التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِيمَٰنٗا وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِيلُ} (173)

ثم مدحهم- سبحانه - على ثباتهم وشجاعتهم وحسن اعتمادهم على خالقهم-عز وجل- ، بعد أن مدحهم قبل ذلك على حسن استجابتهم لله ولرسوله فقال - تعالى - : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } .

قال الفخر الرازى ما ملخصه : نزلت هذه الآية فى غزوة بدر الصغرى ، وذلك أن أبا سفيان لما عزم على الانصراف إلى مكة فى أعقاب غزوة أحد نادى : يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرة فنقتتل بها إن شئت . فقال النبى صلى الله عليه وسلم لعمر : قل له بيننا وبينك ذلك إن شاء الله .

فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل بمر الظهران ، فألقى الله الرعب فى قلبه ، فبدا له أن يرجع . فلقى نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فقال له : يا نعيم : إنى وعدت محمداً أن نلتقى بموسم بدر . وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ، ونشرب فيه اللبن . وقد بدا لى أن أرجع . ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاد بذلك جراءة علينا ، فاذهب إلى المدينة فثبطهم ولك عندى عشرة من الإبل .

فخرج نعيم إلى المدينة فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم : ما هذا بالرأى .

أتوكم فى دياركم وقتلوا أكثركم فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد .

فوقع هذا الكلام فى قلوب قوم منهم . فلما رأى النبى صلى الله عليه وسلم ذلك قال " والذى نفسى بيده لأخرجن إليهم ولو وحدى " .

ثم خرج صلى الله عليه وسلم فى جمع من أصحابه ، وذهبوا إلى أن وصلوا إلى بدر الصغرى - وهى ماء لبنى كنانة وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام - ولم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحدا من المشركين .

ووافقوا السوق وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوا واشتروا أدما وزبيباً . وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين .

أما أبو سفيان ومن معه فقد عادوا إلى مكة بعد أن وصلوا إلى مر الظهران . . .

وقيل إن الذين قابلهم أبو سفيان عند خروجه من مكة جماعة من بنى عبد القيس ، وقد قال لهم ما قاله لنعيم بن مسعود عندما أزمع العودة إلى مكة بعد أن قذف الله الرعب فى قلبه من لقاء المسلمين .

وعلى أية حال ففى سبب نزول هذه الآية والتى قبلها أقوال أخرى للمفسرين اكتفينا بما ذكرناه خشية الإطالة .

وقوله { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } بدل من قوله { الذين استجابوا للَّهِ والرسول } أو صفة له . أو فى محل نصب على المدح أى مدح الذين قال لهم الناس . . . الخ .

والمراد فى الموصول فى الآيتين طائفة واحدة من المؤمنين وهم الذين لم تمنعهم الجراح عن الخروج للقتال ، ولم يرهبهم قول من قال لهم بعد ذلك إن الناس قد جمعوا لكم .

والمراد من الناس الأول وهو قوله { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } جماعة بنى عبد القيس أو نعيم بن مسعود .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت كيف قيل " الناس " إن كان نعيم هو المثبتط وحده ؟ قلت : قيل ذلك ؛ لأنه من جنس الناس كما يقال : فلان يركب الخيل ، ويلبس البرد وماله إلا فرس واحد وبرد فرد . أو لأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامونه ، ويصلون جناح كلامه ، ويثبطون مثل تثبيطه .

والمراد من الناس الثانى وهو قوله : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم } أبو سفيان ومن معه . فأل فيهما للعهد ، والناس الثانى غير الأول .

وقوله - تعالى - حكاية عن هؤلاء المثبطين : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم } أى إن أعداءكم المشركين قد جمعوا لكم جموعا كثيرة ليستأصلوكم ، فاخشوهم ولا تخرجوا لقتالهم .

وحذف مفعول { جَمَعُواْ } فلم يقل : جمعوا جيشا كبيرا أو جمعوا أنفسهم وعددهم وأحلافهم وذلك ليذهب الخيال كل مذهب فى مقدار ما جمعوا من رجال وسلاح وأموال ، ولمن هذا القول الذى صدر من هؤلاء المثبطين ، لم يلتفت إليه المؤمنون الصادقون المخلصون فى جهادهم وفى اعتمادهم على خالقهم ، بل كانوا كما أخبر الله تعالى - عنهم { فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } .

أى أن هذا القول الذى قاله المثبطون ، زاد المؤمنين إيمانا على إيمانهم ، ويقينا على يقينهم ، وثباتا على ثباتهم ، وجعلهم يقولون للمرجفين بثقة واطمئنان : { حَسْبُنَا الله } أى كافينا الله أمر أعدائنا { وَنِعْمَ الوكيل } أى نعم النصير خالقنا - عز وجل - فهو الموكول إليه أمرنا ومصيرنا .

وقولهم هذا يدل دلالة واحضة على قوة إيمانهم ، وشدة ثقتهم فى نصر الله - تعالى - لهم ، مهما كثر عدد أعدائهم ، ومهما تعددت مظاهر قوتهم .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف زادهم نعيم أو مقوله إيماناً ؟ قلت : لما لم يسمعوا قوله وأخلصوا عنده النية والعزم على الجهاد ، وأظهروا حمية الإسلام ، كان ذلك أثبت ليقينهم ، وأقوى لاعتقادهم ، كما يزداد الإيقان بتناصر الحجج . ولأن خروجهم على أثر تثبيطه إلى جهة العدو طاعة عظيمة ، والطاعات من جملة الإيمان ، لأن الإيمان اعتقاد وإقرار وعمل . وعن ابن عمر : قلنا يا رسول الله : إن الإيمان يزيد وينقص ؟ قال : " نعم . يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار " . وعن عمر - رضى الله عنه - أنه كان يأخذ بيد الرجل فيقول : قم بنا نزداد إيمانا . وعنه : " لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان هذه الأمة لرجح به " .

وقال ابن كثير : روى البخارى عن ابن عباس : قال : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } قالها إبراهيم - عليه السلام - حين ألقى به فى النار . وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم " .

وعن أبى هريرة - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا وقعتم فى الأمر العظيم فقولوا : " حسبنا الله ونعم الوكيل " " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِيمَٰنٗا وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِيلُ} (173)

121

ولم يكن أقوى في التعبير عن ميلاد هذه الحقيقة من خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . ومن خروجهم بهذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة : صورة التوكل على الله وحده وعدم المبالاة بمقالة الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم - كما أبلغهم رسل أبي سفيان - وكما هول المنافقون في أمر قريش وهو ما لا بد أن يفعلوا - :

( الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ) . .

هذه الصورة الرائعة الهائلة كانت اعلانا قويا عن ميلاد هذه الحقيقة الكبيرة . وكان هذا بعض ما تشير إليه الخطة النبوية الحكيمة . .

وتحدثنا بعض روايات السيرة عن صورة من ذلك القرح ومن تلك الاستجابة :

قال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلا من أصحاب رسول الله [ ص ] من بني عبد الأشهل كان قد شهد أحدا قال : شهدنا أحدا مع رسول الله [ ص ] أنا وأخي ، فرجعنا جريحين . فلما إذن مؤذن رسول الله [ ص ] بالخروج في طلب العدو ، قلت لأخي - أو قال لي - أتفوتنا غزوة مع رسول الله [ ص ] ؟ - والله ما لنا من دابة نركبها ، وما منا إلا جريح ثقيل . فخرجنا مع رسول الله [ ص ] وكنت أيسر جراحا منه ، فكان إذا غلب حملته عقبة . . حتى انتهيا إلى ما انتهى إليه المسلمون .

وقال محمد بن إسحاق : كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال ، فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال ، أذن مؤذن رسول الله [ ص ] في الناس بطلب العدو ، وإذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس . فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام . فقال : يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع . وقال : يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل فيهن . ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله [ ص ] على نفسي . فتخلف على أخوتك . فتخلفت عليهن . . فأذن له رسول الله [ ص ] فخرج معه . .

وهكذا تتضافر مثل هذه الصور الرفيعة على إعلان ميلاد تلك الحقيقة الكبيرة ، في تلك النفوس الكبيرة . النفوس التي لا تعرف إلا الله وكيلا ، وترضى به وحده وتكتفي ، وتزداد إيمانا به في ساعة الشدة ، وتقول في مواجهة تخويف الناس لهم بالناس :

( حسبنا الله ، ونعم الوكيل ) . .

/خ179