ثم مدحهم- سبحانه - على ثباتهم وشجاعتهم وحسن اعتمادهم على خالقهم-عز وجل- ، بعد أن مدحهم قبل ذلك على حسن استجابتهم لله ولرسوله فقال - تعالى - : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : نزلت هذه الآية فى غزوة بدر الصغرى ، وذلك أن أبا سفيان لما عزم على الانصراف إلى مكة فى أعقاب غزوة أحد نادى : يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرة فنقتتل بها إن شئت . فقال النبى صلى الله عليه وسلم لعمر : قل له بيننا وبينك ذلك إن شاء الله .
فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل بمر الظهران ، فألقى الله الرعب فى قلبه ، فبدا له أن يرجع . فلقى نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فقال له : يا نعيم : إنى وعدت محمداً أن نلتقى بموسم بدر . وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ، ونشرب فيه اللبن . وقد بدا لى أن أرجع . ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاد بذلك جراءة علينا ، فاذهب إلى المدينة فثبطهم ولك عندى عشرة من الإبل .
فخرج نعيم إلى المدينة فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم : ما هذا بالرأى .
أتوكم فى دياركم وقتلوا أكثركم فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد .
فوقع هذا الكلام فى قلوب قوم منهم . فلما رأى النبى صلى الله عليه وسلم ذلك قال " والذى نفسى بيده لأخرجن إليهم ولو وحدى " .
ثم خرج صلى الله عليه وسلم فى جمع من أصحابه ، وذهبوا إلى أن وصلوا إلى بدر الصغرى - وهى ماء لبنى كنانة وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام - ولم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحدا من المشركين .
ووافقوا السوق وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوا واشتروا أدما وزبيباً . وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين .
أما أبو سفيان ومن معه فقد عادوا إلى مكة بعد أن وصلوا إلى مر الظهران . . .
وقيل إن الذين قابلهم أبو سفيان عند خروجه من مكة جماعة من بنى عبد القيس ، وقد قال لهم ما قاله لنعيم بن مسعود عندما أزمع العودة إلى مكة بعد أن قذف الله الرعب فى قلبه من لقاء المسلمين .
وعلى أية حال ففى سبب نزول هذه الآية والتى قبلها أقوال أخرى للمفسرين اكتفينا بما ذكرناه خشية الإطالة .
وقوله { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } بدل من قوله { الذين استجابوا للَّهِ والرسول } أو صفة له . أو فى محل نصب على المدح أى مدح الذين قال لهم الناس . . . الخ .
والمراد فى الموصول فى الآيتين طائفة واحدة من المؤمنين وهم الذين لم تمنعهم الجراح عن الخروج للقتال ، ولم يرهبهم قول من قال لهم بعد ذلك إن الناس قد جمعوا لكم .
والمراد من الناس الأول وهو قوله { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } جماعة بنى عبد القيس أو نعيم بن مسعود .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت كيف قيل " الناس " إن كان نعيم هو المثبتط وحده ؟ قلت : قيل ذلك ؛ لأنه من جنس الناس كما يقال : فلان يركب الخيل ، ويلبس البرد وماله إلا فرس واحد وبرد فرد . أو لأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامونه ، ويصلون جناح كلامه ، ويثبطون مثل تثبيطه .
والمراد من الناس الثانى وهو قوله : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم } أبو سفيان ومن معه . فأل فيهما للعهد ، والناس الثانى غير الأول .
وقوله - تعالى - حكاية عن هؤلاء المثبطين : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم } أى إن أعداءكم المشركين قد جمعوا لكم جموعا كثيرة ليستأصلوكم ، فاخشوهم ولا تخرجوا لقتالهم .
وحذف مفعول { جَمَعُواْ } فلم يقل : جمعوا جيشا كبيرا أو جمعوا أنفسهم وعددهم وأحلافهم وذلك ليذهب الخيال كل مذهب فى مقدار ما جمعوا من رجال وسلاح وأموال ، ولمن هذا القول الذى صدر من هؤلاء المثبطين ، لم يلتفت إليه المؤمنون الصادقون المخلصون فى جهادهم وفى اعتمادهم على خالقهم ، بل كانوا كما أخبر الله تعالى - عنهم { فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } .
أى أن هذا القول الذى قاله المثبطون ، زاد المؤمنين إيمانا على إيمانهم ، ويقينا على يقينهم ، وثباتا على ثباتهم ، وجعلهم يقولون للمرجفين بثقة واطمئنان : { حَسْبُنَا الله } أى كافينا الله أمر أعدائنا { وَنِعْمَ الوكيل } أى نعم النصير خالقنا - عز وجل - فهو الموكول إليه أمرنا ومصيرنا .
وقولهم هذا يدل دلالة واحضة على قوة إيمانهم ، وشدة ثقتهم فى نصر الله - تعالى - لهم ، مهما كثر عدد أعدائهم ، ومهما تعددت مظاهر قوتهم .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف زادهم نعيم أو مقوله إيماناً ؟ قلت : لما لم يسمعوا قوله وأخلصوا عنده النية والعزم على الجهاد ، وأظهروا حمية الإسلام ، كان ذلك أثبت ليقينهم ، وأقوى لاعتقادهم ، كما يزداد الإيقان بتناصر الحجج . ولأن خروجهم على أثر تثبيطه إلى جهة العدو طاعة عظيمة ، والطاعات من جملة الإيمان ، لأن الإيمان اعتقاد وإقرار وعمل . وعن ابن عمر : قلنا يا رسول الله : إن الإيمان يزيد وينقص ؟ قال : " نعم . يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار " . وعن عمر - رضى الله عنه - أنه كان يأخذ بيد الرجل فيقول : قم بنا نزداد إيمانا . وعنه : " لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان هذه الأمة لرجح به " .
وقال ابن كثير : روى البخارى عن ابن عباس : قال : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } قالها إبراهيم - عليه السلام - حين ألقى به فى النار . وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم " .
وعن أبى هريرة - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا وقعتم فى الأمر العظيم فقولوا : " حسبنا الله ونعم الوكيل " " .
ولم يكن أقوى في التعبير عن ميلاد هذه الحقيقة من خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . ومن خروجهم بهذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة : صورة التوكل على الله وحده وعدم المبالاة بمقالة الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم - كما أبلغهم رسل أبي سفيان - وكما هول المنافقون في أمر قريش وهو ما لا بد أن يفعلوا - :
( الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ) . .
هذه الصورة الرائعة الهائلة كانت اعلانا قويا عن ميلاد هذه الحقيقة الكبيرة . وكان هذا بعض ما تشير إليه الخطة النبوية الحكيمة . .
وتحدثنا بعض روايات السيرة عن صورة من ذلك القرح ومن تلك الاستجابة :
قال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلا من أصحاب رسول الله [ ص ] من بني عبد الأشهل كان قد شهد أحدا قال : شهدنا أحدا مع رسول الله [ ص ] أنا وأخي ، فرجعنا جريحين . فلما إذن مؤذن رسول الله [ ص ] بالخروج في طلب العدو ، قلت لأخي - أو قال لي - أتفوتنا غزوة مع رسول الله [ ص ] ؟ - والله ما لنا من دابة نركبها ، وما منا إلا جريح ثقيل . فخرجنا مع رسول الله [ ص ] وكنت أيسر جراحا منه ، فكان إذا غلب حملته عقبة . . حتى انتهيا إلى ما انتهى إليه المسلمون .
وقال محمد بن إسحاق : كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال ، فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال ، أذن مؤذن رسول الله [ ص ] في الناس بطلب العدو ، وإذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس . فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام . فقال : يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع . وقال : يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل فيهن . ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله [ ص ] على نفسي . فتخلف على أخوتك . فتخلفت عليهن . . فأذن له رسول الله [ ص ] فخرج معه . .
وهكذا تتضافر مثل هذه الصور الرفيعة على إعلان ميلاد تلك الحقيقة الكبيرة ، في تلك النفوس الكبيرة . النفوس التي لا تعرف إلا الله وكيلا ، وترضى به وحده وتكتفي ، وتزداد إيمانا به في ساعة الشدة ، وتقول في مواجهة تخويف الناس لهم بالناس :
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.