والمراد بالنجوى فى قوله- تعالى - بعد ذلك : { إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ . . . } ، نجوى المنافقين فيما بينهم ، وهي التي عبر عنها -سبحانه- قبل ذلك بقوله : { وَيَتَنَاجَوْنَ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول } فأل في قوله - تعالى - : { النجوى } للعهد ، أي : إنما النجوى المعهودة التي كان يتناجى المنافقون بها فيما بينهم ، كائنة من الشيطان لا من غيره ، لأنه هو الذى حرضهم وأغراهم ، بأن يتساروا بالإثم والعدوان .
وقوله : { لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ } قرأ الجمهور : { لِيَحْزُنَ } - بفتح الياء وضم الزاي - مضارع حزن ، فيكون { الذين آمَنُواْ } فاعل ، والحزن : الهم والغم .
أي : زين الشيطان للمنافقين هذه النجوى السيئة ، لكي يحزن المؤمنون ويغتموا ، بسبب ظنهم أن من وراء هذه النجوى أخبارا سيئة تتعلق بهم أو بذويهم .
وقرأ نافع { لِيُحْزِنَ } - بضم الياء وكسر الزاي - فيكون { الذين آمَنُواْ } مفعولا . أي : فعل الشيطان ما فعل مع المنافقين ، لكي يدخل الحزن والغم على المؤمنين .
وأسند - سبحانه - النجوى إلى الشيطان ، باعتبار أنه هو الذى يوسوس بها ، ويزينها فى قلوب هؤلاء المنافقين وأشباههم .
وجملة : { وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ الله } معترضة لتثبيت المؤمنين ، وتسليتهم عما أصابهم من المنافقين ، واسم ليس : الشيطان أو التناجي ، والاستثناء مفرغ من أهم الأحوال ، و " شيئا " منصوب على المفعول المطلق ، أي : لا تحزنوا - أيها المؤمنون - لمسالك المنافقين معكم ، ولا تخافوا من تناجيهم فيما بينهم ، فإنها نجوى زينها لهم الشيطان ، واعلموا أن كيد الشيطان لن يضركم شيئا من الضرر في حال من الأحوال إلا فى حال إرادة الله - تعالى - ومشيئته .
وما دام الأمر كما بينت لكم ، فاجعلوا توكلكم - أيها المؤمنون - على الله - تعالى - وحده ، ولا تبالوا بالمنافقين ، ولا بتناجيهم ، ولا بما يسوله الشيطان لهم من قبائح ، فإن كل شىء بقضاء الله وقدره .
قال الآلوسى ما ملخصه : وحاصل هذا الكلام أن ما يتناجى المنافقون به مما يحزن المؤمنين . إن وقع فهو إرادة الله - تعالى - ومشيئته ، ولا دخل للمنافقين فيه ، وما دام الأمر كذلك ، فلا يكترث المؤمنون بتناجيهم ، وليتوكلوا على الله - عز وجل - ولا يخافوا من تناجيهم .
ثم إن التناجي بين المؤمنين قد يكون منهيا عنه ، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا كنتم ثلاثة ، فلا يتناجى اثنان دون الآخر ، حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه " . ومثل التناجى فى ذلك ، أن يتكلم اثنان بحضور ثالث بلغة لا يفهمها الثالث ، إن كان يحزنه ذلك .
وروى الإمام مسلم عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه ، فإن ذلك يحزنه " .
والخلاصة أن تعاليم الإسلام ، تنهى عن التناجي فى الحالات التى توقع الريبة فى القلوب ، وتزعزع الثقة بين الأفراد والجماعات .
وهذا النهى لون من الأدب الحكيم الذى يحفظ للمؤمنين مودتهم ومحبتهم ويبعد عن نفوسهم الشكوك والريب ، ويطرد عن قلوبهم نزغات الشيطان الذى يجري من ابن آدم مجرى الدم .
ثم ينفرهم من التناجي والمسارة والتدسس بالقول في خفية عن الجماعة المسلمة ، التي هم منها ، ومصلحتهم مصلحتها ، وينبغي ألا يشعروا بالانفصال عنها في شأن من الشئون . فيقول لهم : إن رؤية المسلمين للوسوسة والهمس والانعزال بالحديث تبث في قلوبهم الحزن والتوجس ، وتخلق جوا من عدم الثقة ؛ وأن الشيطان يغري المتناجين ليحزنوا نفوس إخوانهم ويدخلوا إليها الوساوس والهموم . ويطمئن المؤمنين بأن الشيطان لن يبلغ فيهم ما يريد :
( إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا ، وليس بضارهم شيئا - إلا بإذن الله - وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . .
فالمؤمنون لا يتوكلون إلا على الله . فليس وراء ذلك توكل ، وليس من دون الله من يتوكل عليه المؤمنون !
وقد وردت الأحاديث النبوية الكريمة بالنهي عن التناجي في الحالات التي توقع الريبة وتزعزع الثقة وتبعث التوجس :
جاء في الصحيحين من حديث الأعمش - بإسناده - عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه " .
وهو أدب رفيع ، كما أنه تحفظ حكيم لإبعاد كل الريب والشكوك . فأما حيث تكون هناك مصلحة في كتمان سر ، أو ستر عورة ، في شأن عام أو خاص ، فلا مانع من التشاور في سر وتكتم . وهذا يكون عادة بين القادة المسئولين عن الجماعة . ولا يجوز أن يكون تجمعا جانبيا بعيدا عن علم الجماعة . فهذا هو الذي نهى عنه القرآن ونهى عنه الرسول . وهذا هو الذي يفتت الجماعة أو يوقع في صفوفها الشك وفقدان الثقة . وهذا هو الذي يدبره الشيطان ليحزن الذين آمنوا . ووعد الله قاطع في أن الشيطان لن يبلغ بهذه الوسيلة ما يريد في الجماعة المؤمنة ، لأن الله حارسها وكالئها ؛ وهو شاهد حاضر في كل مناجاة ، وعالم بما يدور فيها من كيد ودس وتآمر . ولن يضر الشيطان المؤمنين . . ( إلا بإذن الله ) . . وهو استثناء تحفظي لتقرير طلاقة المشيئة في كل موطن من مواطن الوعد والجزم ، لتبقى المشيئة حرة وراء الوعد والجزم . .
( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . . فهو الحارس الحامي ، وهو القوي العزيز ، وهو العليم الخبير . وهو الشاهد الحاضر الذي لا يغيب . ولا يكون في الكون إلا ما يريد . وقد وعد بحراسة المؤمنين . فأي طمأنينة بعد هذا وأي يقين ?
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا النّجْوَىَ مِنَ الشّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الّذِينَ آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرّهِمْ شَيْئاً إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ } .
يقول تعالى ذكره : إنما المناجاة من الشيطان ، ثم اختلف أهل العلم في النجوى التي أخبر الله أنها من الشيطان ، أيّ ذلك هو ، فقال بعضهم : عُنِي بذلك مناجاة المنافقين بعضهم بعضا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنّمَا النّجْوَى مِن الشّيْطان لِيَحْزُنَ الّذِينَ آمَنُوا }كان المنافقون يتناجون بينهم ، وكان ذلك يغيظ المؤمنين ، ويكبر عليهم ، فأنزل الله في ذلك القرآن{ إنّمَا النّجْوَى مِن الشّيْطان لِيَحْزُنَ الّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ شَيْئا . . . }الآية .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله عزّ وجلّ : { إنّمَا النّجْوَى مِنَ الشّيْطانِ لِيَحْزُنَ الّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ شَيْئا إلاّ بإذْنِ اللّهِ }قال : كان الرجل يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله الحاجة ليرى الناس أنه قد ناجى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يمنع ذلك من أحد ، قال : والأرض يومئذ حرب على أهل هذا البلد ، وكان إبليس يأتي القوم فيقول لهم : إنما يتناجون في أمور قد حضرت ، وجموع قد جمعت لكم وأشياء ، فقال الله : { إنّمَا النّجْوَى مِنَ الشّيْطانِ لِيَحْزُنَ الّذِينَ آمَنُوا . . . }إلى آخر الآية .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : كان المسلمون إذا رأوا المنافقين خلوا يتناجون ، يشقّ عليهم ، فنزلت { إنّمَا النّجْوَى مِنَ الشّيْطانِ لِيَحْزُنَ الّذِينَ آمَنُوا } .
وقال آخرون : عُنِي بذلك أحلام النوم التي يراها الإنسان في نومه فتحزنه .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن داود البلخي ، قال : سئل عطية ، وأنا أسمع الرؤيا ، فقال : الرؤيا على ثلاث منازل ، فمنها وسوسة الشيطان ، فذلك قوله : { إنّمَا النّجْوَى مِنَ الشّيْطَانِ }ومنها ما يحدّث نفسه بالنهار فيراه بالليل ومنها كالأخذ باليد .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عُنِي به مناجاة المنافقين بعضهم بعضا بالإثم والعدوان ، وذلك أن الله جلّ ثناؤه تقدم بالنهي عنها بقوله { إذَا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بالإثْم والعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرّسُولِ } ، ثم عما في ذلك من المكروه على أهل الإيمان ، وعن سبب نهيه إياهم عنه ، فقال : { إنّمَا النّجْوَى مِنَ الشّيْطانِ لِيَحْزُنَ الّذِينَ آمَنُوا } ، فبين بذلك إذ كان النهي عن رؤية المرء في منامه كان كذلك ، وكان عقيب نهيه عن النجوى بصفة أنه من صفة ما نهى عنه .
وقوله : { وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ شَيْئا إلاّ بإذْنِ اللّهِ }يقول تعالى ذكره : وليس التناجي بضارّ المؤمنين شيئا إلا بإذن الله ، يعني بقضاء الله وقَدَره .
وقوله : { وَعَلى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ المُوءْمِنُونَ }يقول تعالى ذكره : وعلى الله فليتوكل في أمورهم أهل الإيمان به ، ولا يحزنوا من تناجي المنافقين ومن يكيدهم بذلك ، وأن تناجيهم غير ضارّهم إذا حفظهم ربهم .