وبعد كل هذه الأوامر والنواهي ، وبخهم الله - تعالى - وقرعهم على ارتكابهم لأمور لا تصدر عن عاقل . وهي أنهم يأمرون الناس بالخير ولا يفعلونه ، فقال تعالى :
{ أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ . . . }
الأمر : طلب إيجاد الفعل . والبر : اسم يتناول كل عمل من أعمال الخير . والنسيان : ضد الذكر ، وهو السهو الحادث بعد حصول العلم . والعقل : يطلق على قوة في النفس ، تستعد بها لقبول العلم . وإدراك الشيء .
والمعنى : كيف يليق بكم يا معشر اليهود ، وأنتم تأمرون الناس بأمهات الفضائل ، وألوان الخيرات ، أن تنسوا أنفسكم ، فلا تأمروا بما تأمرون به غيركم ، وأنتم مع ذلك تقرأون توراتكم ، وتدركون أي عقوبة أليمة لمن يأمر الناس بالخير وينسى نفسه ، أفلا عقل لكم يحبسكم عن هذا السفه الذي تردتيم فيه ، ويذحركم من سوء عاقبته .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - كان يهود المدينة يقول الرجل منهم لصهره ، ولذى قرابته ، ولمن بينه وبينه صلة من المسلمين أثبت على الذي أنت عليه ، وما يأمرك به هذا الرجل يريدون محمداً صلى الله عليه وسلم - فإن أمره حق ، فكانوا يأمرون بالناس بذلك ولا يفعلونه .
والمراد بالنسيان في الآية الكريمة ، تركهم العمل بما يأمرون به غيرهم ، لأن الناسي حقيقة ليس مؤاخذا على مانسيه ، فلا يستحق هذا التوبيخ الشديد الوارد في الآية الكريمة ، وليس التوبيخ متوجها إلى كونهم كانوا يأمرون الناس بالبر ، لأنهن فعل محمود ، وإنما التوبيخ متوجه إلى كونهم تركوا العمل بما يرشدون إليه سواهم ، فهم يداوون الناس ، وقلوبهم مليئة بالأمراض والعلل .
وقوله تعالى : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أسمى أنواع الهداية وآلإرشاد السليم ، فإن من ألطف الأساليب في الخطاب والتوجيه ، أن يكون للموجه إليه النصح صفة من شأنها أن تسوقه إلى خير ، ولكنه ينساق إلى غيره من أنواع الشرور فيقع فعله من الناس موقع الدهشة والغرابة ، فيذكر له مسدى النصح تلك الصفة في معرض الاستفهام بغية تذكيره بأن ما صدر منه لا يلتقى مع ما عرف عنه .
وتطبيقاً لهذا المبدأ نقول : إن المخاطبين بقوله تعالى : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } يعقلون ويدركون الأشياء ، وبهذا الإِدراك توجه إليهم التكليف بالعقائد والشرائع ، ولكنهم لم يسيروا على مقنضي ما لديهم من عقول ، حيث كانوا يأمرون الناس بالخير ، ويصرفون أنفسهم عنه ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم : إن ما أتيتم من أفعال سقيمة . يجعل الناظر إليكم يحكم عليكم بلا أدنى تردد بأنكم لا عقول لكم ، ولا فضيلة لديكم ، وفي هذا الأسلوب ما فيه من الترغيب في فعل الخير ؛ والترهيب من فعل الشر .
ثم ينكر عليهم - وبخاصة أحبارهم - أن يكونوا من الدعاة إلى الإيمان بحكم أنهم أهل كتاب بين مشركين ، وهم في الوقت ذاته يصدون قومهم عن الإيمان بدين الله ، المصدق لدينهم القديم :
( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب ؟ أفلا تعقلون ؟ ) . .
ومع أن هذا النص القرآني كان يواجه ابتداء حالة واقعة من بني إسرائيل ، فإنه في إيحائه للنفس البشرية ، ولرجال الدين بصفة خاصة ، دائم لا يخص قوما دون قوم ولا يعني جيلا دون جيل .
إن آفة رجال الدين - حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة - أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ؛ يأمرون بالخير ولا يفعلونه ؛ ويدعون إلى البر ويهملونه ؛ ويحرفون الكلم عن مواضعه ؛ ويؤولون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى ، ويجدون فتاوى وتأويلات قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص ، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين ، لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان ! كما كان يفعل أحبار يهود !
والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه ، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها . وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم ، لأنهم يسمعون قولا جميلا ، ويشهدون فعلا قبيحا ؛ فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل ؛ وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة ؛ وينطفىء في قلوبهم النور الذي يشع الإيمان ؛ ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم برجال الدين .
إن الكلمة لتنبعث ميتة ، وتصل هامدة ، مهما تكن طنانة رنانة متحمسة ، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها . ولن يؤمن إنسان بما يقول حقا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول ، وتجسيما واقعيا لما ينطق . . عندئذ يؤمن الناس ، ويثق الناس ، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق . . إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها ؛ وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها . . إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة ، لأنها منبثقة من حياة .
والمطابقة بين القول والفعل ، وبين العقيدة والسلوك ، ليست مع هذا أمرا هينا ، ولا طريقا معبدا . إنها في حاجة إلى رياضة وجهد ومحاولة . وإلى صلة بالله ، واستمداد منه ، واستعانة بهديه ؛ فملابسات الحياة وضروراتها واضطراراتها كثيرا ما تنأى بالفرد في واقعه عما يعتقده في ضميره ، أو عما يدعو إليه غيره . والفرد الفاني ما لم يتصل بالقوة الخالدة ضعيف مهما كانت قوته ، لأن قوى الشر والطغيان والإغواء أكبر منه ؛ وقد يغالبها مرة ومرة ومرة ؛ ولكن لحظة ضعف تنتابه فيتخاذل ويتهاوى ، ويخسر ماضيه وحاضره ومستقبله ؛ فأما وهو يركن إلى قوة الأزل والأبد فهو قوي قوي ، أقوى من كل قوي . قوي على شهوته وضعفه . قوي على ضروراته واضطراراته . قوي على ذوي القوة الذين يواجهونه .
{ أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى البرّ الذي كان المخاطبون بهذه الآية يأمرون الناس به وينسون أنفسهم ، بعد إجماع جميعهم على أن كل طاعة لله فهي تسمى برّا . فروي عن ابن عباس ما :
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أتأْمُرُونَ النّاسَ بالبرّ وَتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ أفَلا تَعْقِلُونَ أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوّة والعهد من التوراة ، وتتركون أنفسكم : أي وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي ، وتنقضون ميثاقي ، وتجحدون ما تعلمون من كتابي .
وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : أتأْمُرُونَ النّاسَ بالبرّ يقول : أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة وَتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ .
حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثني عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أتأْمُرُونَ النّاسَ بالبِرّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ قال : كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وهم يعصونه .
وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : أتأمُرُونَ النّاسَ بالبِرّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ قال : كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبرّ ويخالفون ، فعيّرهم الله .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : قال ابن جريج : أتأْمُرُونَ النّاسَ بالبرّ أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة ، ويدعون العمل بما يأمرون به الناس ، فعيّرهم الله بذلك ، فمن أمر بخير فليكن أشدّ الناس فيه مسارعة .
حدثني به يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : هؤلاء اليهود كان إذا جاء الرجل يسألهم ما ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء ، أمروه بالحقّ ، فقال الله لهم : أتأْمُرُونَ النّاسَ بالبرّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ أفَلا تَعْقِلُونَ .
وحدثني عليّ بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم الحرمي ، قال : حدثنا مخلد بن الحسين ، عن أيوب السختياني ، عن أبي قلابة في قول الله : أتأْمُرُونَ النّاسَ بالبِرّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ قال : قال أبو الدرداء : لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشدّ مَقْتا .
قال أبو جعفر : وجميع الذي قال في تأويل هذه الآية من ذكرنا قوله متقارب المعنى لأنهم وإن اختلفوا في صفة البرّ الذي كان القوم يأمرون به غيرهم الذين وصفهم الله بما وصفهم به ، فهم متفقون في أنهم كانوا يأمرون الناس بما لله فيه رضا من القول أو العمل ، ويخالفون ما أمروهم به من ذلك إلى غيره بأفعالهم .
فالتأويل الذي يدلّ على صحته ظاهر التلاوة إذا : أتأمرون الناس بطاعة الله وتتركون أنفسكم تعصيه ، فهلا تأمرونها بما تأمرون به الناس من طاعة ربكم معيرهم بذلك ومقبحا إليهم ما أتوا به .
ومعنى نسيانهم أنفسهم في هذا الموضع نظير النسيان الذي قال جل ثناؤه : نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ بمعنى : تركوا طاعة الله فتركهم الله من ثوابه .
القول في تأويل قوله تعالى : وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ .
قال أبو جعفر : يعني بقوله : تَتْلُونَ : تدرسون وتقرءون . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك عن ابن عباس : وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ يقول : تدرسون الكتاب بذلك . ويعني بالكتاب : التوراة .
القول في تأويل قوله تعالى : أفَلا تَعْقِلُونَ .
قال أبو جعفر : يعني بقوله : أفَلا تَعْقِلُونَ : أفلا تفقهون وتفهمون قبح ما تأتون من معصيتكم ربكم التي تأمرون الناس بخلافها وتنهونهم عن ركوبها وأنتم راكبوها ، وأنتم تعلمون أن الذي عليكم من حقّ الله وطاعته في اتباع محمد والإيمان به وبما جاء به مثل الذي على من تأمرونه باتباعه . كما :
حدثنا به محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق عن الضحاك ، عن ابن عباس : أفَلا تَعْقلُونَ يقول : أفلا تفهمون فنهاهم عن هذا الخلق القبيح .
وهذا يدل على صحة ما قلنا من أمر أحبار يهود بني إسرائيل غيرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنهم كانوا يقولون هو مبعوث إلى غيرنا كما ذكرنا قبل .
{ أتأمرون الناس بالبر } تقرير مع توبيخ وتعجيب . والبر : التوسع في الخير ، من البر وهو الفضاء الواسع يتناول كل خير ، ولذلك قيل ثلاثة : بر في عبادة الله تعالى ، وبر في مراعاة الأقارب . وبر في معاملة الأجانب .
{ وتنسون أنفسكم } وتتركونها من البر كالمنسييات ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في أحبار المدينة ، كانوا يأمرون سرا من نصحوه باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولا يتبعونه .
وقيل : كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون { وأنتم تتلون الكتاب } تبكيت كقوله : { وأنتم تعلمون } أي تتلون التوراة ، وفيها الوعيد على العناد وترك البر ومخالفة القول العمل .
{ أفلا تعقلون } قبح صنيعكم فيصدكم عنه ، أو أفلا عقل لكم يمنعكم عما تعلمون وخامة عاقبته . والعقل في الأصل الحبس ، سمي به الإدراك الإنساني لأنه يحبسه عما يقبح ، ويعقله على ما يحسن ، ثم القوة التي بها النفس تدرك هذا الإدراك . والآية ناعية على من يعظ غيره ولا يتعظ بنفسه سوء صنيعه وخبث نفسه ، وأن فعله فعل الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل ، فإن الجامع بينهما تأبى عنه شكيمته ، والمراد بها حث الواعظ على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل لتقوم فيقيم غيره ، لا منع الفاسق عن الوعظ فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر .
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( 44 )
وقوله تعالى : { أتأمرون الناس } خرج مخرج الاستفهام ، ومعناه التوبيخ( {[551]} ) ، و «البر » يجمع وجوه الخير والطاعات ويقع على كل واحد منها اسم بر ، { وتنسون } بمعنى تتركون كما قال الله تعالى : { نسوا الله فنسيهم }( {[552]} ) [ التوبة : 67 ] .
واختلف المتأولون في المقصود بهذه الآية ، فقال ابن عباس : «كان الأحبار يأمرون أتباعهم ومقلديهم باتباع التوراة ، وكانوا هم يخالفونها في جحدهم منها صفة محمد صلى الله عليه وسلم » .
وقالت فرقة : كان الأحبار إذا استرشدهم أحد من العرب في اتباع محمد دلوه على ذلك ، وهم لا يفعلونه .
وقال ابن جريج : «كان الأحبار يحضون الناس على طاعة الله ، وكانوا هم يواقعون المعاصي » . وقالت فرقة : كانوا يحضون على الصدقة ويبخلون .
وقوله تعالى : { وأنتم تتلون } معناه : تدرسون وتقرؤون ، ويحتمل أن يكون المعنى تتبعون أي في الاقتداء به ، و { الكتاب } التوراة وهي تنهاهم عما هم عليه من هذه الصفة الذميمة .
وقوله تعالى : { أفلا تعقلون } معناه : أفلا تمنعون أنفسكم( {[553]} ) من مواقعة هذه الحال المردية لكم ؟ والعقل : الإدراك المانع من الخطأ مأخوذ منه عقال البعير ، أي يمنعه من التصرف ، ومنه المعقل أي موضع الامتناع .