وقوله { فَسَبِّحْ } جواب إذا .
والمعنى : إذا أتم الله عليك - أيها الرسول الكريم - وعلى أصحابك النصر ، وصارت لكم الكلمة العليا على أعدائكم ، وفتح لكم مكة ، وشاهدت الناس يدخلون فى دين الإِسلام ، جماعات ثم جماعات كثيرة بدون قتال يذكر .
إذا علمت ورأيت كل ذلك ، فداوم وواظب على تسبيح ربك ، وتنزيهه عن كل ما لا يليق به ، شكرا له على نعمه ، وداوم - أيضا - على طلب مغفرته لك وللمؤمنين .
{ إنه } عز وجل - { كان } وما زال { توابا } أي : كثير القبول لتوبة عباده التائبين إليه ، كما قال - سبحانه - : { وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا من عباده التائبين توبة صادقة نصوحا .
وبناء على هذا الإيحاء وما ينشئه من تصور خاص لحقيقة الأمر يتحدد شأن الرسول [ ص ] ومن معه بإزاء تكريم الله لهم ، وإكرامهم بتحقيق نصره على أيديهم . إن شأنه - ومن معه - هو الإتجاه إلى الله بالتسبيح وبالحمد والاستغفار في لحظة الانتصار .
التسبيح والحمد على ما أولاهم من منة بأن جعلهم أمناء على دعوته حراسا لدينه . وعلى ما أولى البشرية كلها من رحمة بنصره لدينه ، وفتحه على رسوله ودخول الناس أفواجا في هذا الخير الفائض العميم ، بعد العمى والضلال والخسران .
والاستغفار لملابسات نفسية كثيرة دقيقة لطيفة المدخل : الاستغفار من الزهو الذي قد يساور القلب أو يتدسس إليه من سكرة النصر بعد طول الكفاح ، وفرحة الظفر بعد طول العناء . وهو مدخل يصعب توقيه في القلب البشري . فمن هذا يكون الاستغفار .
والاستغفار مما قد يكون ساور القلب أو تدسس إليه في فترة الكفاح الطويل والعناء القاسي ، والشدة الطاغية والكرب الغامر . . من ضيق بالشدة ، واستبطاء لوعد الله بالنصر ، وزلزلة كالتي قال عنها في موضع آخر : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ? ألا إن نصر الله قريب ) فمن هذا يكون الاستغفار .
والاستغفار من التقصير في حمد الله وشكره . فجهد الإنسان ، مهما كان ، ضعيف محدود ، وآلاء الله دائمة الفيض والهملان . . ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) . . فمن هذا التقصير يكون الاستغفار . .
وهناك لطيفة أخرى للاستغفار لحظة الانتصار . . ففيه إيحاء للنفس واشعار في لحظة الزهو والفخر بأنها في موقف التقصير والعجز . فأولى أن تطامن من كبريائها . وتطلب العفو من ربها . وهذا يصد قوى الشعور بالزهو والغرور . .
ثم إن ذلك الشعور بالنقص والعجز والتقصير والإتجاه إلى الله طلبا للعفو والسماحة والمغفرة يضمن كذلك عدم الطغيان على المقهورين المغلوبين . ليرقب المنتصر الله فيهم ، فهو الذي سلطه عليهم ، وهو العاجز القاصر المقصر . وإنها سلطة الله عليهم تحقيقا لأمر يريده هو . والنصر نصره ، والفتح فتحه ، والدين دينه ، وإلى الله تصير الأمور .
إنه الأفق الوضيء الكريم ، الذي يهتف القرآن الكريم بالنفس البشرية لتتطلع إليه ، وترقى في مدارجه ، على حدائه النبيل البار . الأفق الذي يكبر فيه الإنسان لأنه يطامن من كبريائه ، وترف فيه روحه طليقة لانها تعنو لله !
إنه الانطلاق من قيود الذات ليصبح البشر أرواحا من روح الله . ليس لها حظ في شيء إلا رضاه . ومع هذا الانطلاق جهاد لنصرة الخير وتحقيق الحق ؛ وعمل لعمارة الأرض وترقية الحياة ؛ وقيادة للبشرية قيادة رشيدة نظيفة معمرة ، بانية عادلة خيرة ، . . الاتجاه فيها إلى الله .
وعبثا يحاول الإنسان الانطلاق والتحرر وهو مشدود إلى ذاته ، مقيد برغباته ، مثقل بشهواته . عبثا يحاول ما لم يتحرر من نفسه ، ويتجرد في لحظة النصر والغنم من حظ نفسه ليذكر الله وحده .
وهذا هو الأدب الذي اتسمت به النبوة دائما ، يريد الله أن ترتفع البشرية إلى آفاقه ، أو تتطلع إلى هذه الآفاق دائما . .
كان هذا هو أدب يوسف - عليه السلام - في اللحظة التي تم له فيها كل شيء ، وتحققت رؤياه : ( ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا ، وقال : يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا . وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي . إن ربي لطيف لما يشاء ، إنه هو العليم الحكيم ) . .
وفي هذه اللحظة نزع يوسف - عليه السلام - نفسه من الصفاء والعناق والفرحة والابتهاج ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر . كل دعوته وهو في أبهة السلطان وفي فرحة تحقيق الأحلام :
( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث ، فاطر السماوات والأرض ، أنت وليي في الدنيا والآخرة ، توفني مسلما ، وألحقني بالصالحين ) . . وهنا يتوارى الجاه والسلطان ، وتتوارى فرحة اللقاء وتجمع الأهل ولمة الإخوان ، ويبدو المشهد الأخير مشهد إنسان فرد يبتهل إلى ربه أن يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه ، وأن يلحقه بالصالحين عنده . من فضله ومنه وكرمه . .
وكان هذا هو أدب سليمان عليه السلام وقد رأى عرش ملكة سبأ حاضرا بين يديه قبل أن يرتد إليه طرفه : ( فلما رآه مستقرا عنده قال : هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ، ومن كفر فإن ربي غني كريم ) . .
وهذا كان أدب محمد [ ص ] في حياته كلها ، وفي موقف النصر والفتح الذي جعله ربه علامة له . . انحنى لله شاكرا على ظهر دابته ودخل مكة في هذه الصورة . مكة التي آذته وأخرجته وحاربته ووقفت في طريق الدعوة تلك الوقفة العنيدة . . فلما أن جاءه نصر الله والفتح ، نسي فرحة النصر وانحنى انحناءة الشكر ، وسبح وحمد واستغفر كما لقنه ربه ، وجعل يكثر من التسبيح والحمد والاستغفار كما وردت بذلك الآثار . وكانت هذه سنته في أصحابه من بعده ، رضي الله عنهم أجمعين .
وهكذا ارتفعت البشرية بالإيمان بالله ، وهكذا أشرقت وشفت ورفرفت ، وهكذا بلغت من العظمة والقوة والانطلاق . .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.