التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيۡهِنَّۚ وَإِن كُنَّ أُوْلَٰتِ حَمۡلٖ فَأَنفِقُواْ عَلَيۡهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأۡتَمِرُواْ بَيۡنَكُم بِمَعۡرُوفٖۖ وَإِن تَعَاسَرۡتُمۡ فَسَتُرۡضِعُ لَهُۥٓ أُخۡرَىٰ} (6)

ثم أمر - سبحانه - الرجال بأن يحسنوا معاملة النساء المطلقات ، ونهاهم عن الإساءة إليهن بأى لون من ألوان الإساءة فقال : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ . . . } والخطاب للرجال الذين يريدون فراق أزواجهن ، والضمير المنصوب فى قوله { أَسْكِنُوهُنَّ } يعود إلى النساء المطلقات .

و { مِنْ } للتبعيض ، والوجد : السعة والقدرة .

أى : أسكنوا المطلقات فى بعض البيوت التى تسكنونها والتى فى وسعكم وطاقتكم إسكانهن فيها .

قال صاحب الكشاف : قوله : { أَسْكِنُوهُنَّ } وما بعده : بيان لما شرط من التقوى فى قوله : { وَمَن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ .

. } كأنه قيل : كيف نعمل بالتقوى فى شأن المعتدات ؟ فقيل : { أَسْكِنُوهُنَّ } .

فإن قلت : فقوله : { مِّن وُجْدِكُمْ } ما موقعه ؟ قلت : هو عطف بيان لقوله { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } ، وتفسير له ، كأنه قيل : أسكنوهن مكانا من مسكنكم مما تطيقونه .

والسكنى والنفقة : واجبتان لكل مطلقة . وعند مالك والشافعى : ليس للمبتونة إلا السكن ولا نفقة لها ، وعن الحسن وحماد : لا نفقه لها ولا سكنى ، لحديث فاطمة بنت قيس : " أن زوجها أبتَّ طلاقها ، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا سكنى لك ولا نفقة . . . " " .

ثم أتبع - سبحانه - الأمر بالإحسان إلى المطلقات ، بالنهى عن إلحاق الأذى بهن فقال : { وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ . . } .

أى : ولا تستعملوا معهن ما يؤذيهن ويضرهن ، لكى تضيقوا عليهن ما منحه الله - تعالى - لهن من حقوق ، بأن تطيلوا عليهن مدة العدة ، فتصبح الواحدة منهن كالمعلقة ، أو بأن تضيقوا عليهن فى السكنى ، حتى يلجأن إلى الخروج ، والتنازل عن حقوقهن .

وقوله - تعالى - : { وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ . . } أى : وإن كان المطلقات أصحاب حمل - فعليكم يا معشر الأزواج - أن تقدموا لهن النفقة المناسبة ، حتى يضعن حملهن .

قال الإمام ابن كثير : قال كثير من العلماء منهم ابن عباس ، وطائفة من السلف . هذه هى البائن ، إن كانت حاملا أنفق عليها حيث تضع حملها ، قالوا : بدليل أن الرجعية تجب نفقتها سواء أكانت حاملا أم غير حامل .

وقال آخرون : بل السياق كله فى الرجعيات ، وإنما نص على الإنفاق على الحامل - وإن كانت رجعية - لأن الحمل تطول مدته غالبا . فاحتيج إلى النص على وجوب الإنفاق إلى الوضع ، لئلا يتوهم أنه إنما تجب النفقة بمقدار مدة العدة .

ولما كان الحمل ينتهى بالوضع ، انتقلت السورة الكريمة إلى بيان ما يجب للمطلقات بعد الوضع ، فقال - تعالى - : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } .

أى : عليكم - أيها المؤمنون - أن تقدموا لنسائكم ذوات الحمل اللائى طلقتموهن طلاقا بائنا ، عليكم أن تقدموا لهن النفقة حتى يضعن حملهن ، فإذا ما وضعن حملهن وأرادوا أن يرضعن لكم أولادكم منهن ، فعليكم - أيضا - أن تعطوهن أجورهن على هذا الإرضاع ، وأن تلتزموا بذلك لهن .

وقد أخذ العلماء من هذه الآية أن الأم المطلقة طلاقا بائنا ، إذا أرادت أن ترضع ولدها بأجر المثل ، فليس لأحد أن يمنعها من ذلك ، لأنها أحق به من غيرها ، لشدة شفقتها عليه . . . وليس للأب أن يسترضع غيرها حينئذ . كما أخذوا منها - أيضا - أن نفقة الولد الصغير على أبيه ، لأنه إذا لزمته أجرة الرضاع ، فبقية النفقات الخاصة بالصغير تقاس على ذلك .

وقوله - سبحانه - : { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } حض منه - سبحانه - للآباء والأمهات على التعاون والتناصح فى وجوه الخير والبر .

والائتمار معناه : التشاور وتبادل الرأى ، وسمى التشاور بذلك لأن المتشاورين فى مسألة ، يأمر أحدهما الآخر بشىء فيستجيب لأمره ، ويقال : أئتمر القوم وتآمروا بمعنى واحد .

أى : عليكم - أيها الآباء والأمهات - أن تتشاوروا فيما ينفع أولادكم ، وليأمر بعضكم بعضا بما هو حسن ، فيما يتعلق بالإرضاع والأجر وغيرهما .

وقوله - تعالى - : { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى } إرشاد إلى ما يجب عليهما فى حالة عدم التراضى على الإرضاع أو الأجر .

والتعاسر مأخوذ من العسر الذى هو ضد اليسر والسماحة ، يقال تعاسر المتبايعان ، إذا تمسك كل واحد منهما برأيه ، دون أن يتفقا على شىء .

أى : وإن اشتد الخلاف بينكم ، ولم تصلوا إلى حل ، بأن امتنع الأب عن دفع الأجرة للأم ، أو امتنعت الأم عن الإرضاع إلا بأجر معين . فليس معنى ذلك أن يبقى المولود جائعا بدون رضاعة ، بل على الأب أن يبحث عن مرضعة أخرى ، لكى ترضع له ولده ، فالضمير فى قوله { لَهُ } يعود على الأب .

قال صاحب الكشاف قوله : { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى } أى : فستوجد مرضعة غير الأم ترضعه ، وفيه طرف من معاتبة الأم على المعاسرة ، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى : سيقضيها غيرك . تريد لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم .

وقد علق المحشى على الكشاف بقوله : وخص الأم بالمعاتبة ، لأن المبذول من جهتها هو لينها وهو غير متمول ولا مضنون به فى العرف ، وخصوصا فى الأم على الولد ، ولا كذلك المبذول من جهة الأب ، فإنه المال المضنون به عادة فالأم إذاً أجدى باللوم ، وأحق بالعتب . .

قالوا : وفى هذه الجملة - أيضا - طرف من معاتبة الأب ، لأنه كان من الوجاب عليه أن يسترضى الأم ، ولا يكون مصدر عسر بالنسبة لها ، حرصا على مصلحة الولد .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيۡهِنَّۚ وَإِن كُنَّ أُوْلَٰتِ حَمۡلٖ فَأَنفِقُواْ عَلَيۡهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأۡتَمِرُواْ بَيۡنَكُم بِمَعۡرُوفٖۖ وَإِن تَعَاسَرۡتُمۡ فَسَتُرۡضِعُ لَهُۥٓ أُخۡرَىٰ} (6)

( أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ، ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن . وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن . فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ، وأتمروا بينكم بمعروف ، وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى . لينفق ذو سعة من سعته ، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله ، لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ، سيجعل الله بعد عسر يسرا ) . .

وهذا هو البيان الأخير لتفصيل مسألة الإقامة في البيوت ، والإنفاق في فترة العدة - على اختلاف مدتها . فالمأمور به هو أن يسكنوهن مما يجدون هم من سكنى . لا أقل مما هم عليه في سكناهم ، وما يستطيعونه حسب مقدرتهم وغناهم . غير عامدين إلى مضارتهم سواء بالتضييق عليهن في فسحة المسكن أو مستواه أو في المعاملة فيه . وخص ذوات الأحمال بذكر النفقة - مع وجوب النفقة لكل معتدة - لتوهم أن طول مدة الحمل يحدد زمن الإنفاق ببعضه دون بقيته ، أو بزيادة عنه إذا قصرت مدته . فأوجب النفقة حتى الوضع ، وهو موعد انتهاء العدة لزيادة الإيضاح التشريعي .

ثم فصل مسألة الرضاعة فلم يجعلها واجبا على الأم بلا مقابل . فما دامت ترضع الطفل المشترك بينهما ، فمن حقها أن تنال أجرا على رضاعته تستعين به على حياتها وعلى إدرار اللبن للصغير ، وهذا منتهى المراعاة للأم في هذه الشريعة . وفي الوقت ذاته أمر الأب والأم أن يأتمرا بينهما بالمعروف في شأن هذا الوليد ، ويتشاورا في أمره ورائدهما مصلحته ، وهو أمانة بينهما ، فلا يكون فشلهما هما في حياتهما نكبة على الصغير البريء فيهما !

وهذه هي المياسرة التي يدعوهما الله إليها . فأما إذا تعاسرا ولم يتفقا بشأن الرضاعة وأجرها ، فالطفل مكفول الحقوق : ( فسترضع له أخرى ) . . دون اعتراض من الأم ودون تعطيل لحق الطفل في الرضاعة ، بسبب تعاسرهما بعد فشلهما !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيۡهِنَّۚ وَإِن كُنَّ أُوْلَٰتِ حَمۡلٖ فَأَنفِقُواْ عَلَيۡهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأۡتَمِرُواْ بَيۡنَكُم بِمَعۡرُوفٖۖ وَإِن تَعَاسَرۡتُمۡ فَسَتُرۡضِعُ لَهُۥٓ أُخۡرَىٰ} (6)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَسْكِنُوهُنّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرّوهُنّ لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنّ وَإِن كُنّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنّ حَتّىَ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَىَ * لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمّآ آتَاهُ اللّهُ لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ مَآ آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } .

يقول تعالى ذكره : أسكنوا مطلقات نسائكم من الموضع الذي سكنتم من وُجْدِكُم : يقول : من سعتكم التي تجدون وإنما أمر الرجال أن يعطوهنّ مسكنا يسكنه مما يجدونه ، حتى يقضين عِدَدهنّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أسْكِنُوهُنّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ يقول : من سعتكم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : مِنْ وُجْدِكُمْ قال : من سعتكم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله أسْكِنُوهُنّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ قال : من سعتكم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، قوله : أسْكِنُوهُنّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارّوهُنّ لِتُضَيّقُوا عَلَيْهِنّ فإن لم تجد إلا ناحية بيتك فأسكنها فيه .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : أسْكِنُوهُنّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ قال : المرأة يطلقها ، فعليه أن يسكنها ، وينفق عليها .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وسألته عن قول الله عزّ وجلّ : أسْكِنُوهُنّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ قال : من مقدرتك حيث تقدر ، فإن كنت لا تجد شيئا ، وكنت في مسكن ليس لك ، فجاء أمر أخرجك من المسكن ، وليس لك مسكن تسكن فيه ، وليس تجد فذاك ، وإذا كان به قوّة على الكراء فذاك وجده ، لا يخرجها من منزلها ، وإذا لم يجد وقال صاحب المسكن : لا أنزل هذه في بيتي فلا ، وإذا كان يجد ، كان ذلك عليه .

وقوله : وَلا تُضارّوهُنّ لِتُضَيّقُوا عَلَيْهِنّ يقول جلّ ثناؤه : ولا تضارّوهنّ في المسكن الذي تسكنونهنّ فيه ، وأنتم تجدون سعة من المنازل أن تطلبوا التضييق عليهنّ ، فذلك قوله لِتُضَيّقُوا عَلَيْهِنّ يعني : لتضيقوا عليهنّ في المسكن مع وجودكم السعة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَلا تُضَارّوهُنّ لِتضَيّقوا عَلَيْهِنّ قال : في المسكن .

حدثني محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : مِنْ وُجْدِكُمْ قال : من ملككم ، من مقدرتكم . وفي قوله وَلا تُضَارّوهُنّ لِتُضَيّقُوا عَلَيْهِنّ قال : لتضيقوا عليهنّ مساكنهنّ حتى يخرجن .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان وَلا تُضَارّوهُنّ لِتُضَيّقُوا عَلَيْهِنّ قال : ليس ينبغي له أن يضارّها ويضيق عليها مكانها حتى يضعن حملهنّ هذا لمن يملك الرجعة ، ولمن لا يملك الرجعة .

وقوله : وَإنْ كُنّ أُولاتِ حَمْلٍ فأنْفِقُوا عَلَيْهنّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ يقول تعالى ذكره : وإن كان نساؤكم المطلقات أولات حمل وكنّ بائنات منكم ، فأنفقوا عليهنّ في عدتهنّ منكم حتى يضعن حملهنّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : وَإنْ كُنّ أُولاتِ حَمْلٍ فأنْفِقُوا عَلَيْهِنّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ فهذه المرأة يطلقها زوجها ، فيبتّ طلاقها وهي حامل ، فيأمره الله أن يسكنها ، وينفق عليها حتى تضع ، وإن أرضعت فحتى تفطم ، وإن أبان طلاقها ، وليس بها حبل ، فلها السكنى حتى تنقضي عدتها ولا نفقة ، وكذلك المرأة يموت عنها زوجها ، فإن كانت حاملاً أنفق عليها من نصيب ذي بطنها إذا كان ميراث ، وإن لم يكن ميراث أنفق عليها الوارث حتى تضع وتفطم ولدها كما قال الله عزّ وجلّ : وَعلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلكَ فإن لم تكن حاملاً ، فإن نفقتها كانت من مالها .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وَإنْ كُنّ أُولاتِ حَمْلٍ فأنْفِقُوا عَلَيْهِنّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ قال : ينفق على الحبلىَ إذا كانت حاملاً حتى تضع حملها .

وقال آخرون : عُنِي بقوله : وَإنْ كُنّ أُولاتِ حَمْلٍ فأنْفِقُوا عَلَيْهِنّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ كلّ مطلقة ، ملك زوجُها رجْعَتَهَا أو لم يملك . وممن قال ذلك : عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما . ذكر الرواية عنهما بذلك :

حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : كان عمرو وعبد الله يجعلان للمطلقة ثلاثا : السكنى ، والنفقة ، والمتعة . وكان عمر إذا ذكر عنده حديث فاطمة بنت قيس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتدّ في غير بيت زوجها ، قال : ما كنا لنجيز في ديننا شهادة امرأة .

حدثني نصر بن عبد الرحمن الأَوْدِيّ ، قال : حدثنا يحيى بن إبراهيم ، عن عيسى بن قرطاس ، قال : سمعت عليّ بن الحسين يقول في المطلقة ثلاثا : لها السكنى ، والنفقة والمتعة ، فإن خرجت من بيتها فلا سكنى ولا نفقة ولا متعة .

حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : للمطلقة ثلاثا : السكنى والنفقة .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، قال : إذا طلق الرجل ثلاثا ، فإن لها السكنى والنفقة .

والصواب من القول في ذلك عندنا أن لا نفقة للمبتوتة إلا أن تكون حاملاً ، لأن الله جلّ ثناؤه جعل النفقة بقوله وَإنْ كُنّ أُولاتِ حَمْلٍ فأنْفِقُوا عَلَيْهِنّ للحوامل دون غيرهنّ من البائنات من أزواجهن ولو كان البوائن من الحوامل وغير الحوامل في الواجب لهنّ من النفقة على أزواجهنّ سواء ، لم يكن لخصوص أولات الأحمال بالذكر في هذا الموضع وجه مفهوم ، إذ هنّ وغيرهنّ في ذلك سواء ، وفي خصوصهن بالذكر دون غيرهنّ أدلّ الدليل على أن لا نفقة لبائن إلا أن تكون حاملاً . وبالذي قلنا في ذلك صحّ الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا بشر بن بكر ، عن الأوزاعيّ ، قال : حدثنا يحيى بن أبي كثير ، قال : ثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، قال : حدثتني فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس أن أبا عمرو المخزوميّ ، طلقها ثلاثا فأمر لها بنفقة فاستقلتها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه نحو اليمن ، فانطلق خالد بن الوليد في نفر من بني مخزوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند ميمونة ، فقال : يا رسول الله إن أبا عمرو طلق فاطمة ثلاثا ، فهل لها من نفقة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ » ، فأرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن «انتقلي إلى بيت أمّ شريك » وأرسل إليها «أن لا تسبقيني بنفسك » ، ثم أرسل إليها «أنّ أمّ شريك يأتيها المهاجرون الأوّلون ، فانتقلي إلى ابن أمّ مكتوم ، فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك » ، فزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسامة بن زيد .

وقوله : فإنْ أرْضَعْنَ لَكُمْ فآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ يقول جلّ ثناؤه : فإن أرضع لكم نساؤكم البوائن منكم أولادهنّ الأطفال منكم بأجرة ، فآتوهنّ أجورهنّ على رضاعهنّ إياهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك أنه قال في الرضاع : إذا قام على شيء فأمّ الصبيّ أحقّ به ، فإن شاءت أرضعته ، وإن شاءت تركته إلا أن لا يقبل من غيرها ، فإذا كان كذلك أُجْبِرت على رضاعه .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فإنْ أرْضَعْنَ لَكُمْ فآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ هي أحقّ بولدها أن تأخذه بما كنتَ مسترضِعا به غيرَها .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فإنْ أرْضَعْنَ لَكُمْ فآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ قال : ما تراضوا عليه «على الموسع قدره ، وعلى المقتر قدره » .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم في الصبيّ إذا قام على ثمن فأمه أحقّ أن ترضعه ، فإن لم يجد له من يرضعه أجبرت الأم على الرضاع .

قال : ثنا مهران ، عن سفيان فآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ قال : إن أرضعت لك بأجر فهي أحقّ من غيرها ، وإن هي أبت أن ترضعه ولم تواتك فيما بينك وبينها عاسرتك في الأجر فاسترضع له أخرى .

وقوله : وأتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ يقول تعالى ذكره : وليقبل بعضكم أيها الناس من بعض ما أمركم بعضكم به بعضا من معروف . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في وقوله : وأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ قال : اصنعوا المعروف فيما بينكم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان وأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ حثّ بعضهم على بعض .

وقوله : وَإنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى يقول : وإن تعاسر الرجل والمرأة في رضاع ولدها منه ، فامتنعت من رضاعه ، فلا سبيل له عليها ، وليس له إكراهها على إرضاعه ، ولكنه يستأجر للصبيّ مرضعة غير أمه البائنة منه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وَإنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى قال : إن أبت الأم أن ترضع ولدها إذا طلقها أبوه التمس له مرضعة أخرى ، الأمّ أحقّ إذا رضيت من أجر الرضاع بما يرضى به غيرها ، فلا ينبغي له أن ينتزع منها .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، قال : إن هي أبت أن ترضعه ولم تواتك فيما بينها وبينك عاسرتك في الأجر ، فاسترضع له أخرى .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : وَإنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِه وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ قال : فرض لها من قدر ما يجد ، فقالت : لا أرضى هذا قال : وهذا بعد الفراق ، فأما وهي زوجته فإنها ترضع له طائعة ومكرهة إن شاءت وإن أبت ، فقال لها : ليس لي زيادة على هذا إن أحببت أن ترضعي بهذا فأرضعي ، وإن كرهت استرضعت ولدي ، فهذا قوله : وَإنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيۡهِنَّۚ وَإِن كُنَّ أُوْلَٰتِ حَمۡلٖ فَأَنفِقُواْ عَلَيۡهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأۡتَمِرُواْ بَيۡنَكُم بِمَعۡرُوفٖۖ وَإِن تَعَاسَرۡتُمۡ فَسَتُرۡضِعُ لَهُۥٓ أُخۡرَىٰ} (6)

والوجد : السعة في المال ، وضم الواو وفتحها وكسرها ، هي كلها بمعنى واحد ، وقرأ الجمهور : «وُجدكم » بضم الواو بمعنى سعة الحال ، وقرأ الأعرج فيما ذكر عصمة «وَجدكم » بفتح الواو ، وذكرها أبو عمرو عن الحسن وأبي حيوة ، وقرأ الفياض بن غزوان ويعقوب : بكسر الواو وذكرها المهدوي عن الأعرج وعمرو بن ميمون ، وأما الحامل فلا خلاف في وجوب سكناها ونفقتها بتت أو لم تبت لأنها مبينة في الآية ، واختلفوا في نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها على قولين لعلماء الأمة ، فمنعها قوم وأوجبها في التركة قوم ، وكذلك النفقة على المرضع واجبة وهي الأجر مع الكسوة وسائر المؤن التي بسطها في كتب الفقه ، وقوله تعالى : { وائتمروا بينكم بمعروف } أي ليأمر كل واحد صاحبه بخير ، ولا شك أن من أمر بخير فهو أسرع إلى فعل ذلك الخير وليقبل كل واحد ما أمر به من المعروف ، والقبول والامتثال هو الائتمار ، وقال الكسائي : { ائتمروا } معناه : تشاوروا ، ومنه قوله تعالى :

{ إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك }{[11169]} [ القصص : 20 ] ، ومنه قول امرئ القيس :

ويعدو على المرء ما يأتمر***{[11170]}

وقوله تعالى : { وإن تعاسرتم } أي تشططت المرأة في الحد الذي يكون أجرة على الرضاع ، فللزوج أن يسترضع أخرى بما فيه رفقه إلا أن لا يقبل المولود غير أمه فتجبر حينئذ على رضاعه بأجرة مثلها ومثل الزوج في حالهما وغناهما .


[11169]:من الآية (20) من سورة (القصص).
[11170]:هذا عجز بيت قاله امرؤ القيس في مطلع قصيدة له يصف فيها فرسه وخروجه إلى الصيد، والبيت بتمامه: أحار بن عمرو كأني خمر ويعدو على المرء ما يأتمر والخمر: الذي خالطه داء أو وجع أو سكر، ويعدو: يرجع، و"ما يأتمر": ما يدبره ويريد أن يوقعه بغيره، يقول مخاطبا الحارث بن عمرو: إنه يشعر بحالة غير عادية، كأنه مريض أو سكران، وإن ما يدبره الإنسان لغيره من شرور يعود عليه هو.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيۡهِنَّۚ وَإِن كُنَّ أُوْلَٰتِ حَمۡلٖ فَأَنفِقُواْ عَلَيۡهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأۡتَمِرُواْ بَيۡنَكُم بِمَعۡرُوفٖۖ وَإِن تَعَاسَرۡتُمۡ فَسَتُرۡضِعُ لَهُۥٓ أُخۡرَىٰ} (6)

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

ابن العربي: قال أشهب، عن مالك، يخرج عنها إذا طلقها، ويتركها في المنزل لقول الله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم}، فلو كان معها ما قال: {أسكنوهن}. وروى ابن نافع قال: قال مالك في قول الله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم} يعني المطلقات اللاتي قد بِنّ من أزواجهن، لا رجعة لهم عليهن وليست حاملا، فلها السكنى ولا نفقة لها ولا كسوة، لأنها بائن منه، لا يتوارثان، ولا رجعة له عليها، وإن كانت حاملا فلها النفقة والكسوة والمسكن حتى تنقضي عدتها. فأما من لم تبن منهن فإنهن نساؤهم يتوارثن، ولا يخرجن إلا أن يأذن لهن أزواجهن ما كن في عدتهن، ولم يؤمروا بالسكنى لهن، لأن ذلك لازم لأزواجهن مع نفقتهن وكسوتهن، كن حوامل أو غير حوامل، وإنما أمر الله بالسكنى للاتي بن من أزواجهن. قال تعالى: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن}، فجعل عز وجل للحوامل اللائي قد بن من أزواجهن السكنى والنفقة...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: أسكنوا مطلقات نسائكم من الموضع الذي سكنتم من" وُجْدِكُم": يقول: من سعتكم التي تجدون، وإنما أمر الرجال أن يعطوهنّ مسكنا يسكنه مما يجدونه، حتى يقضين عِدَدهنّ... عن السديّ، في قوله: "أسْكِنُوهُنّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ "قال: المرأة يطلقها، فعليه أن يسكنها، وينفق عليها...

وقوله: "وَلا تُضارّوهُنّ لِتُضَيّقُوا عَلَيْهِنّ" يقول جلّ ثناؤه: ولا تضارّوهنّ في المسكن الذي تسكنونهنّ فيه، وأنتم تجدون سعة من المنازل أن تطلبوا التضييق عليهنّ، فذلك قوله "لِتُضَيّقُوا عَلَيْهِنّ" يعني: لتضيقوا عليهنّ في المسكن مع وجودكم السعة...

وقوله: "وَإنْ كُنّ أُولاتِ حَمْلٍ فأنْفِقُوا عَلَيْهنّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ" يقول تعالى ذكره: وإن كان نساؤكم المطلقات أولات حمل وكنّ بائنات منكم، فأنفقوا عليهنّ في عدتهنّ منكم حتى يضعن حملهنّ...

وقال آخرون: عُنِي بقوله: "وَإنْ كُنّ أُولاتِ حَمْلٍ فأنْفِقُوا عَلَيْهِنّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ" كلّ مطلقة، ملك زوجُها رجْعَتَهَا أو لم يملك. وممن قال ذلك: عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما... وقوله: "فإنْ أرْضَعْنَ لَكُمْ فآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ" يقول جلّ ثناؤه: فإن أرضع لكم نساؤكم البوائن منكم أولادهنّ الأطفال منكم بأجرة، فآتوهنّ أجورهنّ على رضاعهنّ إياهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل... وقوله: "وأتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ" يقول تعالى ذكره: وليقبل بعضكم أيها الناس من بعض ما أمركم بعضكم به بعضا من معروف...

وقوله: "وَإنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى" يقول: وإن تعاسر الرجل والمرأة في رضاع ولدها منه، فامتنعت من رضاعه، فلا سبيل له عليها، وليس له إكراهها على إرضاعه، ولكنه يستأجر للصبيّ مرضعة غير أمه البائنة منه...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{أَسْكِنُوهُنَّ} وما بعده: بيان لما شرط من التقوى في قوله: {وَمَن يَتَّقِ الله} كأنه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل: اسكنوهن...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{وائتمروا بينكم بمعروف} أي ليأمر كل واحد صاحبه بخير، ولا شك أن من أمر بخير فهو أسرع إلى فعل ذلك الخير، وليقبل كل واحد ما أمر به من المعروف، والقبول والامتثال هو الائتمار، وقال الكسائي: {ائتمروا} معناه: تشاوروا، ومنه قوله تعالى: {إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك} [القصص: 20]...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{أسكنوهن} أي هؤلاء المفارقات في العدة إن كن مطلقات حاملات كن أو لا مبتوتات كن أو رجعيات بخلاف ما كان من العدة عن وفاة بغير حمل أو كان عن شبهة أو فسخ. ولما كان المراد مسكناً يليق بها وإن كان بعض مسكن الرجل، أدخل أداة التبعيض فقال: {من حيث سكنتم} أي من أماكن سكناكم لتكون قريبة منكم ليسهل تفقدكم لها للحفظ وقضاء الحاجات. ولما كان الإنسان ربما سكن في ماضي الزمان ما لا يقدر عليه الآن قال مبيناً للمسكن المأمور به مبقياً للمواددة بعدم التكليف بما يشق: {من وجدكم} أي سعتكم وطاقتكم بإجارة أو ملك أو إعارة حتى تنقضي العدة بحمل كانت أو غيره. ولما كان الإسكان قد يكون مع الشنآن قال: {ولا تضاروهن} أي حال السكنى في المسكن ولا في غيره. ولما كانت المضارة قد يكون لمقصد حسن بأن يكون تأديباً لأمر بمعروف ليتوصل بصورة شر قليل ظاهر إلى خير كثير قال: {لتضيقوا} أي تضييقاً بالغاً لا شبهة في كونه كذلك مستعلياً {عليهن} حتى يلجئهن ذلك إلى الخروج. ولما كانت النفقة واجبة للرجعية، وكانت عدتها تارة بالأقراء وتارة بالأشهر وتارة بالحمل، وكان ربما توهم أن ما بعد الثلاثة الأشهر من مدة الحمل للرجعية وجميع المدة لغيرها لا يجب الإنفاق فيه قال: {وإن كن} أي المعتدات {أولات حمل} أي من الأزواج كيف ما كانت العدة من موت أو طلاق بائن أو رجعي {فأنفقوا عليهن} وإن مضت الأشهر {حتى يضعن حملهن} فإن العلة الاعتداد بالحمل، وهذه الشرطية تدل على اختصاص الحوامل من بين المعتدات البوائن بوجوب النفقة. ولما غيى سبحانه وجوب الإنفاق بالوضع، وكانت قد تريد إرضاع ولدها، وكان اشتغالها بإرضاعه يفوت عليها كثيراً من مقاصدها ويكسرها، جبرها بأن قال حاثاً على مكافأة الإخوان على الإحسان مشيراً بأداة الشك إلى أنه لا يجيب عليها الإرضاع: {فإن أرضعن} وبين أن النسب للرجال بقوله تعالى: {لكم} أي بأجرة بعد انقطاع علقة النكاح {فآتوهن أجورهن} على ذلك الإرضاع...

. {وأتمروا} أي ليأمر بعضكم بعضاً في الإرضاع والأجر فيه وغير ذلك وليقبل بعضكم أمر بعض، وزادهم رغبة في ذلك بقوله: {بينكم} أي إن هذا الخير لا يعدوكم، وأكد ذلك بقوله: {بمعروف} ونكره سبحانه تحقيقاً على الأمة بالرضى بالمستطاع، وهو يكون مع الخلق بالإنصاف، ومع النفس بالخلاف، ومع الحق بالاعتراف...

. {وإن تعاسرتم} أي طلب كل منكم ما يعسر على الآخر بأن طلبت المرأة الأجرة وطلب الزوج إرضاعها مجاناً فليس له أن يكرهها. ولما كان سبحانه قد تكفل بأرزاق عباده وقدرها قبل إيجادهم. قال مخبراً جبراً للأب بما يصلح عتاباً للأم: {فسترضع} أي بوعد لا خلف فيه، وصرف الخطاب إلى الغيبة إيذاناً بأن الأب ترك الأولى فيما هو جدير به من المياسرة لكونه حقيقاً بأن يكون أوسع بطاناً وأعظم شأناً من أن يضيق عما ترضى به المرأة استناناً به صلى الله عليه وسلم في أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أو قطعية رحم فقال: {له} أي الأب {أخرى} أي مرضعة غير الأم ويغني الله عنها وليس له إكراهها إلا إذا لم يقبل ثدي غيرها، وهذا الحكم لا يختص بالمطلقة بل المنكوحة كذلك...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} أي: لا تضاروهن، عند سكناهن بالقول أو الفعل، لأجل أن يمللن، فيخرجن من البيوت، قبل تمام العدة، فتكونوا، أنتم المخرجين لهن، وحاصل هذا أنه نهى عن إخراجهن، ونهاهن عن الخروج، وأمر بسكناهن، على وجه لا يحصل به عليهن ضرر ولا مشقة، وذلك راجع إلى العرف... {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} أي: وليأمر كل واحد من الزوجين ومن غيرهما، الآخر بالمعروف، وهو كل ما فيه منفعة ومصلحة في الدنيا والآخرة، فإن الغفلة عن الائتمار بالمعروف، يحصل فيه من الشر والضرر، ما لا يعلمه إلا الله، وفي الائتمار، تعاون على البر والتقوى، ومما يناسب هذا المقام، أن الزوجين عند الفراق وقت العدة، خصوصًا إذا ولد لهما ولد في الغالب يحصل من التنازع والتشاجر لأجل النفقة عليها وعلى الولد مع الفراق، الذي في الغالب ما يصدر إلا عن بغض، ويتأثر منه البغض شيء كثير فكل منهما يؤمر بالمعروف، والمعاشرة الحسنة، وعدم المشاقة والمخاصمة، وينصح على ذلك...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وخص ذوات الأحمال بذكر النفقة -مع وجوب النفقة لكل معتدة- لتوهم أن طول مدة الحمل يحدد زمن الإنفاق ببعضه دون بقيته، أو بزيادة عنه إذا قصرت مدته. فأوجب النفقة حتى الوضع، وهو موعد انتهاء العدة لزيادة الإيضاح التشريعي. ثم فصل مسألة الرضاعة فلم يجعلها واجبا على الأم بلا مقابل. فما دامت ترضع الطفل المشترك بينهما، فمن حقها أن تنال أجرا على رضاعته تستعين به على حياتها وعلى إدرار اللبن للصغير، وهذا منتهى المراعاة للأم في هذه الشريعة. وفي الوقت ذاته أمر الأب والأم أن يأتمرا بينهما بالمعروف في شأن هذا الوليد، ويتشاورا في أمره ورائدهما مصلحته، وهو أمانة بينهما، فلا يكون فشلهما هما في حياتهما نكبة على الصغير البريء فيهما! وهذه هي المياسرة التي يدعوهما الله إليها. فأما إذا تعاسرا ولم يتفقا بشأن الرضاعة وأجرها، فالطفل مكفول الحقوق: (فسترضع له أخرى).. دون اعتراض من الأم ودون تعطيل لحق الطفل في الرضاعة، بسبب تعاسرهما بعد فشلهما!...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{مِن} الواقعة في قوله: {من حيث سكنتم} للتبعيض، أي في بعض ما سكنتم ويؤخذ منه أن المسكن صالح للتبعيض بحسب عرف السكنى مع تجنب التقارب في المبيت إن كانت غير رجعية، فيؤخذ منه أنه إن لم يسعهما خرج الزوج المطلق...

وأفهم قوله: {لكم} أن إرضاع الولد بعد الفراق حق على الأب وحده لأنه كالإِنفاق والأُم ترضع ولدها في العصمة تبعاً لإِنفاق أبيه عليها عند مالك خلافاً لأبي حنيفة والشافعي...