وقوله - سبحانه - { صرفنا } من التصريف بمعنى التنويع والتكرير .
والمثل : هو القول الغريب السائر فى الآفاق الذى يشبه مضربه مورده .
وقد أكثر القرآن من ضرب الأمثال لإِيضاح المعنى الخفى وتقريب الأمر المعقول من الأمر المحسوس ، وعرض الأمر الغائب فى صورة الحاضر .
والمعنى : ولقد كررنا ورددنا ونوعنا فى هذا القرآن من أجل هداية الناس ، ورعاية مصلحتهم ومنفعتهم ، من كل مثل من الأمثال التى تهدى النفوس ، وتشفى القلوب ، لعلهم بذلك يسلكون طريق الحق ، ويتركون طريق الباطل .
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة ، الشهادة من الله - تعالى - بأن هذا القرآن الذى أنزله - سبحانه - على نبيه صلى الله عليه وسلم فيه من الأمثال الكثيرة المتنوعة النافعة ، ما يرشد الناس إلى طريق الحق والخير ، متى فتحوا قلوبهم له . وأعملوا عقولهم لتدبره وفهمه .
ومفعول { صرفنا } محذوف ، و " من " لابتداء الغاية ، أى : ولقد صرفنا البينات والعبر والحكم فى هذا القرآن ، من أنواع ضرب المثل لمنفعة الناس ليهتدوا ويذكروا .
ثم بين - سبحانه - موقف الإِنسان من هذه الأمثال فقال : { وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } .
والمراد بالإنسان : الجنس ، ويدخل فيه الكافر والفاسق دخولا أوليا .
والجدل : الخصومة والمنازعة مع الغير فى مسألة من المسائل .
أى : وكان الإنسان أكثر شئ مجادلة ومنازعة لغيره ، أى : أن جدله أكثر من جدل كل مجادل .
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : ولقد بينا للناس فى هذا القرآن ، ووضحنا لهم الأمور ، وفصلناها ، كيلا يضلوا عن الحق . . ومع هذا البيان ، فالإنسان كثير المجادلة والمعارضة للحق بالباطل ، إلا من هدى الله وبصره لطريق النجاة .
قال الإمام أحمد : " حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب . عن الزهرى قال : أخبرنى على بن الحسني ، أن الحسين بن على أخبره ، أن على بن أبى طالب أخبره . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرق عليا وفاطمة ليلة فقال : " ألا تصليان ؟ " فقلت : يا رسول الله ، إنما أنفسنا بيد الله . . فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا . فانصرف حين قلت ذلك ولم يرفع إلى بشئ ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه ويقول : " وكان الإِنسان أكثر شئ جدلا " " .
وفى التعبير عن الإنسان فى هذه الجملة بأنه { شئ } وأنه { أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } إشعار لهذا الإِنسان بأن من الواجب عليه أن يقلل من غروره وكبريائه . وأن يشعر بأنه خلق من مخلوقات الله الكثيرة ، وأن ينتفع بأمثال القرآن ومواعظه وهداياته . . لا أن يجادل فيها بالباطل .
ومنهم من يرى أن المراد بالإنسان هنا : الكافر ، أو شخص معين ، قيل : هو النضر بن الحارث ، وقيل : أبى بن خلف .
لكن الظاهر أن المراد به العموم - كما أشرنا - ويدخل فيه هؤلاء دخولا أوليا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَرّفْنَا فِي هََذَا الْقُرْآنِ لِلنّاسِ مِن كُلّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } .
يقول عزّ ذكره : ولقد مثلنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل ، ووعظناهم فيه من كلّ عظة ، واحتججنا عليهم فيه بكلّ حجة ليتذكّروا فينيبوا ، ويعتبروا فيتعظوا ، وينزجروا عما هم عليه مقيمون من الشرك بالله وعبادة الأوثان وكانَ الإنْسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً يقول : وكان الإنسان أكثر شيء مراء وخصومة ، لا ينيب لحقّ ، ولا ينزجر لموعظة ، كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وكانَ الإنْسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً قال : الجدل : الخصومة ، خصومة القوم لأنبيائهم ، وردّهم عليهم ما جاءوا به . وقرأ : مَا هَذَا إلاّ بَشرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمّا تَأْكُلُونَ منه وَيَشْرَبُ مِمّا تَشْرَبُونَ . وقرأ : يُرِيدُ أنْ يَتَفَضّلَ عَلَيْكُمْ . وقرأ : حتى تُوَفّى . . . الاَية : وَلَوْ نَزّلْنا عَلَيْكَ كِتابا فِي قِرْطاسٍ . . . الاَية . وقرأ : وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابا مِنَ السّماءِ فَظَلّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ قال : هم ليس أنت لقالوا إنّمَا سُكّرَت أبْصَارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ .
عطف على الجمل السابقة التي ضربت فيها أمثال من قوله : { واضرب لهم مثلاً رجلين } [ الكهف : 32 ] وقوله : { واضرب لهم مثل الحياة الدنيا } [ الكهف : 45 ] . ولما كان في ذلك لهم مقنع وما لهم منه مدفع عاد إلى التنويه بهدي القرآن عودا ناظراً إلى قوله : { واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك } [ الكهف : 27 ] وقوله : { وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } [ الكهف : 29 ] ؛ فأشار لهم أن هذه الأمثال التي قرعت أسماعهم هدي من جملة هدي القرآن الذي تبرمُوا منه . وتقدم الكلام على نظير هذه الآية عند قوله : { ولقد صرفا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفوراً } في سورة الإسراء ( 89 ) ؛ سوى أنه يتجه هنا أن يُسأل لم قُدم في هذه الآية أحد متعلِقي فعل التصريف على الآخر إذ قدم هنا قوله : { في هذا القرآن } على قوله : { للناس } عكس آية سورة الإسراء . وهو ما أشرنا إليه عند الآية السابقة من أن ذكر القرآن أهم من ذكر الناس بالأصالة ، ولا مقتضي للعدول عنه هنا بل الأمر بالعكس لأن الكلام جار في التنويه بشأن القرآن وأنه ينزل بالحق لا بهوى الأنفس .
والناس : اسم عام لكل من يبلغه القرآن في سائر العصور المستقبلة ، والمقصود على الخصوص المشركون ، كما دل عليه جملةُ { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } ، فوزانه وزان قوله : { ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا } [ الإسراء : 89 ] ، وسيجيء قوله : { ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق } [ الكهف : 56 ] . وهذا يشبه العام الوارد على سبب خاص وقرائن خاصة .
وجملة { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } تذييل ، وهو مؤذن بكلام محذوف على وجه الإيجاز ، والتقدير : فجَادلوا فيه وكان الإنسان أكثر جدلاً ، فإن الإنسان اسم لنوع بني آدم ، وحرف ( ال ) فيه لتعريف الحقيقة فهو أوسع عموماً من لفظ الناس . والمعنى : أنهم جادلوا . والجدال : خلق ، منه ذميم يصد عنه تأديب الإسلام ويبقى في خلق المشركين ، ومنه محمود كما في قوله تعالى : { فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب } [ هود : 74 75 ] ، فأشار بالثناء على إبراهيم إلى أن جداله محمود . وليس المراد بالإنسان الإنسان الكافر كما في قوله تعالى : { يقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً } [ مريم : 66 ] ولا المراد بالجدل الجدل بالباطل ، لأن هذا سيجيء في قوله تعالى : ويجادل الذين كفروا بالباطل } الآية ، فقوله هنا : { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } تمهيد لقوله بعده { ويجادل الذين كفروا بالباطل } [ الكهف : 56 ] .
و ( شيء ) اسم مفرد متوغل في العموم . ولذلك صحت إضافة اسم التفضيل إليه ، أي أكثر الأشياء . واسم التفضيل هنا مسلوب المفاضلة مثل قوله : { رب السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه } [ يوسف : 33 ] ، وإنما أتي بصيغته لقصد المبالغة في شدة جدل الإنسان وجنوحه إلى المماراة والنزاع حتى فيما تَرْك الجدال في شأنه أحسن ، بحيث إن شدة الوصف فيه تشبه تفوقه في الوصف على كل من يعرض أنه موصوف به .
وإنما ألجئنا إلى هذا التأويل في اسم التفضيل لظهور أن غير الإنسان من أنواع ما على الأرض لا يتصور منه الجَدل . فالجدل خاص بالإنسان لأنه من شُعب النطق الذي هو فَصْل حقيقة الإنسانية ، أما الملائكة فجدلهم محمود مثل قولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها إلى قوله : { ونقدس لك } [ البقرة : 30 ] . وأما الشياطين فهم أكثر جدلاً من الإنسان ، ولكن لما نبا المقام عن إرادتهم كانوا غير مرادين بالتفضيل عليهم في الجدل .
و{ جدلاً } تمييز لنسبة الأكثرية إلى الإنسان . والمعنى : وكان الإنسان كثيراً من جهة الجدل ، أي كثيراً جدله . ويدل لهذا المعنى ما ثبت في « الصحيح » عن علي : " أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمةَ ليلاً فقال : ألاَ تصليان ؟ فقال علي : يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثَنا ، قال : فانصرف رسول الله حين قلت له ذلك ولم يرجع إليّ شيئاً ، ثم سمعته يَضرب فخذه ويقول : { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } " يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأولى بعلي أن يحمد إيقاظ رسول الله إياه ليقوم من الليل وأن يحرص على تكرر ذلك وأن يُسَرّ بما في كلام رسول الله من مَلام ، ولا يستدل بما يحبذ استمرار نومه ، فذلك محل تعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جواب علي رضي الله عنه .
ولا يحسن أن يحمل التفضيل في الآية على بابه بأن يرد أن الإنسان أكثر جدلاً من الشياطين والجن مما يجوز على حقيقته الجدل لأنه محمل لا يراد مثله في مثل هذا . ومن أنبأنا أن للشياطين والجن مقدرة على الجدل ؟ .
والجدل : المنازعة بمعاوضة القول ، أي هو الكلام الذي يحاول به إبطال ما في كلام المخاطب من رأي أو عزم عليه : بالحجة أو بالإقناع أو بالباطل ، قال تعالى : { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } [ العنكبوت : 46 ] ، وقال : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله } [ المجادلة : 1 ] ، وقال : { يجادلنا في قوم لوط } [ هود : 74 ] ، وقال : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } [ النساء : 107 ] ، وقال : { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } [ الأنفال : 6 ] .
والمراد هنا مطلق الجدل وبخاصة ما كان منه بباطل ، أي أن كل إنسان في طبعه الحرص على إقناع المخالف بأحقية معتقده أو عمله . وسياق الكلام يقتضي إرادة الجدل الباطل .