اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّمَا ٱلنَّجۡوَىٰ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ لِيَحۡزُنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيۡسَ بِضَآرِّهِمۡ شَيۡـًٔا إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ} (10)

قوله تعالى : { إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ } ، تقدم قراءتنا «ليحزن » بالضم والفتح في «آل عمران » [ آل عمران 176 ] .

وقرئ{[55698]} : «بفتح الياء والزاي » على أنه مسند إلى الموصول بعده ، فيكون فاعلاً .

فصل في تحرير معنى الآية :

قال ابن الخطيب{[55699]} : الألف واللام في لفظ «النجوى » لا يمكن أن يكون للاستغراق ؛ لأن في «النجوى » ما يكون من الله ولله ، بل المراد منه : المعهود السابق ، وهو النجوى بالإثم ليحزن المؤمنين إذا رأوهم متناجين .

قال المفسرون{[55700]} : معنى قوله تعالى : { إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ } وتوهموا أن المسلمين أصيبوا في السَّرايا ، أو إذا رأو اجتماعهم على مكايدة المسلمين ، وربما كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم فيظن المسلمون أنهم ينتقصونهم عند النبي صلى الله عليه وسلم { وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ } أي : التناجي { شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي : بمشيئته .

وقيل : بعلمه .

وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - بأمره .

{ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أي : يكلون أمرهم إليه ، ويفوضون [ جميع ] {[55701]} شئونهم إلى عونه .

فصل في النهي عن التناجي :

روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذَا كَانَ ثلاثةٌ فَلا يَتَنَاجَى اثْنانِ دُونَ الواحدِ »{[55702]} .

وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذَا كَانَ ثَلاثَةٌ فَلا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ حتَّى يَخْتلطُوا بالنَّاسِ من أجْلِ أنْ يُحْزِنَهُ »{[55703]} .

فبين في هذا الحديث غاية المنع ، وهو أن يجد الثالث من يتحدث معه كما فعل ابن عمر ، وذلك أنه كان يتحدث مع رجل ، فجاء آخر يريد أن يناجيه فلم يُناجِهِ حتى دعا رابعاً ، فقال له وللأول : تأخَّرا وناجى الرجل الطَّالب للمناجاة . خرجه في «الموطأ »{[55704]} ونبه فيه على العلة بقوله : «مِنْ أجْلِ أن يُحْزِنَهُ » أي : يقع في نفسه ما يحزن لأجله ، وذلك بأن يقدر في نفسه أن الحديث عنه بما يكره ، أو أنهم لم يروه أهلاً بأن يشركوه في حديثهم ، إلى غير ذلك من ألقيات الشيطان ، وأحاديث النفس ، ويحصل ذلك كله من بقائه وحده ، فإذا كان معه غيره أمن ذلك ، وعلى هذا يستوي في ذلك كل الأعداد ، فلا يتناجى أربعة دون واحد ، ولا عشرة ولا ألف مثلاً ، لوجود ذلك المعنى في حقه ، بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع ، فيكون بالمنع أولى ، وإنما خص الثلاثة بالذكر ؛ لأنه أول عدد يتأتى ذلك فيه .

قال القرطبي{[55705]} : «وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال » .

وذهب إليه ابن عمر ومالك والجمهور ، وسواء كان التناجي في مندوب ، أو مباح ، أو واجب فإن الحزن يقع به .

وقد ذهب بعض الناس إلى أن ذلك في أول الإسلام ؛ لأن ذلك كان حال المنافقين ، فيتناجى المنافقون دون المؤمنين ، فلما فشا الإسلام سقط ذلك .

وقال بعضهم : ذلك خاصّ بالسفر ، وفي المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه ، فأما في الحضر وبين العمارة فلا ؛ لأنه يجد من يعينه ، بخلاف السفر فإنه مظنَّة الاغتيال وعدم الغوث ، والله أعلم .


[55698]:ينظر: الكشاف 4/491، والمحرر الوجيز 5/278، والبحر المحيط 8/235، والدر المصون 6/289.
[55699]:التفسير الكبير 29/233.
[55700]:ينظر: القرطبي 17/191.
[55701]:سقط من أ.
[55702]:تقدم.
[55703]:تقدم.
[55704]:ينظر: موطأ الإمام مالك 2/988.
[55705]:الجامع لأحكام القرآن 17/192.