وبعد هذا الحديث المتنوع عن قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وملئه ، ومع قومه بنى إسرائيل ، وجه القرآن خطابا إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - تثبيتا لقلبه ، وتسلية له عما أصابه من أذى ، فقال - تعالى - :
{ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين . . . }
المراد { مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ } هنا : ما أوحاه الله - تعالى - إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - من قصص حكم يتعلق بأنبياء الله - تعالى - ورسله .
قال الآلوسى : " وحضت القصص بالذكر ، لأن الأحكام المنزلة عليه - صلى الله عليه وسلم - ناسخة لأحكامهم ، ومخالفة لها فلا يتصور سؤالهم عنها " .
والمراد بالكتاب : جنسه فيشمل التوراة والإِنجيل .
والمعنى : فإن كنت أيها الرسول الكريم - على سبيل الفرض والتقدير - في شك مما أنزلنا إليك من قصص حكيم كقصة موسى ونوح وغيرهما { فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ } وهم علماء أهل الكتاب ، فإن ما قصصناه عليك ثابت في كتبهم .
فليس المراد من هذه الآية ثبوت الشك للرسول - صلى الله عليه وسلم - وإنما المراد على سبيل الفرض والتقدير ، لا على سبيل الثبوت .
قال ابن كثير : " قال قتادة بن دعامة : بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا أشك ولا أسأل " .
وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن البصري ، وهذا فيه تثبيت للأمة ، وإعلام لهم بأن صفة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدى أهل الكتاب ، كما قال - تعالى - { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل . . . } وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - في شأن عيسى - عليه السلام - : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ . . . } فعيسى - عليه السلام - يعلم علم اليقين أنه لم يقل ذلك ، وإنما يفرض قوله فرضا . ليستدل عليه بأنه لو قاله لعلمه الله - تعالى - منه .
أى : إن كنت قلته - على سبيل الفرض والتقدير - فقولى هذا لا يخفى عليك .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : فإن قلت : كيف قال الله - تعالى - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ . . . } ؟
قلت : هو على سبيل الفرض والتمثيل . كأنه قيل : فإن وقع لك شك - مثلا - وخيل لك الشيطان خيالا منه تقديرا { فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب } .
والمعنى : أن الله - عز وجل - قدم ذكر بنى إسرائيل ، وهم قراءة الكتاب ووصفهم بأن العلم قد جاءهم ، لأن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكتوب عندهم في التوراة والإِنجيل ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فأراد أن يؤكد علمهم بصحة القرآن ، وصحة نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويبالغ في ذلك فقال : فإن قوع لك شك فرضا وتقديرا .
فسل علماء أهل الكتاب يعنى أنهم من الإِحاطة بصحة ما أنزل إليك ، بحيث يصلحون لمراجعة مثلك ، فضلا عن غيرك .
فالغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا صوفه بالشك فيه .
ويجوز أن يكون على طريق التهييج والإِلهاب كقوله { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } كلام مستأنف مؤكد لاجتثاث إرادة الشك .
والتقدير : أقسم لقد جاءك الحق الذي لا لبس فيه من ربك لا من غيره ، فلا تكونن من الشاكين المترددين في صحة ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقّ مِن رّبّكَ فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فإن كنت يا محمد في شكّ من حقيقة ما أخبرناك وأنزل إليك من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوّتك قبل أن تبعث رسولاً إلى خلقه ، لأنهم يجدونك عندهم مكتوبا ويعرفونك بالصفة التي أنت بها موصوف في كتابهم في التوراة والإنجيل فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك من أهل التوراة والإنجيل كعبد الله بن سلام ونحوه من أهل الصدق والإيمان بك منهم دون أهل الكذب والكفر بك منهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : فاسْئَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الكتابَ مِنْ قَبْلِكَ قال : التوراة والإنجيل الذين أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب فآمنوا به ، يقول : فاسئلهم إن كنت في شكّ بأنك مكتوب عندهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله تعالى : فإنْ كُنْتَ فِي شَكّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ فاسْئَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الكتابَ مِنْ قَبْلِكَ قال : هو عبد الله بن سلام ، كان من أهل الكتاب فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : فاسْئَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الكتابَ مِنْ قَبْلِكَ قال : هم أهل الكتاب .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت إبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : فاسْئَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الكتابَ مِنْ قَبْلِكَ يعني أهل التقوى وأهل الإيمان من أهل الكتاب ، ممن أدرك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم .
فإن قال قائل : أو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شكّ من خبر الله أنه حقّ يقين حتى قيل له : فإنْ كُنْتَ فِي شَكّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ فاسْئَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الكتابَ مِنْ قَبْلِكَ قيل : لا وكذلك قال جماعة من أهل العلم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : فإنْ كُنْتَ فِي شَكّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ فقال : لم يشكّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يسأل .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سويد بن عمرو ، عن أبي عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : فإنْ كُنْتَ فِي شَكّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ فاسْئَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الكتابَ مِنْ قَبْلِكَ قال : ما شكّ وما سأل .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ومنصور ، عن الحسن في هذه الآية ، قال : لم يشكّ صلى الله عليه وسلم ولم يسأل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فإنْ كُنْتَ فِي شَكّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ فاسْئَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الكتابَ مِنْ قَبْلِكَ ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا أشُك ولا أسْألُ » .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فإنْ كُنْتَ فِي شَكّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ فاسْئَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الكتابَ مِنْ قَبْلِكَ قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا أشُكّ ولا أسأَلُ » .
فإن قال : فما وجه مخرج هذا الكلام إذن إن كان الأمر على ما وصفت ؟ قيل : قد بينا في غير موضع من كتابنا هذا استجازة العرب قول القائل منهم لملوكه : إن كنت مملوكي فانته إلى أمري والعبد المأمور بذلك لا يشكّ سيده القائل له ذلك أنه عبده . كذلك قول الرجل منهم لابنه : إن كنت ابني فبرّني وهو لا يشك في ابنه أنه ابنه ، وأن ذلك من كلامهم صحيح مستفيض فيهم ، وذكرنا ذلك بشواهد ، وأن منه قول الله تعالى : وَإذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ وقد علم جلّ ثناؤه أن عيسى لم يقل ذلك . وهذا من ذلك ، لم يكن صلى الله عليه وسلم شاكا في حقيقة خبر الله وصحته ، والله تعالى بذلك من أمره كان عالما ، ولكنه جلّ ثناؤه خاطبه خطاب قومه بعضهم بعضا ، إذ كان القرآن بلسانهم نزل .
وأما قوله : لَقَدْ جاءَكَ الحَقّ مِنْ رَبّكَ . . . الآية ، فهو خبر من الله مبتدأ ، يقول تعالى ذكره : أقسم لقد جاءك الحقّ اليقين من الخبر بأنك لله رسول ، وأن هؤلاء اليهود والنصارى يعلمون صحة ذلك ، ويجدون نعتك عندهم في كتبهم . فَلا تَكُونَنّ مِنَ المُمْترِينَ يقول : فلا تكوننّ مِنَ الشّاكِين في صحة ذلك وحقيقته . ولو قال قائل : إن هذه الآية خوطب بها النبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد بها بعض من لم يكن صحت بصيرته بنبوّته صلى الله عليه وسلم ممن كان قد أظهر الإيمان بلسانه ، تنبيها له على موضع تعرّف حقيقة أمره الذي يزيل اللبس عن قلبه ، كما قال جلّ ثناؤه : يا أيّها النّبِيّ اتّقِ اللّهَ وَلا تُطِعِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ إنّ اللّهَ كانَ عَلِيما حَكِيما كان قولاً غير مدفوعة صحته .
تفريع على سياق القصص التي جعلها الله مثلاً لأهل مكة وعظة بما حل بأمثالهم . انتقل بهذا التفريع من أسلوب إلى أسلوب كلاهما تعريض بالمكذبين ، فالأسلوب السابق تعريض بالتحذير من أن يحل ما حل بالأمم المماثلة لهم ، وهذا الأسلوب الموالي تعريض لهم بشهادة أهل الكتاب على تلك الحوادث ، وما في الكتب السابقة من الأنباء برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فالمراد من { ما أنزلنا إليك } هو المنزل الذي تفرع عليه هذا الكلام وهو ما أنزل في هذه السورة من القصص .
ثم أن الآية تحتمل معنيين لا يستقيم ما سواهما ؛ أولهما : أن تبقى الظرفية التي دلت عليها ( في ) على حقيقتها ، ويكون الشك قد أطلق وأريد به أصحابه ، أي فإن كنت في قوم أهل شك مما أنزلنا إليك ، أي يشكون في وقوع هذه القصص ، كما يقال : دخل في الفتنة ، أي في أهلها . ويكون معنى { فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك } فاسأل أهل الكتاب سؤال تقرير وإشهاد عن صفة تلك الأخبار يخبروا بمثل ما أخبرتهم به ، فيزول الشك من نفوس أهل الشك إذ لا يحتمل تواطؤك مع أهل الكتاب على صفة واحدة لتلك الأخبار . فالمقصود من الآية إقامة الحجة على المشركين بشهادة أهل الكتاب من اليهود والنصارى قطعاً لمعذرتهم .
وثانيهما : أن تكون ( في ) للظرفية المجازية كالتي في قوله تعالى : { فلا تكُ في مرية مما يعبد هؤلاء } [ هود : 109 ] ويكون سوق هذه المحاورة إلى النبي صلى الله عليه وسلم على طريقة التعريض لقصد أن يسمع ذلك المشركون فيكون استقرار حاصل المحاورة في نفوسهم أمكن مما لو ألقي إليهم مواجهة . وهذه طريقة في الإلقاء التعريضي يسلكها الحكماء وأصحاب الأخلاق متى كان توجيه الكلام إلى الذي يقصد به مظنة نفور كما في قوله تعالى : { لئن أشركت ليحبطنّ عملك ولتكُونَنّ من الخاسرين } [ الزمر : 65 ] أو كان في ذلك الإلقاء رفق بالذي يقصد سوق الكلام إليه كما في قصة الخصم من اللذين اختصما إلى داود المذكورة في سورة ص .
وكلا الاحتمالين يلاقي قوله : { فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك } فإنه يقتضي أن المسؤول عنه مما لا يكتمه أهل الكتاب ، وأنهم يشهدون به ، وإنما يستقيم ذلك في القصص الموافقة لما في كتبهم فإنهم لا يتحرجون من إعلانها والشهادة بها . وغير هذين الاحتمالين يعكر عليه بعض ما في الآية ، ويقتضي أن المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم لمكان قوله : { من قبلك } .
وليس المراد بضمائر الخطاب كل من يصح أن يخاطب ، لأن قوله : { مما أنزلنا إليك } يناكد ذلك إلا بتعسف .
وإنما تكون جملة : { فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك } جواباً للشرط باعتبار ما تفيده مادة السؤال من كونهم يجيبون بما يزيل الشك ، فبذلك يلتئم التلازم بين الشرط والجواب ، كما دلت عليه جملة : { لقد جاءك الحق من ربك } .
وقرأ الجمهور { فاسأل } بهمزة وصل وسكون السين وهمزة بعد السين . وقرأه ابن كثير والكسائي { فسَل } بفتح السين دون همزة الوصل وبحذف الهمزة التي بعد السين مخفف سَأل .
فجملة : { لقد جاءك الحق من ربك } مستأنفة استئنافاً بيانياً لجواب سؤال ناشىء عن الشرط وجوابه ، كأنّ السامع يقول : فإذا سألتهم ماذا يكون ، فقيل : لقد جاءك الحق من ربك .
ولما كان المقصود من ذلك علم السامعين بطريق التعريض لا علم الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه ليس بمحل الحاجة لإعلامه بأنه على الحق قرنت الجملة بحرفي التأكيد ، وهما : لام القسم وقد ، لدفع إنكار المعرّض بهم .