ثم حكى القرآن بعض ما حدث بعد قتل الأخ أخاه فقال : { فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } .
وقوله : { فَبَعَثَ } من البعث بمعنى الإِرسال . وهو هنا مستعمل في الإِلهام بالطير إلى ذلك المكان بحيث يراه قابيل .
والغراب : طائر معروف . قالوا : والحكمة في كونه المبعوث دون غيره من الطيور أو الحيوان ، لأنه يتشاءم به في الفراق والاغتراب . أو لأن من عادة الغراب دفن الأشياء .
وقوله : { يَبْحَثُ فِي الأرض } أي : ينبش التراب بمنقابره ورجليه بحيث يستخرجه من الأرض ، ليعمل ما يشبه الحفرة .
والتعبير بالمضارع ، للإِشارة إلى أن البحث قد مكث وقتا ، وكان مجال استمرار .
وقوله : ( ليريه ) إما متعلق بقوله ( بعث ) فيكون الضمير في الفعل لله - تعالى - أو متعلق بقوله : ( يبحث ) فيكون الضمير للغراب .
قال القرطبي : قال مجاهد : بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما الآخر ثم حفر فدفنه - فتعلم قابيل ذلك من الغراب - وكان ابن آدم هذا أول من قتل . وقيل إن الغراب بحث الأرض على طعمه - أي : أكله - ليخفيه إلى وقت الحاجة إليه ، لأن عادة الغرب فعل ذلك ، فتنبه قابيل بذلك على مواراة أخيه " .
" والسوءة " ما تسوء رؤيته من الجسد ، والمراد بها هنا : جميع جسد الميت وقيل : المراد بها العورة ، لأنها تسوء ناظرها . وخصت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها ، لأن سترها آكد .
وهذه الآية مرتبطة بكلام يسبقها لم يذكره القرآن الكريم لفهمه من السياق .
والتقدير : أن القاتل بعد أن ارتكب جريمته . ورأى جثة أخيه أمامه ملقاة في العراء . تحير ماذا يفعل فيها حتى لا يتركها عرضة لنهش السباع والطيور . { فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ } أي : يحفر وينبش بمنقاره ورجلريه متعمقا { فِي الأرض } { لِيُرِيَهُ } أي : ليعلم ذلك القاتل ويعرفه { كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ } أي : كيف يستر في التراب جسم أخيه بعد أن فارقته الحياة ، وأصبح عرضة للتغير والتعفن .
وقوله - تعالى - { قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي } بيان لما اعترى هذا القاتل من تحسر وندم .
وكلمة { قَالَ يَاوَيْلَتَا } أصلها : يا ويلتي . وهي كلمة جزت وتحسر . تستعمل عند وقوع المصيبة العظيمة كأن المتحسر ينادي ويلته ويطلب حضورها ، بعد تنزيلها منزلة من ينادي . ولا يكون ذلك إلى في أشد الأحوال ألما ، والويلة كالويل : ومعناهما الفضيحة والبلية والهلاك .
أي : قال القاتل لأخيه ظلما وحسدا بجزع وحسرة - بعد أن رأى غرابا يحفر حفرة ليدفن فيها شيئا - قال { يَاوَيْلَتَا } أي : يا فضيحيتي وبليتي أقبليي فهذا وقتك ، لأني قد نزلت بي أسبابك .
وقوله : { أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي } أي : أضعفت عن الحيلة التي تجعلني مثل هذا الغراب فأستر جسد أخي في التراب كما دفن الغراب بمنقاره ورجليه في الأرض ما أراد دفنه ؟ ! والاستفهام في ( أعجزت ) للتعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب ، مع أنه إنسان فيه عقل ، والغراب طائر من أخس الطيور .
وقوله : ( فأوارى ) معطوف على قوله : ( أن أكون ) .
وقوله : { فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } ، تذييل قصد به بيان ما أصاب قابيل بعد أن قتل أخاه عدوانا وحسدا ، ولم يعرف كيف يستر جثته إلا من الغراب .
والندم : أسف الفاعل على فعل صدر منه .
قال الراغب : الندم والندامة التحسر من تغير رأى في أمر فائت . قال - تعالى - : { فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } .
وأصله من منادمة الحزن له وملازمته إياه .
والمعنى : فأصبح قابيل الذي قتل أخاه هابيل بغيا وحسدا من النادمين على ما اقترف من فواحش تدل على جهله ، وبغيه ، وتمكن الحقد من نفسه .
قال صاحب المنار : والندم الذي ندمه - قابيل - هو ما يعرض لكل إنسان عقب ما يصدر عنه من الخطأ في فعله فعله إذا ظهر له أن قفعله كان شرا له لا خيرا . وقد يكون الندم توبة إذا كان سببه الخوف من الله ، والتألم من تعدي حدوده ، وهذا هو المراد بحديث " الندم توبة " - رواه أحمد والبخاري في تاريخه والحاكم البيهقي .
وأما الندم الطبيعي الذي أشرنا إليه فلا يعد وحده توبة . وفي حديث ابن مسعود في الصحيحين مرفوعا : " لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم كفل - أي نصيب - من دمها ؛ لأنه أول من سن القتل " .
ومثلت له سوأة الجريمة في صورتها الحسية . صورة الجثة التي فارفتها الحياة وباتت لحما يسري فيه العفن ، فهو سوأة لا تطيقها النفوس .
وشاءت حكمة الله أن تقفه أمام عجزه - وهو الباطش القاتل الفاتك - عن أن يواري سوأة أخيه . عجزه عن أن يكون كالغراب في أمة الطير :
( فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه . قال : يا ويلتى ! أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي ؟ فأصبح من النادمين ) . .
وتقول بعض الروايات : إن الغراب قتل غرابا آخر ، أو وجد جثة غراب أو جاء ومعه جثة غراب ، فجعل يحفر في الأرض ، ثم واراه وأهال عليه التراب . . فقال القاتل قولته . وفعل مثلما رأى الغراب يفعل . .
وظاهر أن القاتل لم يكن قد رأى من قبل ميتا يدفن - وإلا لفعل - وقد يكون ذلك لأن هذا كان أول ميت في الأرض من أبناء آدم . أو لأن هذا القاتل كان حدثا ولم ير من يدفن ميتا . . والاحتمالان قائمان . وظاهر كذلك أن ندمه لم يكن ندم التوبة - وإلا لقبل الله توبته - وإنما كان الندم الناشى ء من عدم جدوى فعلته ، وما أعقبته له من تعب وعناء وقلق .
كما أن دفن الغراب لأخيه الغراب ، قد يكون من عادات الغربان كما يقول بعض الناس . وقد يكون حدثا خارقا أجراه الله . . وهذه كتلك سواء . . فالذي يودع الأحياء غرائزهم هو الذي يجري أي حدث على يد أي حي . . هذا من قدرته ، وهذا من قدرته على السواء . .
{ فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هََذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ } . .
قال أبو جعفر : وهذا أيضا أحد الأدلة على أن القول في أمر ابني آدم بخلاف ما رواه عمرو عن الحسن لأن الرجلين اللذين وصف الله صفتهما في هذه الاَية لو كانا من بني إسرائيل لم يجهل القاتل دفن أخيه ومواراة سوأة أخيه ، ولكنهما كانا من ولد آدم لصلبه . ولم يكن القاتل منهما أخاه علم سنة الله في عادة الموتى ، ولم يدر ما يصنع بأخيه المقتول ، فذكر أنه كان يحمله على عاتقه حينا حتى أراحت جِيفته ، فأحبّ الله تعريفه السنة في موتى خلقه ، فقّيض له الغرابين اللذين وصف صفتهما في كتابه .
ذكر الأخبار عن أهل التأويل بالذي كان من فعل القاتل من ابني آدم بأخيه المقتول بعد قتله إياه :
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن أبي رَوْق الهَمْداني ، عن أبيه ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : مكث يحمل أخاه في جراب على رقبته سنة ، حتى بعث الله جلّ وعزّ الغرابَين ، فرآهما يبحثان ، فقال : أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب ؟ فدفن أخاه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَةَ أخيهِ بعث الله جلّ وعزّ غرابا حيا إلى غراب ميت ، فجعل الغراب الحيّ يواري سوأة الغراب الميت ، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه : يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ . . . الاَية .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، فيما ذكر عن أبي مالك . وعن أبي صالح ، عن ابن عباس . وعن مرّة ، عن عبد الله . وعن ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : لما مات الغلام تركه بالعَراء ولا يعلم كيف يُدْفن ، فبعث الله غرابين أخوين ، فاقتتلا ، فقتل أحدهما صاحبه ، فحفر له ، ثم حثا عليه ، فلما رآه قال : يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ فَأُوارِىَ سَوْءَةَ أخِي فهو قول الله : فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَةَ أخيهِ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَبْحَثُ قال : بعث الله غرابا حتى حفر لاَخر إلى جنبه ميت وابن آدم القاتل ينظر إليه ، ثم بحث عليه حتى غيبه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : غُرابا يَبْحَثُ في الأَرْضِ حتى حفر لاَخر ميت إلى جنبه ، فغيّبه ، وابن آدم القاتل ينظر إليه حيث يبحث عليه ، حتى غيبه فقال : يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ . . . الاَية .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قوله : فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ قال : بعث الله غرابا إلى غراب ، فاقتتلا ، فقتل أحدهما صاحبه ، فجعل يَحْثِي عليه التراب ، فقال : يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ فَأُوَارِىَ سَوْأةَ أخِي فأصْبَحَ منَ النّادِمِينَ .
حدثني المثنى ، قال : ثني عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ قال : جاء غراب إلى غراب ميت ، فحثي عليه من التراب حتى واراه ، فقال الذي قتل أخاه : يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ . . . الاَية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، قال : لما قتله ندم ، فضمه إليه حتى أرْوَح ، وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكلَه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ أنه بعثه الله عزّ ذكره يبحث في الأرض ذُكِر لنا أنهما غرابان اقتتلا ، فقتل أحدهما صاحبه ، وذلك يعني ابن آدم ينظر ، وجعل الحيّ يحثي على الميت التراب ، فعند ذلك قال ما قال : يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ . . . الاَية ، إلى قوله : مِنَ النّادِمِينَ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : أما قوله : فَبَعَثَ اللّهُ غُرابا قال : قتل غراب غرابا ، فجعل يحثو عليه ، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه حين رآه : يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ فَأُوَارِىَ سَوْءَةَ أخِي فأصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَةَ أخيهِ قال : وارى الغرابُ الغرابَ . قال : كان يحمله على عاتقه مائة سنة لا يدري ما يصنع به ، يحمله ويضعه إلى الأرض حتى رأى يدفن الغراب ، فقال : يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ فَأُوَارِىَ سَوأة أخِي فأصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا معلى بن أسد ، قال : حدثنا خالد ، عن حصين ، عن أبي مالك في قول الله : يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ قال : بعث الله غرابا ، فجعل يبحث على غراب ميت التراب ، قال : فقال عند ذلك : أعَجَزْتُ أنْ أكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِىَ سَوأة أخِي فأصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابا يَبْحَثُ في الأرْضِ : بعث الله غرابا حيا إلى غراب ميت ، فجعل الغراب الحيّ يواري سوأة الغراب الميت ، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه : يَا وَيْلَتا أعَجَزْتُ أنْ أكونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ . . . الاَية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق فيما يذكر عن بعض أهل العلم بالكتاب الأوّل ، قال : لما قتله سُقِط في يديه ، ولم يد كيف يواريه ، وذلك أنه كان فيما يزعمون أوّل قتيل من بين آدم ، وأول ميت ( قال ) يا وَيْلَتا أعَجَزْتُ نْ أكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوأةَ أخي . . . الاَية ( إلى قوله : ثُمّ إنّ كثيرا مِنْهُمْ بعد ذلكَ في الأرْضِ لمُسْرِفون قال : ) ويزعم أهل التوراة أن قابيل حين قتل أخاه هابيل ، قال له جلّ ثناؤه : يا قابيل أين أخوك هابيل ؟ قال : ما أدري ما كنت عليه رقيبا . فقال الله جلّ وعزّ له : إن صوت دم أخيك ليَنُاديني من الأرض ، الاَن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها فبلعت دم أخيك من يدك ، فإذا أنت عملت في الأرض ، فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعا تائها في الأرض . قال قابيل : عظمت خطيئتي عن أن تغفرها ، قد أخرجتني اليوم عن وجه الأرض ، وأتواري من قدّامك ، وأكون فزعا تائها في الأرض ، وكلّ من لقيني قتلني فقال جلّ وعزّ : ليس ذلك كذلك ، ولا يكون كل قاتل قتيلاً يجزى واحدا ، ولكن يجزي سبعة ، وجعل الله في قابيل آية ، لئلا يقتله كلّ من وجده . وخرج قابيل من قدّام الله عزّ وجلّ ، من شرقي عَدَن الجنة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : حدثنا الأعمش ، عن خيثمة ، قال : لما قتل ابن آدم أخاه نَشفَت الأرض دمه ، فُلعنت ، فلم تنشف الأرض دما بعد .
فتأويل الكلام : فأثار الله للقاتل إذ لم يدر ما يصنع بأخيه المقتول غرابا يبحث في الأرض ، يقول : يحفر في الأرض ، فيثير ترابها ليريه كيف يواري سوءة أخيه ، يقول : ليريه كيف يواري جيفة أخيه . وقد يحتمل أن يكون عنى بالسوءة الفَرْج ، غير أن الأغلب من معناه ما ذكرت من الجِيفة ، وبذلك جاء تأويل أهل التأويل . وفي ذلك محذوف ترك ذكره ، استغناء بدلالة ما ذكر منه ، وهو : فأراه بأن بحث في الأرض لغراب آخر ميت ، فواراه فيها ، فقال القاتل أخاه حينئذٍ : يا وَيْلَتا أعَجَزْتُ أنْ أكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ الذي وارى الغرابَ الاَخر الميت فَأُوارِيَ سَوأةَ أخِي ؟ فواراه حينئذٍ فأصْبَحَ منَ النّادِمينَ على ما فَرَط منه من معصية الله عزّ ذكره في قتله أخاه . وكلّ ما ذكر الله عزّ وجلّ في هذه الاَيات ، مَثَل ضربه الله لبني آدم ، وحرّض به المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على استعمال العفو والصفح عن اليهود ، الذين كانوا هَمّوا بقتل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقتلهم من بني النضير ، إذ أتوهم يستعينونهم في دية قتيَلْي عمرو بن أمية الضّمْرِي ، وعرّفهم جلّ وعزّ رداءة سجية أوائلهم وسوء استقامتهم على منهج الحقّ مع كثرة أياديه وآلائه عندهم ، وضرب مثلهم في عدوّهم ومثل المؤمنين في الوفاء لهم والعفو عنهم بابَنْي آدم المقرّبَين قرابينهما اللذين ذكرهما الله في هذه الاَيات . ثم ذلك مَثَل لهم على التأسّي بالفاضل منهما دون الطالح ، وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : قلت لبكر بن عبد الله : أما بلغك أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ الله جلّ وَعَزّ ضَرَبَ لَكُمُ ابْنَيْ آدَمَ مَثَلاً ، فخُذُوا خَيْرَهُما وَدَعُوا شَرّهُما ؟ » قال : بلى .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ ابْنَيْ آدَمَ ضُرِبا مَثَلاً لِهَذِهِ الأُمّةِ فَخُذُوا بالخَيْرِ مِنْهُما » .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن عاصم الأحول ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ اللّهَ ضَرَبَ لَكُمْ ابْنَيْ آدَمَ مَثَلاً ، فَخُذُوا مِنْ خَيْرِهِمْ وَدَعُوا الشّرّ » .
وقوله تعالى : { فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه } روي في معناه أن قابيل جعل أخاه في جراب ومشى به يحمله في عنقه مائة عام . وقيل : سنة واحدة ، وقيل : بل أصبح في ثاني يوم قتله يطلب إخفاء أمر أخيه ، فلم يدر ما يصنع به ، فبعث الله غرابا حيا إلى غراب ميت ، فجعل يبحث في الأرض ويُلقي التراب على الغراب الميت . وروى أن الله تعالى بعث غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما الآخر ، ثم جعل القاتل يبحث ويواري الميت ، وروي أن الله تعالى إنما بعث غرابا واحدا فجعل يبحث ويلقي التراب على هابيل .
وظاهر هذه الآية أن هابيل هو أول ميت من بني آدم ، ولذلك جهلت سنة المواراة ، وكذلك حكى الطبري عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم بما في الكتب الأولى .
و[ يبحث ] معناه : يفتش التراب بمنقاره ويثير ، ومن هذا سميت سورة ( براءة )- البحوث{[4513]}- لأنها فتشت عن المنافقين ، ومن ذلك قول الشاعر :
إن الناس غطوني تغطيت عنهم *** وإن بحثوني كان فيهم مباحث{[4514]}
وفي مثل : لا تكن كالباحث عن الشفرة{[4515]} .
والضمير في قوله : [ سوءة أخيهِ يحتمل أن يعود على قابيل ، ويراد بالأخ هابيل ، ويحتمل أن يعود على الغراب الباحث ، ويراد بالأخ الغراب الميت ، والأول أشهر في التأويل ، والسوأة : العورة ، وخصت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها ، ولأن سترها أوكد ، ويحتمل أن يراد بالسوأة هذه الحالة التي تسوء الناظر بمجموعها ، وأضيفت إلى المقتول من حيث نزلت به النازلة لا على جهة الغض منه ، بل الغض لاحق للقاتل ، وهو الذي أتى بالسوأة ، وقرأ الجمهور : [ فأواري ] بنصب الياء ، وقرأ طلحة بن مصرف ، والفياض بن غزوان : [ فأواري ] بسكون الياء ، وهي لغة لتوالي الحركات .
ولما رأى قابيل فعل الغراب تنبه على ما يجب أن يصنع بأخيه ، ورأى قصور نفسه وجهل البشر بالأمور ، فقال : [ يا ويلتي أعجزت ] الآية ، واحتقر نفسه ، ولذلك ندم ، وقرأ الجمهور : [ يا ويلتَى ] والأصل : يا ويلتي ، لكن من العرب من يبدل من الياء ألفا ويفتح الياء لذلك ، فيقولون : يا ويلتَى ويا غلامَا . ويقف بعضهم على هاء السكت فيقول : يا ويلتاه . وقرأ الحسن بن أبي الحسن : [ يا ويلتي ]{[4516]} . ونداء الويلة هو على معنى : احضري فهذا أوانك ، وهذا هو الباب في قوله : [ يا حسرة ]{[4517]} ، وفي قولهم : يا عجبا وما جرى مجراه من نداء هذه الأمور التي لا تعقل وهي معان . وقرأ الجمهور : [ أعجزت ] بفتح الجيم ، وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، والفياض ، وطلحة بن سلميان : [ أعجزت ] بكسر الجيم ، وهي لغة{[4518]} .
ثم إن قابيل وارى أخاه ، وندم على ما كان منه من معصية الله في قتله حيث لا ينفع الندم ، اختلف العلماء في قابيل- هل هو من الكفار أو من العصاة ؟ والظاهر أنه من العصاة ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهما ودعوا الشر ){[4519]} .