التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَشۡتَرُونَ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَـٰٓئِكَ مَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ إِلَّا ٱلنَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (174)

ثم تحدث القرآن عن سوء عاقبة الذين يكتمون ما أمر الله بإظهاره وتوعدهم بأقسى ألوان العذاب فقال - تعالى - :

{ إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ . . . }

الكتم والكتمان : إخفاء الشيء قصداً مع تحقق الداعي إلى إظهاره .

وقد تحدث القرآن - قبل هذه الآيات بقليل - في قوله تعالى - { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى } عن المصيرر الأليم الذي توعد الله به أولئك الكاتمين لما أمر الله بإظهاره ، وأعاد الحديث عن سوء عاقبتهم هنا ؛ لكي ينذرهم مرة بعد أخرى حتى يقلعوا عن هذه الرذيلة التي هي من أبشع الرذائل وأقبحها ، ولكي يغرس في قلوب الناس - وخصوصا العلماء - الشجاعة التي تجعلهم يجهرون بكملة الحق في وجوه الطغاة لا يخافون لومة لائم ، ويبلغون رسالات الله دون أن يخشوا أحداً سواه ، ويبينون للناس ما أمرهم الله ببيانه بطريقة سليمة أمينة خالية من التحريف الكاذب ، والتأويل الباطل .

قال الإِمام الرازي : قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في رؤساء اليهود وأحبارهم . كانوا يأخذون من أتباعهم الهدايا ، فلما بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم خافوا انطقاع تلك المنافع فكتموا أمره - عليه السلام - وأمر شرائعه فنزلت هذه الآية .

ثم قال الإِمام الرازي : والآية وإن نزلت في أهل الكتاب لكنها عامة في حق كل من كتم شيئاً من باب الدين يجب إظهاره ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " .

والمراد بالكتاب ، التوراة ، أو جنس الكتب السماوية التي بشرت النبي صلى الله عليه وسلم .

و { مِنَ } في قوله : { مِنَ الكتاب } بمعنى في أي : يكتمون ما أنزل الله في كتابه من صفة النبي صلى الله عليه وسلم ونعته ووقت بعثته .

وقيل للبيان ، وهي حال من العائد على الموصول والتقدير : أنزل الله حال كونه من الكتاب والعامل فيه أنزل .

وقوله : { وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } معطوف على يكتمون .

أي : يكتمون ما أنزل الله من الكتاب مما يشهد بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذون من سفلتهم في مقابل ذلك عرضاً قليلا من أعراض الدنيا .

والضمير في قوله : { بِهِ } يعود إلى ما أنزل الله ، أو إلى الكتمان الذي يدل عليه الفعل { يَكْتُمُونَ } أو إلى الكتاب .

ووصف هذا الثمن الذي يأخذونه في مقابل كتمانهم بالقلة ، لأن كل ما يؤخذ في مقابلة إخفاء شيء مما أنزله الله فهو قليل حتى ولو كان ملء الأرض ذهباً .

وقوله - تعالى - : { أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار } وما عطف عليه ، بيان للعذاب المهين الذي أعدلهم بسبب كتمانهم لما أمر الله بإظهاره وبيعهم دينهم بدنياهم .

أي : أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا ما يؤدي بهم إلى النار وبئس القرار كما قال - تعالى - في حق أكله مال اليتامى : { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً }

وفي هذه الجملة الكريمة تمثيل لحالة أولئك الكفار الحاصلة من أكلهم ذلك الثمن القليل .

المفضي بهم إلى النار ، بحالة من يأكل النار نفسها . ووجه الشبه بين الحالتين : أنه يترتب على أكل ذلك المال الحرام من تقطيع الأمعاء وشدة الألم ، ما يترب على أكل النار ذاتها ، إلا أن العذاب الحاصل من أكل النار يقع عندما تمتلئ منها بطونهم ، والعذاب الحاصل من أكل المال الحرام يقع عند لقاء جزائه وهو الإِحراق بالنار .

وجيء باسم الإِشارة في أول هذه الجملة لتمييز أولئك الكاتمين أكمل تمييز حتى لا يخفى أمرهم على أحد ، وللتنبيه على أن ما ذكر بعد اسم الإِشارة من عقوبات سببه ما فعلوه قبل ذلك من سيئات .

وخص - سبحانه - بالذكر الأكل في بطونهم من بين وجوه انتفاعهم بما يأخذونه من مال حرام ، للإِشعار بسقوط همتهم ودناءة نفوسهم حتى إنهم ليخفون ما أمر الله بإظهاره من حقائق وهدايات ، نظير ملء بطونهم .

وقوله : { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة } أي : لا يكلمهم كلاما تطمئن به نفوسهم ، وتنشرح له صدورهم وإنما يكلمهم بما يخزيهم ويفجعهم بسبب سوء أعمالهم كقوله - لهم : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } أو أن نفي تكليمة لهم كتابه عن غضبه عليهم ، لأن من عادة الملوك أنهم عند الغضب يعرضون عن المضغوب عليه ولا يكلمونه ، كما أنهم عند الرضا يقبلون عليه بالوجه والحديث .

وقوله : { وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } أي : ولا يطهرهم من دنس الكفر والذنوب بالمغفرة ، من التزكية بمعنى التطهي . يقال : زكاة الله ، أي : طهره وأصلحه .

وتستعمل التزكية بمعنى الثناء ، ومنه زكى الرجل صاحبه إذا وصفه بالأوصاف المحمودة وأثنى عليه . فيكون معنى { وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } لا يثني عليهم - سبحانه - ومن لا يثني عليه الله فهو معذب .

فهؤلاء الذين كتموا الحق نظير شيء قليل من حطام الدنيا ، فقدوا رضا الله عنهم وثناءه عليهم وتطهيره لهم .

ثم ختم- سبحانه- الآية ببيان سوء منقلبهم ، وشدة ألم العذاب الذي ينالهم فقال - تعالى - { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي . موجع مؤلم .

قال الآلوسي : وقد جاءت هذه الأخبار مرتبة بحسب المعنى ، لأنه لما ذكر - سبحانه - استراءهم بذلك - الثمن القليل - وكان كناية عن مطاعمهم الخبيثة الفانية ، بدأ أولا في الخبر بقوله : { مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار } . وابتني على كتمانهم واشترائهم بما أنزل الله ثمناً قليلاً ، أنهم شهود زور وأحبار سوء ، آذوا بهذه الشهادة الباطلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وألموه فقوبلوا بقوله - سبحانه - : { وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَشۡتَرُونَ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَـٰٓئِكَ مَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ إِلَّا ٱلنَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (174)

158

ولقد جادل اليهود جدالا كثيرا حول ما أحله القرآن وما حرمه . فقد كانت هناك محرمات على اليهود خاصة وردت في سورة أخرى : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ) بينما كانت هذه مباحة للمسلمين . ولعلهم جادلوا في هذا الحل . وكذلك روي أنهم جادلوا في المحرمات المذكورة هنا مع أنها محرمة عليهم في التوراة . . وكان الهدف دائما هو التشكيك في صحة الأوامر القرآنية وصدق الوحي بها من الله .

ومن ثم نجد هنا حملة قوية على الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب :

( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ، ويشترون به ثمنا قليلا ، أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ، ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم . أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة . فما أصبرهم على النار ! ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق ، وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ) .

والتنديد بكتمان ما أنزل الله من الكتاب كان المقصود به أولا أهل الكتاب . ولكن مدلول النص العام ينطبق على أهل كل ملة ، يكتمون الحق الذي يعلمونه ، ويشترون به ثمنا قليلا . إما هو النفع الخاص الذي يحرصون عليه بكتمانهم للحق ، والمصالح الخاصة التي يتحرونها بهذا الكتمان ، ويخشون عليها من البيان . وإما هو الدنيا كلها - وهي ثمن قليل حين تقاس إلى ما يخسرونه من رضى الله ، ومن ثواب الآخرة .

وفي جو الطعام ما حرم منه وما حلل ، يقول القرآن عن هؤلاء :

( ما يأكلون في بطونهم إلا النار ) . .

تنسيقا للمشهد في السياق . وكأنما هذا الذي يأكلونه من ثمن الكتمان والبهتان نار في بطونهم ! وكأنما هم يأكلون النار ! وإنها لحقيقة حين يصيرون إلى النار في الآخرة ، فإذا هي لهم لباس ، وإذا هي لهم طعام !

وجزاء ما كتموا من آيات الله أن يهملهم الله يوم القيامة ، ويدعهم في مهانة وازدراء والتعبير القرآني عن هذا الإهمال وهذه المهانة وهذا الازدراء هو قوله :

( لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ) . .

لتجسيم الإهمال في صورة قريبة لحس البشر وإدراكهم . . لا كلام ولا اهتمام ولا تطهير ولا غفران . .

( ولهم عذاب أليم ) . .