السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّمَا ٱلنَّجۡوَىٰ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ لِيَحۡزُنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيۡسَ بِضَآرِّهِمۡ شَيۡـًٔا إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ} (10)

{ إنما النجوى } أي : المعهود وهي المنهي عنها { من الشيطان } أي : مبتدئة وممتدّة من المحترق بطرده عن رحمة الله تعالى ، فإنه الحامل عليها بتزيينها ففاعلها تابع لأعدى أعدائه مخالف لأعظم أوليائه ، { ليحزن } أي : الشيطان { الذين آمنوا }أي : ليوهمهم أنها لسبب شيء وقع مما يؤذيهم ، والحزن همّ غليظ وتوجع يدق ، يقال : حزنه وأحزنه بمعنى ، قال في القاموس : أو أحزنه جعله حزيناً .

وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي من أحزنه ، والباقون بفتح الياء وضم الزاي من حزن ، والقراءة الأولى أشد في المعنى على ما في القاموس .

{ وليس } أي : الشيطان أو ما حمل عليه من التناجي { بضارهم } أي : الذين آمنوا { شيئا } من الضرر وإن قلّ{ إلا بإذن الله }أي : بمشيئة الملك المحيط علماً وقدرة .

فإن قيل :كيف لا يضرّهم ذلك ولا يحزنهم إلا بإذن الله ؟ أجيب : بأنهم كانوا يوهمون المؤمنين في نجواهم وتفاخرهم أنّ غزاتهم غلبوا وأنّ أقاربهم قتلوا فقال تعالى لا يضرّهم الشيطان والحزن بذلك الموهم إلا بأذن الله تعالى أي : بمشيئته وهو أن يقضي الموت على أقاربهم والغلبة على الغزاة ، { وعلى الله } أي : الملك الذي لا كفء له لا على أحد غيره { فليتوكل المؤمنون }أي : الراسخون في الإيمان في جميع أمورهم ، فإنه القادر وحده على إصلاحها وإفسادها ، فلا يحزنوا من أحد أن يكيدهم بسرّه ولا يجهره فإنهم توكلوا عليه وفوّضوا أمورهم إليه ، وخص الراسخين لإمكان ذلك منهم في العادة ، وأمّا أصحاب البدايات فلا يكون ذلك منهم إلا خرق عادة ، روى ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بأذنه فإنّ ذلك يحزنه » وعن عبد الله بن مسعود أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى يختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه » ، فبين في هذا الحديث غاية المنع وهو أن يجد الثالث من يتحدّث معه كما فعل ابن عمر وذلك أنه كان يتحدث مع رجل فجاء آخر يريد أن يناجيه فلم يناجه حتى دعا رابعاً ، فقال له وللأول تأخرا وناجى الرجل الطالب للمناجاة ، أخرجه في الموطأ ونبه على العلة بقوله : من أجل أن يحزنه أي : يقع في نفسه ما يحزن لأجله وعلى هذا يستوي في ذلك كل الأعداد فلا يتناجى أربعة دون واحد ولا عشرة ولا ألف مثلاً ، لوجود ذلك المعنى في حقه بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع فيكون بالمنع أولى ، وإنما خص الثلاثة بالذكر ، لأنه أوّل عدد يتأتى ذلك فيه .

قال القرطبي : وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال ، وذهب إليه ابن عمر ومالك والجمهور ، وسواء أكان التناجي في واجب أو مندوب أو مباح فإنّ الحزن ثابت به ، وقد ذهب بعض الناس إلى أنّ ذلك كان في أوّل الإسلام لأنّ ذلك كان حال المنافقين فيتناجى المنافقون دون المؤمنين فلما فشا الإسلام سقط ذلك ، وقال بعضهم : ذلك خاص بالسفر وفي المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه فأمّا الحضر وبين العمارة فلا ؛ لأنه يجد من يغيثه بخلاف السفر فإنه مظنة الاغتيال وعدم الغوث .