التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَكَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ وَٱلۡعَيۡنَ بِٱلۡعَيۡنِ وَٱلۡأَنفَ بِٱلۡأَنفِ وَٱلۡأُذُنَ بِٱلۡأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلۡجُرُوحَ قِصَاصٞۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٞ لَّهُۥۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (45)

ثم بين - سبحانه - بعض ما اشتملت عليه التوراة من أحكام فقال { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قِصَاصٌ } .

فالآية الكريمة معطوفة على ما سبقها وهو قوله - تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة } .

وقوله : ( كتبنا ) بمعنى فرضنا وقررنا . والمراد بالنفس : الذات .

أي : أنزلنا التوراة على موسى لتكون هداية ونوراً لبني إسرائيل ، وفرضنا عليهم ( أن النفس بالنفس ) أي : مقتولة أو مأخوذة بها إذا قتلتها بغير حق . وأن { والعين } مفقوءة { العين } وأن { والأنف } مجدوع { بالأنف } وأن { والأذن } مقطوعة { بالأذن } وأن { والسن } مقلوعة { بالسن } وأن { والجروح قِصَاصٌ } أي : ذات قصاص ، بأن يقتص فيها إذا أمكن ذلك ، وإلا فما لا يمكن القصاص فيه - ككسر عظم وجرح لحم لا يمكن الوقوف على نهايته - ففهي حكومة عدل .

وعبر - سبحانه - عما فرض عليهم من عقوبات في التوراة بقوله : ( كتبنا ) للإشارة إلى أن هذه العقوبات وتلك الأحكام لا يمكن جحدها أو محوها ، لأنها مكتوبة والكتابة تزيد الكلام توثيقاً وقوة .

قال القرطبي ما ملخصه : قوله - تعالى - { والعين بالعين والأنف بالأنف } إلخ قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف .

وقرأ ابن كثير وانب عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب الكل إلا الجروح ؛ فإنه بالرفع على القطع عما قبله والاستئناف به - أي أن الجروح مبتدأ وقصاص خبره .

وقرأ الكسائي وأبو عبيد : { والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح } بالرفع فيها كلها .

قال أبو عبيد : حدثنا حجاج عن هارون عن عباد بن كثير ، عن عقيل عن الزهري ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قِصَاصٌ } .

والرفع من ثلاث جهات ، بالابتداء والخبر . والوجه الثاني : بالعطف على المعنى على موضع ( أن النفس ) لأن المعنى قلنا لهم : النفس بالنفس والوجه الثالث - قاله الزجاج - يكون عطفا على المضمر في النفس . لأن الضمير في النفس في موضع رفع ، لأن التقدير أن النفس هي مأخوذة بالنفس فالأسماء معطوفة على هي .

وقوله : { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } ترغيب في العفو والصفح .

والضمير في ( به ) يعود إلى القصاص . والتعبير عنه بالتصدق للمبالغة في الحث عليه فإنه أدعى إلى صفاء النفوس ، وإلى فتح باب التسامح بين الناس .

وقوله : ( فهو ) يعود إلى التصدق المدلول عليه بالفعل ( تصدق ) والضمير في قوله ( له ) يعود إلى العافي المتصدق وهو المجني عليه أو من يقوم مقامه .

والمعنى : { فَمَن تَصَدَّقَ } بما ثبت له من حق القصاص ، بأن عفا عن الجاني فإن هذا التصدق يكون كفارة لذنوب هذا المتصدق ، حيث قدم العفو مع تمكنه من القصاص .

وقيل إن الضمير في ( له ) يعود على الجاني فيكون المعنى : فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص ، بأن عفا عن الجاني ، فإن هذا التصدق يكون كفارة له . أي لذنوب الجاني ، بأن لا يؤاخذه الله بعد ذلك العفو . وأما المتصدق فأجره على الله .

وقد رجح ابن جرير عودة الضمير إلى العافي المتصدق وهو المجني عليه أو ولى دمه فقال : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب : قول من قال : عني به : فمن تصدق به فهو كفارة له أي المجروح ، ولأنهلأن تكون الهاء في قوله ( له ) عائدة على ( من ) أولى من أن تكون عائدة على ما لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح ، إذ الصدقة هي المكفرة ذنب صاحبها دون المتصدق عليه في سائر الصدقات .

وقوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون } تذييل قصد به التحذير من مخالفة حكم الله . أي : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون لأنفسهم ، حيث تركوا الحكم العدل واتجهوا إلى الحكم الجائر الظالم .

قال الرازي : وفيه سؤال وهو أنه - تعالى - . قال : أولا : { فأولئك هُمُ الكافرون } وثانياً { هُمُ الظالمون } والكفر أعظم من الظلم ، فلماذا ذكر أعظم التهديدات أولا وأي فائدة في ذكر الأخف بعده ؟

وجوابه : أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها فهو كفر ، ومن حيث إنه يقتضي إبقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم على النفس . ففي الآية الأولى ذكر الله ما يتعلق بتقصيره في حق الخالق - سبحانه - وفي هذه الآية ذكر ما يتعلق بالتقصير في حق نفسه .

هذا ، ومما أخذه العلماء من هذه الآية ما يأتي :

1 - أن الآية الكريمة - ككثيرة غيرها - تنعى على بني إسرائيل إهمالهم لأحكام الله - تعالى - وتهافتهم على ما يتفق مع أهوائهم .

قال ابن كثير : هذه الآية وبخت به اليهود أيضاً وقرعت عليه ، فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس . وقد خالفوا حكم ذلك عمداً وعناداً فأقادوا النضرى من القرظى ، ولم يقيدوا القرظي من النضرى وعدولا إلى الدية ، كما خالفوا حكم التوراة في رجم الزاني المحصن ، وعدولا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإِشهار . ولهذا قال هناك { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } لأنهم جحدوا حكم الله قصدا منهم وعناداً وعمداً . وقال هنا في تتمة الآية { فأولئك هُمُ الظالمون } لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه ، فخانوا وظلموا وتعدى بعضهم على بعض .

ثم قال : واستدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا بهذه الآية . وذلك إذا حكى مقررا ولم ينسخ . والحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة . وقال الحسن البصري : هي عليهم وعلى الناس عامة .

2 - استدل جمهور الفقهاء بعموم هذه الآية على أن الرجل يقتل بالمرأة . ويؤيد ذلك ما رواه النسائي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم : أن الرجل يقتل بالمرأة . . وفي رواية للإِمام أحمد أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها ، بل تجب ديتها .

قال الآلوسي : واستدل بعموم { أَنَّ النفس بالنفس } من قال : يقتل المسلم بالكافر ، والحر بالعبد ، والرجل بالمرأة ومن خالف استدل بقوله - تعالى :

{ الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } وبقوله صلى الله عليه وسلم " لا يقتل مؤمن بكافر " .

وأجاب بعض أصحابنا بأن النص تخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه . والمراد بما روى في الحديث الكافر الحربي وق دروى أنه صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بذمى .

3 - استدل العلماء بجريان القصاص في الأطراف لقوله - تعالى - { والعين بالعين } { والأنف بالأنف } إلخ . إلا أنهم قالوا بوجوب استيفاء ما يماثل فعل الجاني بدون تعد أو ظلم فتؤخذ العين اليمنى باليمنى عند وجودها ، ولا تؤخذ اليسرى باليمنى .

وقالوا : إنما تؤخذ العين بالعين إذا فقأها الجاني متعمداً . فإن أصابها خطأ ففيها نصف الدية : إن أصاب العينين معاً خطأ ففيهما الدية الكاملة .

ويرى بعضهم أن في عين الدية كاملة لأن منفعته بها كمنفعة ذي عينين أو قريبة منها .

وقد توسع الإِمام القرطبي في بسط هذه المسائل فارجع إليه إن شئت .

4 - أخذ العلماء من هذه الآية أن الله - تعالى - رغب في العفو ، وحض عليه ، وأجزل المثوبة لمن يقوم به فقد قال - تعالى - { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } .

أي : فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص فتصدقه كفارة لذنوبه .

وقد وردت في الحض على العفو نصوص كثيرة ومن ذلك قوله - تعالى - : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } وقوله - تعالى - { والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين } وروى الإِمام أحمد عن الشعبي أن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من رجل يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به " .

وروى ابن جرير عن أبي السفر قال : دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار ، فاندقت ثنيته . فرفعه الأنصاري إلى معاوية . فلما ألح عليه الرجل قال معاوية : شأنك وصاحبك قال : وأبوالدرداء عند معاوية . فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من مسلم يصاب بشيء من جسده ، فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة " فقال الأنصاري : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : سمعته أذناي ووعاه قلبي - فخلى سبيل القرشي . فقال معاوية : " مروا له بمال " .

ومن هذه الآية وغيرها نرى أن الإِسلام قد جمع فيما شرع من عقوبات بين العدل والرحمة فقد شرع القصاص زجراً للمعتدى . وإشعاراً له بأن سوط العقاب مسلط عليه إذا ما تجاوز حده ، جبرا لخاطر المعتدى عليه ، وتمكينا له من أخذ حقه ممن اعتدى عليه .

ومع هذا التمكين التام للمجني عليه من الجاني فقد رغب الإِسلام المجني عليه في العفو عن الجاني حتى تشيع المحبة والمودة بين أفراد الأمة ، ووعده على ذلك بتكفير خطاياه ، وارتفاع درجاته عند الله - تعالى - .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَكَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ وَٱلۡعَيۡنَ بِٱلۡعَيۡنِ وَٱلۡأَنفَ بِٱلۡأَنفِ وَٱلۡأُذُنَ بِٱلۡأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلۡجُرُوحَ قِصَاصٞۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٞ لَّهُۥۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (45)

41

وبعد بيان هذا الأصل القاعدي في دين الله كله ، يعود السياق ، لعرض نماذج من شريعة التوراة التي أنزلها الله ليحكم بها النبيون والربانيون والأحبار للذين هادوا - بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء :

( وكتبنا عليهم فيها : أن النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، والجروح قصاص ) . .

وقد استبقيت هذه الأحكام التي نزلت بها التوراة في شريعة الإسلام ، وأصبحت جزءا من شريعة المسلمين ، التي جاءت لتكون شريعة البشرية كلها إلى آخر الزمان . وإن كانت لا تطبق إلا في دار الإسلام ، لاعتبارات عملية بحتة ؛ حيث لا تملك السلطة المسلمة أن تطبقها فيما وراء حدود دار الإسلام . وحيثما كان ذلك في استطاعتها فهي مكلفة تنفيذها وتطبيقها ، بحكم أن هذه الشريعة عامة للناس كافة ، للأزمان كافة ، كما أرادها الله .

وقد أضيف إليها في الإسلام حكم آخر في قوله تعالى :

( فمن تصدق به فهو كفارة له ) . .

ولم يكن ذلك في شريعة التوارة . إذ كان القصاص حتما ؛ لا تنازل فيه ، ولا تصدق به ، ومن ثم فلا كفارة . .

ويحسن أن نقول كلمة عن عقوبات القصاص هذه على قدر السياق في الظلال .

أول ما تقرره شريعة الله في القصاص ، هو مبدأ المساواة . . المساواة في الدماء والمساواة في العقوبة . . ولم تكن شريعة أخرى - غير شريعة الله - تعترف بالمساواة بين النفوس ، فتقتص للنفس بالنفس ، وتقتص للجوارح بمثلها ، على اختلاف المقامات والطبقات والأنساب والدماء والأجناس . .

النفس بالنفس . والعين بالعين . والأنف بالأنف . والأذن بالأذن . والسن بالسن . والجروح قصاص . . لا تمييز . ولا عنصرية . ولا طبقية . ولا حاكم . ولا محكوم . . كلهم سواء أمام شريعة الله . فكلهم من نفس واحدة في خلقة الله .

إن هذا المبدأ العظيم الذي جاءت به شريعة الله هو الإعلان الحقيقي الكامل لميلاد " الإنسان " الإنسان الذي يستمتع كل فرد فيه بحق المساواة . . أولا في التحاكم إلى شريعة واحدة وقضاء واحد . وثانيا في المقاصة على أساس واحد وقيمة واحدة .

وهو أول إعلان . . وقد تخلفت شرائع البشر الوضعية عشرات من القرون حتى ارتقت إلى بعض مستواه من ناحية النظريات القانونية ، وإن ظلت دون هذا المستوى من ناحية التطبيق العملي .

ولقد انجرف اليهود الذين ورد هذا المبدأ العظيم في كتابهم - التوراة - عنه ؛ لا فيما بينهم وبين الناس فحسب ، حيث كانوا يقولون : " ليس علينا في الآميين سبيل بل فيما بينهم هم أنفسهم . على نحو ما رأينا فيما كان بين بني قريظة الذليلة ، وبني النضير العزيزة ؛ حتى جاءهم محمد [ ص ] فردهم إلى شريعة الله - شريعة المساواة . . ورفع جباه الأذلاء منهم فساواها بجباه الأعزاء !

والقصاص على هذا الأساس العظيم - فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان - هو العقاب الرادع الذي يجعل من يتجه إلى الاعتداء على النفس بالقتل ، أو الاعتداء عليها بالجرح والكسر ، يفكر مرتين ومرات قبل أن يقدم على ما حدثته به نفسه ، وما زينه له اندفاعه ؛ وهو يعلم أنه مأخوذ بالقتل إن قتل - دون نظر إلى نسبه أو مركزه ، أو طبقته ، أو جنسه - وأنه مأخوذ بمثل ما أحدث من الإصابة . إذا قطع يدا أو رجلا قطعت يده أو رجله ؛ وإذا أتلف عينا أو أذنا أو سنا ، أتلف من جسمه ما يقابل العضو الذي أتلفه . . وليس الأمر كذلك حين يعلم أن جزاءه هو السجن - طالت مدة السجن أو قصرت - فالألم في البدن ، والنقص في الكيان ، والتشويه في الخلقة شيء آخر غير الآم السجن . . على نحو ما سبق بيانه في حد السرقة . . والقصاص على هذا الأساس العظيم - فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان - هو القضاء الذي تستريح إليه الفطرة ؛ والذي يذهب بحزازات النفوس ، وجراحات القلوب ، والذي يسكن فورات الثأر الجامحة ، التي يقودها الغضب الأعمى وحمية الجاهلية . . وقد يقبل بعضهم الدية في القتل والتعويض في الجراحات . ولكن بعض النفوس لا يشفيها إلا القصاص . .

وشرع الله في الإسلام يلحظ الفطرة - كما لحظها شرع الله في التوراة - حتى إذا ضمن لها القصاص المريح . . راح يناشد فيها وجدان السماحة والعفو - عفو القادر على القصاص :

( فمن تصدق به فهو كفارة له )

من تصدق بالقصاص متطوعا . . سواء كان هو ولي الدم في حالة القتل [ والصدقة تكون بأخذ الدية مكان القصاص ، أو بالتنازل عن الدم والدية معا وهذا من حق الولي ، إذ العقوبة والعفو متروكان له ويبقى للإمام تغزيز القاتل بما يراه ] أو كان هو صاحب الحق في حالة الجروج كلها ، فتنازل عن القصاص . . من تصدق فصدقته هذه كفارة لذنوبه ؛ يحط بها الله عنه .

وكثيرا ما تستجيش هذه الدعوة إلى السماحة والعفو ، وتعليق القلب بعفو الله ومغفرته . نفوسا لا يغنيها العوض المالي ؛ ولا يسليها القصاص ذاته عمن فقدت أو عما فقدت . . فماذا يعود على ولي المقتول من قتل القاتل ؟ أو ماذا يعوضه من مال عمن فقد ؟ . . إنه غاية ما يستطاع في الأرض لإقامة العدل ، وتأمين الجماعة . . ولكن تبقى في النفس بقية لا يمسح عليها إلا تعليق القلوب بالعوض الذي يجيء من عند الله . .

روى الإمام أحمد . قال : حدثنا وكيع ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي السفر ، قال " كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار . فاستعدى عليه معاوية . فقال معاوية : سنرضيه . . فألح الأنصاري . . فقال معاويه : شأنك بصاحبك ! - وأبو الدرداء جالس - فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله [ ص ] يقول : " ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة ، أو حط به عنه خطيئة " . . فقال الأنصارى : فإني قد عفوت " . .

وهكذا رضيت نفس الرجل واستراحت بما لم ترض من مال معاوية الذي لوح له به التعويض . .

وتلك شريعة الله العليم بخلقة ؛ وبما يحيك في نفوسهم من مشاعر وخواطر ، وبما يتعمق قلوبهم ويرضيها ؛ ويكسب فيها الاطمئنان والسلام من الأحكام .

وبعد عرض هذا الطرف من شريعة التوراة ، التي صارت طرفا من شريعة القرآن ، يعقب بالحكم العام :

( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) . .

والتعبير عام ، ليس هناك ما يخصصه ؛ ولكن الوصف الجديد هنا هو( الظالمون ) .

وهذا الوصف الجديد لا يعني أنها حالة أخرى غير التي سبق الوصف فيها بالكفر . وإنما يعني إضافة صفة أخرى لمن لم يحكم بما أنزل الله . فهو كافر باعتباره رافضا لألوهية الله - سبحانه - واختصاصه بالتشريع لعباده ، وبادعائه هو حق الألوهية بادعائه حق التشريع للناس . وهو ظالم بحمل الناس على شريعة غير شريعة ربهم ، الصالحة المصلحة لأحوالهم . فوق ظلمه لنفسه بإيرادها موارد التهلكة ، وتعرضها لعقاب الكفر . وبتعريض حياة الناس - وهو معهم - للفساد .

وهذا ما يقتضيه اتحاد المسند إليه وفعل الشرط : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله ) . . فجواب الشرط الثاني يضاف إلى جواب الشرط الأول ؛ ويعود كلاهما على المسند إليه في فعل الشرط وهو ( من ) المطلق العام .