنوية كالصغر (بوزن العنب) في الأشياء الحسية كما قال الراغب، وقد فسروه بالذلة والهوان، جزاء على الكبر والطغيان وفسر الراغب الصاغر: بالراضي بالمنزلة الدنية، وهو أقرب إلى الصواب والتحقيق في تفسير {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (التوبة 29) أن المراد بالصغار خضوعهم لأحكامنا... ومعنى كون هذا الصغار يصيبهم عند الله: أنه يحصل لهم في الآخرة إذ كل ما فيها يطلق عليه أنه عند الله باعتبار أنه ليس لأحد من الخلق هنالك تصرف ما ولا تأثير، لا كالدنيا التي صرف الله فيها الناس أنواعا من التصرف، أو معناه أنه مما اقتضاه حكمه وعدله وسبق به تقديره، فإن ما هو ثابت عند الله في حكمه القدري التكويني الذي دبر به نظام الخلق وما ثبت في حكمه الشرعي التكليفي الذي أقام به العدل والحق، يطلق على كل منهما أنه عنده...وعلى القول الثاني يصح أن يحصل هذا الجزاء لهم بالصغار على استكبارهم عن الحق في الدار الدنيا قبل الآخرة. وعلى القول الأول يتعين أن يكون في الآخرة، وحينئذ يكون المراد بالعذاب الشديد ما يصيبهم في الدنيا أو في الدنيا والآخرة جميعا...
وعذاب الأمم في الدنيا بذنوبها مطرد ولا يطرد عذاب الأفراد وإن كانوا من المجرمين الماكرين، ولكن أكابر مجرمي مكة الذين تصدوا لإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم والكيد له قد عذبوا في الدنيا كالخمسة المستهزئين الذين قيل إن السياق السابق في طلب الآيات الذي يعد هذا السياق تابعا له نزل فيهم لأنهم رؤساء المجرمين (راجع آخر ج 7 وأول ج 8) وقتل منهم في بدر كما هو معروف في السيرة النبوية.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فرد الله عليهم اعتراضهم الفاسد، وأخبر أنهم لا يصلحون للخير، ولا فيهم ما يوجب أن يكونوا من عباد الله الصالحين، فضلا أن يكونوا من النبيين والمرسلين، فقال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فيمن علمه يصلح لها، ويقوم بأعبائها، وهو متصف بكل خلق جميل، ومتبرئ من كل خلق دنيء، أعطاه الله ما تقتضيه حكمته أصلا وتبعا، ومن لم يكن كذلك، لم يضع أفضل مواهبه، عند من لا يستأهله، ولا يزكو عنده. وفي هذه الآية، دليل على كمال حكمة الله تعالى، لأنه، وإن كان تعالى رحيما واسع الجود، كثير الإحسان، فإنه حكيم لا يضع جوده إلا عند أهله،...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يكشف السياق القرآني عن طبيعة الكبر في نفوس أعداء رسل الله ودينه.. الكبر الذي يمنعهم من الإسلام؛ خيفة أن يرجعوا عباداً لله كسائر العباد، فهم يطلبون امتيازاً ذاتياً يحفظ لهم خصوصيتهم بين الأتباع. ويكبر عليهم أن يؤمنوا للنبي فيسلموا له، وقد تعودوا أن يكونوا في مقام الربوبية للأتباع، وأن يشرعوا لهم فيقبلوا منهم التشريع، وأن يأمروهم فيجدوا منهم الطاعة والخضوع.. من أجل ذلك يقولون قولتهم المنكرة الغبية كذلك: لن نؤمن حتى نؤتي مثلما أوتي رسل الله: (وإذا جاءتهم آية قالوا: لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله)...
والذين يتطلعون إلى مقام الرسالة؛ أو يطلبون أن يؤتوا مثل ما أوتي الرسول.. هم أولا من طبيعة لا تصلح أساساً لهذا الأمر. فهم يتخذون من ذواتهم محوراً للوجود الكوني! والرسل من طبيعة أخرى، طبيعة من يتلقى الرسالة مستسلماً، ويهب لها نفسه، وينسى فيها ذاته، ويؤتاها من غير تطلع ولا ارتقاب: (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب، إلا رحمة من ربك).. ثم هم بعد ذلك جهال لا يدركون خطورة هذا الأمر الهائل، ولا يعلمون أن الله وحده هو الذي يقدر بعلمه على اختيار الرجل الصالح...
. والصغار عند الله يقابل الاستعلاء عند الأتباع، والاستكبار عن الحق، والتطاول إلى مقام رسل الله!.. والعذاب الشديد يقابل المكر الشديد، والعداء للرسل، والأذى للمؤمنين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقد أفادت الآية: أنّ الرّسالة ليست ممّا يُنال بالأماني ولا بالتشهّي، ولكن الله يعلم مَن يصلح لها ومن لا يصلح، ولو علم من يصلح لها وأراد إرساله لأرسله، فإنّ النّفوس متفاوتة في قبول الفيض الإلهي والاستعداد له والطّاقة على الاضطلاع بحمله، فلا تصلح للرّسالة إلاّ نفس خُلقت قريبة من النّفوس الملكيّة، بعيدة عن رذائل الحيوانية، سليمة من الأدواء القلبية.
فالآية دالّة على أنّ الرّسول يُخلق خِلقة مناسبة لمراد الله من إرساله، والله حين خلقه عالم بأنّه سَيرسله...
وفي قوله: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} بيان لعظيم مقدار النبي صلى الله عليه وسلم وتنبيه لانحطاط نفوس سادة المشركين عن نوال مرتبة النّبوءة وانعدام استعدادهم...
وكأن الآية التي أرسلها الله مع رسوله وهي القرآن لتثبت لهم صدقه في البلاغ عن الله لم تقنعهم، ولم يكتفوا بها، بل طالبوا بآيات أخرى... إن رسل الله كانت لهم آيات كونية، حسية مرئية، وهي وإن كانت فيها قوة المشهد الملزم، إلا إنه لا ديمومة لها، فمن رأى سيدنا موسى وهو يضرب البحر فينفلق لن يكذب هذه الآية الكونية، إلا أنها أصبحت خبرا والخبر مناسب لمحدودية رسالة موسى، وكذلك رسالة عيسى عليه السلام حيث أبرأ الأكمة والأبرص بإذن الله. وهذه رسالات لزمن محدود وفي قوم محدودين، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء ومعه المنهج المعجزة الباقي إلى قيام الساعة، فإن كانت المعجزة حسية فلن يراها إلا قوم مخصوصون لأن الأمر الحسي لا يتكرر، بل ينتهي، وسيدنا محمد رسول إلى أن تقوم الساعة. فلابد له من آية باقية إلى قيام الساعة؛ لذلك كانت الآية في المعنويات والعقليات التي لا تختلف فيها الأمم ولا تختلف فيها الأزمان، لكنهم أرادوا معجزة حسية، وأخرى عقلية، حتى إذا جاءت واحدة فقط أنكروا الثانية، فحسم الحق الأمر وقال: {الله أعلم حيث يجعل رسالته}...
{سيصيب الّذين أجرموا صغارٌ عند الله} (من الآية 124 سورة الأنعام) هنا نجد فجوة انتقالية في الأداء، فمن قبل يتحدث سبحانه عمن يظنون أنهم كبار، فيأتي ليقول: إن الصغار سيصيبهم، وليس معنى الصغار الذل والهوان لدى الناس، لا، بل صغار وذل وهوان عند نفس كل منهم ذاتيا، فكل منهم سيشعر بالذل أمام نفسه ويستصغر نفسه. كأن الصغار سيصيب الإنسان في نفسه، ويكون هذا الصغار من عند الله، ومادام الصغار منسوبا إلى عندية الله فهو لا يزول أبدا؛ لأنه لا توجد قوة ثانية تقول لله إن قدرك لن يتحقق. فالصغار والذل والهوان سينزل بهم وهم مع كونهم أكابر المجرمين فلن يستطيعوا دفعه عن أنفسهم، وسيصيبهم مع ذلك عذاب شديد...
لماذا العذاب الشديد؟ لقد قلنا من قبل: إن العذاب يوصف مرة بأنه أليم، ويوصف مرة أخرى بأنه مهين، ويوصف هنا بأنه شديد. والعذاب المهين الذي تكون فيه ذلة النفس. والعذاب الأليم الذي يكون في البنية؛ لأن الإنسان له بنية وله معنويات قيمية، فمن ناحية البنية يصيبه العذاب، ومن ناحية المعاني النفسية تصيبه الإهانة، فهناك من يتعذب لكنك لا تملك أن تهينه ويتحمل المشقة برجولة، ومهما تلقى من الإهانة فلا تزال نفسه كريمة عليه... لذلك ينزل قدر الله بالعذاب على نوعين: عذاب بينة وعذاب قيم، وهذا هو الصغار، والعذاب الشديد، وهو الذي لا يقوى الإنسان على تحمله، ولم ينزل الحق العذاب بهؤلاء جزافا، لكنه بسبب ما كانوا يمكرون، فسبحانه هو القائل: {وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} (من الآية 118 سورة النحل)...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
... {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فليست قضية الرسالة امتيازاً ذاتياً يمنحه الله لأيّ شخص كان، بل هي قضية اصطفاء واختيار وكفاءةٍ، في ما يعلمه الله من قابليات عباده وقدرتهم، فمنهم الذي تميّز بسعة الفكر، وصفاء الروح، وطيبة القلب وقوّة الإرادة، وعناصر القيادة، ومنهم الذي تميّز بضيق الأفق، وقلق الروح، وخبث النيّة، وضعف الإرادة، فاختار من النموذج الأول أنبياءه ورسله، وترك الآخرين في موقع القاعدة وأرادهم أن يهتدوا بهدى الأنبياء وأن يجاهدوا في سبيل الوصول إلى ذلك، وسهّل لهم سبيل الإيمان، بما يتفق مع قابلياتهم وإمكاناتهم، فليس لهم أن يطلبوا لأنفسهم ما لا يملكون عناصره، لأن الرسالة ليست مجرد كلمات يتلقفها الإنسان ويحفظها ثم يبلّغها للآخرين، بل هي قضية قيادة الحياة في جانبها الفكري والروحي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي.. وتغيير الإنسان على أساس هدى الله، بالكلمة وبالأسلوب وبالقدوة الحسنة، بحيث تعيش الرسالة في شخصية الرسول جسداً يتحرّك بكل أخلاقياتها ومعانيها، وروحاً تصفو وتهفو وتحنو وترقّ وترعى، فيحسّ الناس معها بالرحمة التي تحيط بهم من كل جوانب حياتهم، ويعيشون معها برد السلام وهدوء الطمأنينة. إنّ حركة الرسالة في شخصية الرسول تعني أن يعيش هذا الإنسان في فكره وروحه وكيانه كله مع الله، ليستطيع من خلال ذلك أن يحتوي كل آفاق الرسالة ومعانيها في كل مراحل حياته في الدعوة وفي الحكم وفي الجهاد، وبذلك كان الرسول يأخذ من الرسالة وحياً تنفتح منه نفسه على الله، ويعطيها من طاقاته الروحية والفكرية، ومن قوّة إرادته عنصر قوّة يدفعها إلى الأمام، ولذلك لم تكن الرسالة خاضعةً لاختيار الناس وتمنياتهم، بل هي خاضعةٌ لإرادة الله واختياره، فهو {أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، في ما يعلمه من الطاقات الروحية والفكرية والعملية والقيادية الكامنة في ذواتهم مما لا يعلمه الناس من أنفسهم، ولا يعلمه غيرهم منهم. فأين يذهب هؤلاء في تفكيرهم؟ إنها عقدة الكبرياء التي تكبر في صدورهم عندما يتطلعون إلى الأنبياء فيجدونهم في الطبقة السفلى من الهرم الاجتماعي، فيدفعهم ذلك إلى احتقارهم، واحتقار دورهم، وتكذيبهم ومحاولة تحدّيهم بأيّة طريقةٍ، حتّى بالأمور التي لا تثبت أمام النقد، ولذلك فإن الله سيجزيهم عن هذه المشاعر وهذه الادّعاءات وذلك الكبرياء، صغاراً وذلاً واحتقاراً وعذاباً، {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ} في ما يُظهرهم به أمام الخلائق يوم القيامة من حالة الذلّ والانسحاق {وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} لأن مكرهم وانحرافهم لم ينطلق من حالةٍ فكريّةٍ قد تبرّر لهم ذلك، بل من حالةٍ شيطانية، يفهمون كل خطواتها ومنطلقاتها ودوافعها، ما يجعل من تصرفاتهم، حالةً إجراميةً معقّدةً تستوجب العقوبة الشديدة والعذاب الأليم. وقد يلاحظ البعض أن الصَّغار الذي يصيب المستكبرين في الحياة الدنيا هو بلحاظ أن الآية تتحدث عن الحياة الدنيا ونتيجة الصراع في الأرض، ولا مانع من أن يكون عامّاً في الدنيا والآخرة، ما يفرض التركيز على واقع الحياة الدنيا في نتائج الأفعال، حيث يُنزل الله الهوان والعذاب الدنيوي بمعنى البلاء الذي يصيبهم بفعل سلوكهم المنحرف وموقفهم المضادّ. وإننا في الوقت الذي لا نجد مانعاً من استنطاق هذه الآية في المعنى الشمولي للصَّغار الدنيوي والأخروي من حيث المبدأ في نتائج المواقف التي يتمثّل فيها التمرّد على الله والعدوان على رسله ورسالته من موقع الاستكبار الذاتي الذي يحكم كل أقوالهم وأفعالهم، ولكن ظاهر الآية في الحديث عن الصغار والعذاب على مستوى المستقبل قد يوحي بأن المسألة تتحدث عن الآخرة في ما يلاقونه في يوم القيامة، وقد جاء عن الزجّاج في تفسيره لهذه الفقرة قال: أي سيصيبهم عند الله ذلّ وهوان وإن كانوا أكابر في الدنيا. انتهى. وهذا ما يؤكّد أن المراد به هو المقابلة بين كبريائهم في الدنيا الذي يدفعهم إلى إنكار الحق والاستعلاء على أهله، وصغارهم في الآخرة بما يلاقونه من الهوان والعذاب بين الخلائق...