هذا ، وقوله - تعالى - بعد ذلك : { إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ } بيان لصنفين آخرين من أعداء المسلمين بعد بيان العدو الرئيسى وهم المشركون الذين خرجوا بطرا ورئاء الناس لمحاربة الإِسلام وقد شجعهم الشيطان على ذلك . قال الفخر الرازى : أما المنافقون فهم قوم من الأوس والخزرج - كانوا يظهرون الإِسلام ويخفون الكفر ولم يخرج منهم أحد إلى بدر سوى عبد الله بن أبى - وأما الذين في قلوبهم مرض فهم قوم من قريش أسلموا ولم يهاجروا .
ثم إن قريشا لما خرجوا لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أولئك : نخرج مع قومنا فإن كان محمد في كثرة خرجنا إليه ، وإن كان في قلة أقمنا في قومنا . .
وعامل الاعراب في " إذ " فيه وجهان : الأول : التقدير ، والله شديد العقاب إذ يقول المنافقون .
والثانى : اذكروا إذ يقول المنافقون .
وقوله : { غَرَّ } أى : خدع ، من الغرور وهو كل ما يغر الإِنسان من مال وجاه وشهرة وشيطان .
أى : اذكروا - أيها المؤمنون - وقت أن قال المنافقون والذين في قلوبهم مرض : غر هؤلاء دينهم : أي خدعهم ، لأنكم أقدمتم على قتال يفوقونكم عدة وعددا ، وهذا القتال - في زعمهم - لون من إلقاء النفس إلى التهلكة ، لأنهم قوم لا يدركون حقيقة أسباب النصر وأسباب الهزيمة ، فهم لخراب بواطنهم من العقيدة السليمة ، لا يعرفون أثرها في الإِقدام من أجل نصرة الحق ولا يقدرون ما عليه أصحابها من صلة طيبة بالله - عز وجل - الذي بيده النصر والهزيمة .
وما داموا قد فقدوا تلك المعرفة ، وهذا التقدير ، فلا تستبعدوا منهم - أيها المؤمنون - أن يقولوا هذا القول عنكم ، فذلك مبلغهم من العلم ، وتلك موازينهم في قياس الأمور . . والحق ، أن الإِنسان عندما يتدبر ما قاله المنافقون والذين في قلوبهم مرض في حق المؤمنين عندما أقدموا على حرب أعدائهم في بدر . .
أقول : عندما يتدبر ذلك ليرى أن هذا القول دأب كل المنافقين والذين في قلوبهم مرض في كل زمان ومكان .
إننا في عصرنا الحاضر رأينا كثيرين من أصحاب العقيدة السليمة ، والنفوس النقية ، والقلوب المضحية بكل شئ في سبيل نصرة الحق . . رأينا هؤلاء يبلغون رسالات الله دون أن يخشوا أحدا سواه ويهاجمون الطغاة والمبطلين والفجار ، ليمكنوا لدين الله في الأرض ، حتى ولو أدت بهم هذه المهاجمة إلى بذل أرواحهم .
ورأينا في مقابل هؤلاء الصادقين أقواما - ممن آثروا شهوات الدنيا على كل شئ - لا يكتفون بالصمت وهم يشاهدون أصحاب العقيدة السليمة يصارعون الطغاة .
بل هم - بسبب خلو نفوسهم من المثل العليا - يلقون باللوم على هؤلاء المؤمنين ، ويقولون ما حكاه القرآن من أقوال في أشباههم السابقين من المنافقين والذين في قلوبهم مرض : غر هؤلاء دينهم .
إنهم لا يدركون الأمور ببصيرة المؤمن ، ولا يزنونها بميزان الإِيمان .
إن المؤمن يرى التضحية في سبيل الحق مؤدية إلى إحدى الحسنين : النصر أو الشهاد’ .
أما هؤلاء المنافقون والذين في قلوبهم مرض ، فلا يرون الحياة إلا متعة وشهوة وغنيمة { فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ }
وقوله - تعالى - { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } حض للمؤمنين على التمسك بما يدعوهم إليه إيمانهم من استقامة وقوة . .
أى : ومن يكل أمره إلى الله ، ويثق به - ينصره - سبحانه - على أعدائه ، فإنه - عز وجل - عزيز لا يغلبه شئ ، حكيم فيما يدبر من أمر خلقه .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة ، قد صورت تصويرا بديعا ما عليه الكافرون وأشباههم من بطر ومفاخرة وصد عن سبيل الله . . ومن طاعة للشيطان أوردتهم المهالك . وحكت ما قالوه من أقوال تدل على جبنهم وجهلهم وانطماس بصيرتهم .
ونهت المؤمنين عن التشبه بهم ، لأن البطر والمفاخرة والبغى ، واتباع الشيطان ؛ كل ذلك يؤدى إلى خزى الدنيا وعذاب الآخرة .
ولقد كان أبو جهل قمة في البغى والمراءاة عندما قال - بعد أن نصحه الناصحون بالرجوع عن الحرب فقد نجت العير : " لا ، لن نرجع حتى نرد بدراً ، فنقيم ثلاثا ، نننحر الجزر ، ونشرب الخمر ، وتعزف القيان علينا ، فلن تزال العرب تهابنا أبدا " .
وعندما بلغت مقالة أبى جهل أبا سفيان قال : " واقوماه ! ! هذا عمل عمرو ابن هشام " يعنى أبا جهل " كره أن يرجع ؛ لأنه ترأس على الناس فبغى ، والبغى منقصة وشؤم . إن أصاب محمد النفير ذللنا " .
وصدقت فراسة أبى سفيان ، فقد أصاب محمد - صلى الله عليه وسلم - النفير وتسربل المشكرون بالذل والهوان في بدر بسبب بطرهم وريائهم وصدهم عن سبيل الله واتباعهم لخطوات الشيطان . فاللهم نسألك أن توفقنا إلى ما يرضيك ، وأن تجنبنا البطر والرياء وسوء الأخلاق .
وبعد ، فإنه بينما كان الشيطان يخدع المشركين الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله ، ويشجعهم على الخروج ، ثم يتركهم لمصيرهم البائس . . . كان المنافقون والذين في قلوبهم ضعف ، يظنون بالعصبة المؤمنة الظنون ؛ وهم يرونها تواجه جحافل المشركين ، وهي قليلة العدد ضعيفة العدة ؛ ويرون - بقلوبهم المدخولة ونظرتهم إلى الظواهر المادية الخادعة - أن المؤمنين أوردوا أنفسهم موارد التهلكة ، مخدوعين بدينهم ، ظانين أنه ينصرهم أو يقيهم :
( إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض : غر هؤلاء دينهم ) . .
والمنافقون والذين في قلوبهم مرض قيل : إنهم مجموعة من الذين مالوا إلى الاسلام في مكة - ولكن لم تصح عقيدتهم ولم تطمئن قلوبهم - خرجوا مع النفير مزعزعين ، فلما رأوا قلة المسلمين وكثرة المشركين قالوا هذه المقالة !
والمنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يدركون حقيقة أسباب النصر وأسباب الهزيمة ؛ فهم يرون ظواهر الأمور ، دون أن تهديهم بصيرة إلى بواطنها ؛ ودون أن يشعروا بالقوة الكامنة في العقيدة ، والثقة في الله ، والتوكل عليه ، واستصغار شأن الجموع والقوى التي لا ترتكن إلى عقيدة في الله تمنحها القوة الحقيقية . . فلا جرم يظنون المسلمين يومئذ مخدوعين في موقفهم ، مغرورين بدينهم ، واردين موارد التهلكة بتعرضهم لجحافل المشركين التي يرونها !
إن الواقع المادي الظاهر لا يختلف من ناحية مظهره عند القلوب المؤمنة وعند القلوب الخاوية من الإيمان . ولكن الذي يختلف هو التقدير والتقويم لهذا الواقع المادي الظاهر . . فالقلوب الخاوية تراه ولا ترى شيئاً وراءه ؛ والقلوب المؤمنة ترى ما وراءه من " الواقع " الحقيقي ! الواقع الذي يشمل جميع القوى ، ويوازن بينها موازنة صحيحة :
( ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ) . .
هذا ما تدركه القلوب المؤمنة وتطمئن إليه ؛ وما هو محجوب عن القلوب الخاوية فلا تحسب حسابه ! وهذا ما يرجح الكفة ، ويقرر النتيجة ، ويفصل في القضية في نهاية المطاف في كل زمان وفي كل مكان .
وقولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، عن العصبة المسلمة يوم بدر : ( غر هؤلاء دينهم ) . . هي قولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض كلما رأوا العصبة المسلمة تتعرض لجحافل الطاغوت في عنفوانه ؛ وعدتها الأساسية التي تملكها هي هذا الدين ؛ وهي هذه العقيدة الدافعة الدافقة ؛ وهي الغيرة على ألوهية الله وعلى حرمات الله ؛ وهي التوكل على الله والثقة بنصره لأوليائه .
إن المنافقين والذين في قلوبهم مرض يقفون ليتفرجوا والعصبة المسلمة تصارع جحافل الطاغوت ، وفي نفوسهم سخرية من هذه العصبة التي تتصدى للخطر ، وتستخف بالخطر ! وفي نفوسهم عجب كذلك ودهشة في اقتحام العصبة المسلمة للمكاره الظاهرة ، وللأخطار الواضحة . . إنهم هم لا يعرفون مبرراً لهذا التهور - كما يسمونه - وللإلقاء بالنفس إلى التهلكة ! . . إنهم يحسبون الحياة كلها - بما فيها الدين والعقيدة - صفقة في سوق التجارة . إن كانت ظاهرة الربح أقدموا عليها ؛ فأما إذا كان الخطر فالسلامة أولى ! . . إنهم لا يدركون الأمور ببصيرة المؤمن ، ولا يزنون النتائج كذلك بميزان الإيمان . . إنها في حس المؤمن وميزانه صفقة رابحة دائماً ؛ فهي مؤدية الى إحدى الحسنيين : النصر والغلب ، أو الشهادة والجنة . . ثم إن حساب القوى في نفسه يختلف ؛ فهناك الله . . وهذا مالا يدخل في حساب المنافقين والذين في قلوبهم مرض !
والعصبة المسلمة في كل مكان وفي كل زمان مدعوة إلى أن تزن بميزان الإيمان والعقيدة ؛ وأن تدرك ببصيرة المؤمن وقلبه ، وأن ترى بنور الله وهداه ، وألا تتعاظمها قوى الطاغوت الظاهرة ، وألا تستهين بقوتها ووزنها فإن معها الله ، وأن تلقي بالها دائما إلى تعليم الله سبحانه للمؤمنين :
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.