ثم بين - سبحانه - أن طاعة الله - تعالى - يجب أن تقدم على كل طاعة . فقال : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ . . فِي الصالحين } .
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول الآية الأولى روايات منها ما أخرجه الترمذى ، من أنها نزلت فى سعد بن أبى وقاص ، وذلك أنه حين أسلم ، قالت له أمه حمنة بنت سفيان : يا سعد بلغنى أنك صبأت ، فوالله لا يظلنى سقف بيت ، وإن الطعام والشراب على حرام ، حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم . . . . فجاء سعد إلى النبى صلى الله عليه وسلم - إليه ما قالته أمه .
فنزلت هذه الآية . . فجاء سعد إليها فقال لها : يا اماه لو كانت لك مائة نفس ، فخرجت نفسا نفسا ما تركت دينى ، فكلى إن شئت ، وإن شئت فلا تأكلى ، فلما يست منه أكلت وشربت . .
وقوله : { حُسْناً } منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف . أى : ووصينا الإِنسان بوالديه إيصاء حسنا ، وعبر بالمصدر للمبالغة فى وجوب الإِحسان إليهما ، بأن يكون باراً بهما ، وعطوفاً عليهما ، وسخياً معهما .
وقوله - سبحانه - : { وَإِن جَاهَدَاكَ } معطوف على ما قبله بإضمار القول : أى : ووصينا الإِنسان بوالديه حسنا ، قولنا له { وَإِن جَاهَدَاكَ } أى : إن حملاك وأمراك { لِتُشْرِكَ بِي } فى العبادة أو الطاعة { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ } فى ذلك ، فإنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق .
وقوله - سبحانه - : { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } بيان للواقع ، فهذا القيد لا مفهوم له ، لأنه ليس هناك من إله فى هذا الكون ، سوى الله عز وجل .
وقوله تعالى : { إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } تذييل المقصد به التحذير من معصيته - سبحانه - .
أى : إلى مرجعكم جميعا - أيها الناس - يوم القيامة ، فأحاسبكم على أعمالكم حسابا دقيقا ، وأجازى الذين أساءوا بما علموا ، وأجازى الذين أحسنوا بالحسنى .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَوَصّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَوَصّيْنا الإنْسانَ فيما أنزلنا إلى رسولنا بِوَالِدَيْهِ أن يفعل بهما حُسْنا .
واختلف أهل العربية في وجه نصب الحسن ، فقال بعض نحويّي البصرة : نُصب ذلك على نية تكرير وصّينا . وكأن معنى الكلام عنده : ووصينا الإنسان بوالديه ، ووصيناه حسنا . وقال : قد يقول الرجل وصيته خيرا : أي بخير .
وقال بعض نحويي الكوفة : معنى ذلك : ووصينا الإنسان أن يفعل حُسنا ، ولكن العرب تسقط من الكلام بعضه إذا كان فيما بقي الدلالة على ما سقط ، وتعمل ما بقي فيما كان يعمل فيه المحذوف ، فنصب قوله حُسْنا وإن كان المعنى ما وصفت وصينا ، لأنه قد ناب عن الساقط ، وأنشد في ذلك :
عَجِبْتُ مِنْ دَهْماءَ إذْ تَشْكُونا *** وَمِنْ أبي دَهْماءَ إذْ يُوصِينا
*** خَيْرا بها كأنّنا جافُونا ***
وقال : معنى قوله : يوصينا خيرا : أن نفعل بها خيرا ، فاكتفى بيوصينا منه ، وقال : ذلك نحو قوله فَطَفِقَ مَسْحا أي يمسح مسحا .
وقوله : وَإنْ جاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما يقول : ووصينا الإنسان ، فقلنا له : إن جاهداك والداك لتشرك بي ما ليس لك به علم أنه ليس لي شريك ، فلا تطعهما فتشرك بي ما ليس لك به علم ابتغاء مرضاتهما ، ولكن خالفهما في ذلك إليّ مرجعكم يقول تعالى ذكره : إليّ معادكم ومصيركم يوم القيامة فَأُنَبّئكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يقول : فأخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من صالح الأعمال وسيئاتها ، ثم أجازيكم عليها المحسن بالإحسان ، والمسيء بما هو أهله .
وذُكر أن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب سعد بن أبي وقاص . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَوَصّيْنا الإنْسانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنا . . . إلى قوله فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال : نزلت في سعد بن أبي وَقّاص لما هاجر ، قالت أمه : والله لا يُظِلّني بيت حتى يرجع ، فأنزل الله في ذلك أن يُحْسِن إليهما ، ولا يطيعَهما في الشرك .
لم يترك القرآن فاذَّة من أحوال علائق المسلمين بالمشركين إلا بين واجبهم فيها المناسب لإيمانهم ، ومن أشد تلك العلائق علاقة النسب فالنسب بين المشرك والمؤمن يستدعي الإحسان وطيب المعاشرة ولكن اختلاف الدين يستدعي المناواة والمغاضبة ولا سيما إذا كان المشركون متصلبين في شركهم ومشفقين من أن تأتي دعوة الإسلام على أساس دينهم فهم يلحقون الأذى بالمسلمين ليقلعوا عن متابعة الإسلام ، فبيّن الله بهذه الآية ما على المسلم في معاملة أنسبائه من المشركين . وخص بالذكر منها نسب الوالدين لأنه أقرب نسب فيكون ما هو دونه أولى بالحكم الذي يشرع له .
وحدثت قضية أو قضيتان دعتا إلى تفصيل هذا الحكم . رُوي أن سعد بن أبي وقاص حين أسلم قالت له أمه حَمْنَة بنت أبي سفيان يا سعد بلغني أنك صبأت ، فوالله لا يُظلني سقف بيت ، وإن الطعام والشراب عليَّ حرام حتى تكفُرَ بمحمد ، وبقيت كذلك ثلاثة أيام فشكا سعد ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يداريها ويترضاها بالإحسان .
وروي أنه لما أسلم عياش بن أبي ربيعة المخزومي وهاجر مع عمر بن الخطاب إلى المدينة قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل وأخوه الحارث وكانا أخوي عياش لأمه فنزلا بعياش وقالا له : إن محمداً يأمر ببر الوالدين وقد تركتَ أمك وأقسمت أن لا تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتاً حتى تراك وهي أشد حبًّا لك منها لنا ، فاخرج معنا . فاستشار عمر فقال عمر : هما يخدعانك ، فلم يزالا به حتى عصى نصيحة عمر وخرج معهما . فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل : إن ناقتي كلت فاحملني معك . قال عياش : نعم ، ونزل ليوطىء لنفسه ولأبي جهل . فأخذاه وشداه وثاقاً وذهبا به إلى أمه فقالت له : لا تزال بعذاب حتى ترجع عن دين محمد وأوثقته عندها ، فقيل : إن هذه الآية نزلت في شأنهما .
والمقصود من الآية هو قوله { وإن جاهداك لتشرك بي } إلى آخره ، وإنما افتتحت ب { وصينا الإنسان بوالديه حسناً } لأنه كالمقدمة للمقصود ليعلم أن الوصاية بالإحسان إلى الوالدين لا تقتضي طاعتهما في السوء ونحوه لقول النبي صلى الله عليه وسلم « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق »{[308]} ولقصد تقرير حكم الإحسان للوالدين في كل حال إلا في حال الإشراك حتى لا يلتبس على المسلمين وجه الجمع بين الأمر بالإحسان للوالدين وبين الأمر بعصيانهما إذا أمرا بالشرك لإبطال قول أبي جهل : أليس من دين محمد البر بالوالدين ونحوه .
وهذا من أساليب الجدل وهو الذي يسمى القول بالموجب وهو تسليم الدليل مع بقاء النزاع ، ومنه في القرآن قوله تعالى : { قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد ءاباؤنا فأتونا بسلطان مبين قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمنّ على من يشاء من عباده } [ إبراهيم : 10 ، 11 ] فعلم أنه لا تعارض بين الإحسان إلى الوالدين وبين إلغاء أمرهما بما لا يرجع إلى شأنهما .
والتوصية : كالإيصاء ، يقال : أوصى ووصّى ، وهي أمر بفعل شيء في مغيب الآمر به ففي الإيصاء معنى التحريض على المأمور به ، وتقدم في قوله تعالى { الوصية للوالدين } [ البقرة : 180 ] وقوله { وأوصى بها إبراهيم } في [ البقرة : 132 ] .
وفعل الوصاية يتعدى إلى الموصى عليه بالباء ، تقول : أوصى بأبنائه إلى فلان ، على معنى أوصى بشؤونهم ، ويتعدى إلى الفعل المأمور به بالباء أيضاً وهو الأصل مثل { وأوصى بها إبراهيم بَنِيه } [ البقرة : 132 ] . فإذا جُمع بين الموصى عليه والموصى به تقول : أوصى به خيراً وأصله : أوصى به بخير له فكان أصل التركيب بدل اشتمال . وغلب حذف الباء من البدل اكتفاء بوجودها في المبدل منه فكذلك قوله تعالى هنا { ووصينا الإنسان بوالديه حُسْناً } تقديره : وصينا الإنسان بوالديه بِحُسن ، بنزع الخافض .
والحسن : اسم مصدر ، أي بإحسان . والجملة { وإن جاهداك لِتُشرِك بي } عطف على جملة { وصينا } وهو بتقدير قول محذوف لأن المعطوف عليه فيه معنى القول .
والمجاهدة : الإفراط في بذل الجهد في العمل ، أي ألحَّا لأجل أن تشرك بي .
والمراد بالعلم في قوله : { ما ليس لك به علم } العلم الحق المستند إلى دليل العقل أو الشرع ، أي أن تشرك بي أشياء لا تجد في نفسك دليلاً على استحقاقها العبادة كقوله تعالى { فلا تسألني ما ليس لك به علم } [ هود : 46 ] ، أي علم بإمكان حصوله . وفي « الكشاف » : أن نفي العلم كناية عن نفي المعلوم ، كأنه قال : أن تشرك بي شيئاً لا يصح أن يكون إلهاً ، أي لا يصح أن يكون معلوماً يعني أنه من باب قولهم : هذا ليس بشيء كما صرح به في تفسير سورة [ لقمان : 30 ] كقوله تعالى { ما يدعون من دونه الباطل } .
وجملة : { إليّ مرجعكم } مستأنفة استئنافاً بيانياً لزيادة تحقيق ما أشارت إليه مقدمة الآية من قوله { ووصينا الإنسان بوالديه حسناً } ، لأن بقية الآية لما آذنت بفظاعة أمر الشرك وحذرت من طاعة المرء والديه فيه كان ذلك مما يثير سؤالاً في نفوس الأبناء أنهم هل يعاملون الوالدين بالإساءة لأجل إشراكهما فأنبئوا أن عقابهما على الشرك مفوض إلى الله تعالى فهو الذي يجازي المحسنين والمسيئين .
والمرجع : البعث . والإنباء : الإخبار ، وهو مستعمل كناية عن علمه تعالى بما يعملونه من ظاهر الأعمال وخفيِّها ، أي ما يخفونه عن المسلمين وما يكنونه في قلوبهم ، وذلك أيضاً كناية عن الجزاء عليه من خير أو شر ، ففي قوله { فأنبئكم } كنايتان : أولاهما إيماء ، وثانيتهما تلويح ، أي فأجازيكم ثواباً على عصيانهما فيما يأمران ، وأجازيهما عذاباً على إشراكهما .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} نزلت في سعد بن أبي وقاص الزهري، رضي الله عنه، وأمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف {وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم} بأن معي شريكا {فلا تطعهما} في الشرك. {إلي مرجعكم} في الآخرة {فأنبئكم بما كنتم تعملون} يعني: سعدا، رضي الله عنه، وذلك أنه حين أسلم حلفت أمه لا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا ولا تدخل كنا حتى يرجع سعد عن الإسلام، فجعل سعد يترضاها، فأبت عليه، وكان بها بارا فأتى سعد، رضي الله عنه، النبي صلى الله عليه وسلم، فشكى إليه فنزلت في سعد، رضي الله عنه، هذه الآية، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يترضاها ويجهد بها على أن تأكل وتشرب، فأبت حتى يئس منها، وكان أحب ولدها إليها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَوَصّيْنا الإنْسانَ" فيما أنزلنا إلى رسولنا "بِوَالِدَيْهِ "أن يفعل بهما "حُسْنا"...
وقوله: "وَإنْ جاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما" يقول: ووصينا الإنسان، فقلنا له: إن جاهداك والداك لتشرك بي ما ليس لك به علم أنه ليس لي شريك، فلا تطعهما فتشرك بي ما ليس لك به علم ابتغاء مرضاتهما، ولكن خالفهما في ذلك.
"إليّ مرجعكم" يقول تعالى ذكره: إليّ معادكم ومصيركم يوم القيامة "فَأُنَبّئكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" يقول: فأخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من صالح الأعمال وسيئاتها، ثم أجازيكم عليها المحسن بالإحسان، والمسيء بما هو أهله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فلا تطعهما} أمر بالبر للوالدين والإحسان إليهما والطاعة لهما ما لم يكن في طاعتهما معصية الرب ليعلم أن ليس تجب طاعتهما في كل شيء، وفي كل ما كان عندهما إحسان، ولكن في ما كان في ذلك طاعة الخالق.
{إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون} وعيد لتكونوا أبدا على حذر في أعمالهم، لا تعملون في ما فيه معصية الرب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أَمَرَ اللَّهُ العِبادَ برعاية حقِّ الوالدين تنبيهاً على عظم حق التربية. وإذا كانت تربيةُ الوالدين -وهي إِنْ حَسُنَتْ- فإِلى حدٍّ يوجِبُ رعايتهما، فما الظنُّ برعاية حق الله تعالى، والإحسانِ العميمِ بالعبد والامتنان القديم الذي خصَّه به مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ؟!
إنْ جاهداك على أن تُشْرِكَ بالله فإياك أَنْ تطيعَهما، ولكن رُدَّ بِلُطْفٍ، وخالِفْ برفْقٍ.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
"ما ليس لك به علم" إنما قال هذا؛ لأن الشرك كله عن جهل، فإن العالم لا يشرك بالله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
«وصى» حكمه حكم «أمر» في معناه وتصرفه. يقال: وصيت زيداً بأن يفعل خيراً، كما تقول: أمرته بأن يفعل...
ومنه قوله تعالى: {ووصى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ} [البقرة: 132] أي وصاهم بكلمة التوحيد وأمرهم بها، وقولك: وصيت زيداً بعمرو، معناه: وصيته بتعهد عمرو ومراعاته ونحو ذلك، وكذلك معنى وقوله: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً}: وصيناه بإيتاء والديه حسناً، أو بإيلاء والديه حسناً؛ أي: فعلا ذا حسن، أو ما هو في ذاته حسن لفرط حسنه، كقوله تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]... و {فَلاَ تُطِعْهُمَا} في الشرك إذا حملاك عليه... معناه: وقلنا إن جاهداك أيها الإنسان {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي لا علم لك بإلهيته. والمراد بنفي العلم: نفي المعلوم، كأنه قال: لتشرك بي شيئاً لا يصح أن يكون إلها ولا يستقيم: وصاه بوالديه وأمره بالإحسان إليهما، ثم نبه بنهيه عن طاعتهما إذا أراداه على ما ذكره، على أن كل حق وإن عظم ساقط إذا جاء حق الله، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ثم قال: إليّ مرجع من آمن منكم ومن أشرك، فأجازيكم حق جزائكم. وفيه شيئان، أحدهما: أن الجزاء إليّ، فلا تحدث نفسك بجفوة والديك وعقوقهما لشركهما، ولا تحرمهما برّك ومعروفك في الدنيا، كما أني لا أمنعهما رزقي. والثاني: التحذير من متابعتهما على الشرك، والحث على الثبات والاستقامة في الدين بذكر المرجع والوعيد.
ما وجه تعلق الآية بما قبلها؟ نقول: لما بين الله حسن التكاليف ووقوعها، وبين ثواب من حقق التكاليف أصولها وفروعها تحريضا للمكلف على الطاعة، ذكر المانع ومنعه من أن يختار اتباعه، فقال الإنسان إن انقاد لأحد ينبغي أن ينقاد لأبويه، ومع هذا لو أمراه بالمعصية لا يجوز اتباعهما فضلا عن غيرهما فلا يمنعن أحدكم شيء من طاعة الله ولا يتبعن أحد من يأمر بمعصية الله...
{ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} دليل على أن متابعتهم في الكفر لا يجوز، وذلك لأن الإحسان بالوالدين وجب بأمر الله تعالى فلو ترك العبد عبادة الله تعالى بقول الوالدين لترك طاعة الله تعالى فلا ينقاد لما وصاه به فلا يحسن إلى الوالدين، فاتباع العبد أبويه لأجل الإحسان إليهم يفضي إلى ترك الإحسان إليهما، وما يفضي وجوده إلى عدمه باطل فالاتباع باطل، وأما إذا امتنع من الشرك بقي على الطاعة والإحسان إليهما من الطاعة فيأتي به فترك هذا الإحسان صورة يفضي إلى الإحسان حقيقة...
[ثم إن] الإحسان بالوالدين مأمور به، لأنهما سبب وجود الولد بالولادة وسبب بقائه بالتربية المعتادة فهما سبب مجازا، والله تعالى سبب له في الحقيقة بالإرادة، وسبب بقائه بالإعادة للسعادة، فهو أولى بأن يحسن العبد حاله معه.
{ما ليس لك به علم} يعني التقليد في الإيمان ليس بجيد فضلا عن التقليد في الكفر، فإذا امتنع الإنسان من التقليد فيه ولا يطيع بغير العلم لا يطيعهما أصلا.
{إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون} يعني عاقبتكم ومآلكم إلي، وإن كان اليوم مخالطتكم ومجالستكم مع الآباء والأولاد والأقارب والعشائر، ولا شك أن من يعلم أن مجالسته مع واحد خالية منقطعة، وحضوره بين يدي غيره دائم غير منقطع لا يترك مراضي من تدوم معه صحبته لرضا من يتركه في زمان آخر.
{فأنبئكم} فيه لطيفة وهي أن الله تعالى يقول لا تظنوا أني غائب عنكم وآباؤكم حاضرون فتوافقون الحاضرين في الحال اعتمادا على غيبتي وعدم علمي بمخالفتكم إياي فإني حاضر معكم أعلم ما تفعلون ولا أنسى فأنبئكم بجميعه...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
إذا لم تجز طاعة الأبوين في هذا المطلب مع المجاهدة منهما له، فعدم جوازها مع مجرّد الطلب بدون مجاهدة منهما أولى، ويلحق بطلب الشرك منهما سائر معاصي الله سبحانه، فلا طاعة لهما فيما هو معصية لله كما صحّ ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
{ووصَّيْنا الإنسان}... والأمر بالحسن أبلغ من الامر بطاعتهما، لأنه يكون بلا أمر منهما وبه، والطاعة ما كان عن أمر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الوالدين لأقرب الأقرباء. وإن لهما لفضلا، وإن لهما لرحما؛ وإن لهما لواجبا مفروضا: واجب الحب والكرامة والاحترام والكفالة. ولكن ليس لهما من طاعة في حق الله. وهذا هو الصراط: (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا. وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما).. إن الصلة في الله هي الصلة الأولى، والرابطة في الله هي العروة الوثقى. فإن كان الوالدان مشركين فلهما الإحسان والرعاية، لا الطاعة ولا الاتباع. وإن هي إلا الحياة الدنيا ثم يعود الجميع إلى الله.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لم يترك القرآن فاذَّة من أحوال علائق المسلمين بالمشركين إلا بين واجبهم فيها المناسب لإيمانهم، ومن أشد تلك العلائق علاقة النسب فالنسب بين المشرك والمؤمن يستدعي الإحسان وطيب المعاشرة ولكن اختلاف الدين يستدعي المناواة والمغاضبة ولا سيما إذا كان المشركون متصلبين في شركهم ومشفقين من أن تأتي دعوة الإسلام على أساس دينهم فهم يلحقون الأذى بالمسلمين ليقلعوا عن متابعة الإسلام، فبيّن الله بهذه الآية ما على المسلم في معاملة أنسبائه من المشركين. وخص بالذكر منها نسب الوالدين لأنه أقرب نسب فيكون ما هو دونه أولى بالحكم الذي يشرع له...
والمقصود من الآية هو قوله {وإن جاهداك لتشرك بي} إلى آخره، وإنما افتتحت ب {وصينا الإنسان بوالديه حسناً} لأنه كالمقدمة للمقصود ليعلم أن الوصاية بالإحسان إلى الوالدين لا تقتضي طاعتهما في السوء ونحوه لقول النبي صلى الله عليه وسلم « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» ولقصد تقرير حكم الإحسان للوالدين في كل حال إلا في حال الإشراك حتى لا يلتبس على المسلمين وجه الجمع بين الأمر بالإحسان للوالدين وبين الأمر بعصيانهما إذا أمرا بالشرك لإبطال قول أبي جهل: أليس من دين محمد البر بالوالدين ونحوه...
فعلم أنه لا تعارض بين الإحسان إلى الوالدين وبين إلغاء أمرهما بما لا يرجع إلى شأنهما...
والتوصية: كالإيصاء، يقال: أوصى ووصّى، وهي أمر بفعل شيء في مغيب الآمر به ففي الإيصاء معنى التحريض على المأمور به...
والمجاهدة: الإفراط في بذل الجهد في العمل، أي ألحَّا لأجل أن تشرك بي.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
تعليق على آية {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} الخ. والآية التالية لها وروح الآيتين ونظمهما ومضمونهما من جهة وورود ما يماثلهما في آيات لا خلاف في مكيتها من جهة أخرى يجعلاننا نرى فيها صورة من صور العهد المكيّ أكثر من العهد المدنيّ، ونشك في رواية مدنيتهما كما شككنا في رواية مدنية الآيات السبع السابقة. وليس من شأن رواية كونهما نزلتا في مسلم مهاجر إلى المدينة ومحاولة أبويه حمله على الارتداد والعودة إليهما في مكة أن تضعف من شكنا لأنها غير وثيقة الإسناد وغير معقولة الحدوث؛ ولأن طابع الآيتين مماثل لطابع الآيات المكية المماثلة، ومضمونها متسق مع ظروف العهد المكي أكثر. ولقد آمن عدد كبير من شباب قريش وشاباتهم رغم بقاء آبائهم على الشرك والجحود ومناوأتهم الشديدة للنبي ودعوته. وكان بعض هؤلاء الآباء من الزعماء البارزين، وقد اضطر أكثر هؤلاء الشباب المسلمين إلى الهجرة إلى الحبشة هربا من ضغط آبائهم واضطهادهم. فالمتبادر أن حوادث ضغط الآباء على الأبناء قد تكررت وتعددت فاقتضت حكمة التنزيل تكرار الأمر والتنبيه.
الوالدان يخدمان الابن حتى يكبر، ويصير هو إلى القوة في حين يصيران هما إلى الضعف، وإلى الحاجة لمن يخدمهما، وحين ننظر في حال الغربيين مثلا وكيف أن الأبناء يتركون الآباء دون رعاية، وربما أودعوهم دار المسنين في حالة برهم بهم، وفي الغالب يتركونهم دون حتى السؤال عنهم؛ لذلك تتجلى لنا عظمة الإسلام وحكمة منهج الله في مجتمع المسلمين. لذلك قال أحد الحكماء: الزواج المبكر خير طريقة – لا لإنجاب طفل – إنما لإنجاب أب لك يعولك في طفولة شيخوختك. لذلك أراد الحق سبحانه أن يبني الأسرة على لبنات سليمة، تضمن سلامة المجتمع المؤمن، فقال سبحانه: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا}، وفي موضع آخر قال سبحانه في نفس الوصية {ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا} وفرق بين المعنيين: {حسنا} أي: أوصيك بأن تعمل لهم الحسن ذاته، كما تقول: فلان عادل، وفلان عدل، فوصى بالحسن ذاته. أما في {إحسانا} [الأحقاف 15] فوصية بالإحسان إليهما. لكن، لماذا وصى هنا بالحسن ذاته، ووصى هناك بالإحسان؟ قالوا: وصى بالحسن ذاته في الآية التي تذكر اللدد الإيماني، حيث قال: {وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما} والكفر يستوجب العداوة والقطيعة، ويدعو إلى الخصومة، فأكد على ضرورة تقديم الحسن إليهما؛ لا مجرد الإحسان؛ لأن الأمر يحتاج إلى قوة تكليف. أما حين لا يكون منهما كفر، فيكفي في برهما الإحسان إليهما؛ لذلك يقول سبحانه: {وصاحبهما في الدنيا معروفا} [لقمان 15]...