استمع إلى القرآن وهو يصور كل ذلك بأسلوبه البليغ الحكيم فيقول : { وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ . . . }
روى المفسرين في سبب نزول الآية الأولى من هاتين الآيتين آثارا متعددة ، من ذلك ما جاء عن عاصم بن عمرو بن قتادة الأنصاري عن رجال من قومه قالوا : مما دعانا إلى الإِسلام مع رحمة الله وهداه ، أنا كنا نسمع من رجال يهود حين كنا أهل شرك وكانوا أهل كتاب ، عندهم علم ليس عندنا ، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور ، فكنا إذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا : قد تقارب زمان نبي يبعث الآن ، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رسولا من عند الله أجبنا حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه ، فآمنا به وكفروا به ، ففينا وفيهم نزل قوله - تعالى - { وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله } . . . . إلخ الآية " .
ومعنى الآيتين الكريمتين : ولما جاء إلى اليهود محمد صلى الله عليه وسلم ومعه القرآن الكريم وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه ، مصدقاً لما معهم من التوراة فيما يختص ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم ونعته ، وكانوا قبل ذلك يستنصرون به على أعدائهم ، لما جاءهم النبي المرتقب ومعه القرآن الكريم جحدوا نبوته ، وكذبوا كتابه { فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين } . بئس الشيء الذي باعوا به أنفسهم . والحسد الذي خالط قلوبهم ، وكراهية لأن ينزل الله وحيه على محمد العربي صلى الله عليه وسلم فباءوا بسبب هذا الخلق الذميم ، بغضب مترادف متكاثر من الله - تعالى - { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } جزاء كفرهم وحسدهم .
والمراد بالكتاب في قوله تعالى { وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } القرآن الكريم ، وفي تنكيره زيادة تعظيم وتشريف له ، وفي الأخبار عنه بأنه من عند الله ، إشارة إلى أن ما يوحى به - سبحانه - جدير بأن يتلقى بالقبول وحسن الطاعة لأنه صادر من الحكيم الخبير ، والذي مع اليهود هو التوراة ، ومعنى كون القرآن مصدقاً لها ، أنه يؤيدها ويوافقها في أصول الدين ، وفيما يختص ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم وصفته .
وفي وصف القرآن الكريم بأنه مصدق لما معهم ، زيادة تسجيل عليهم بالمذمة لأنهم لم يكفروا بشيء يخالف أصول كتابهم وإنما كفروا بالكتاب الذي يصدق كتابهم .
وقوله تعالى : { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ } .
بيان لحالتهم قبل البعثة المحمدية ، فإن اليهود كانوا عندما يحصل بينهم وبين أعدائهم نزاع ، يستنصرون عليهم بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته فيقولن اللهم انصرنا عليهم بالنبي الذي نجد نعته في التوراة .
والاستفتاح معناه : طلب الفتح وهو الفصل في الشيء والحكم فيه ، كما في قوله تعالى : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق }
ويستعمل بمعنى النصر لأن فيه فصلا بين الناس قال تعالى : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } أي : إن تستنصروا فقد جاءكم النصر ، فالمراد به الآية الاستنصار .
ثم بين - سبحانه - حقيقة حالهم بعد أن جاءهم الكتاب والرسول فقال تعالى : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ } أي : فلما جاءهم ما كانوا يستفتحون به على أعدائهم ويرتقبونه جحدوه وكفروا به .
وقال - سبحانه { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ } ولم يقل فلما جاءهم الكتاب أو الرسول ، ليكون اللفظ أشمل ، فيتناول الكتاب والرسول الذي جاء به لأنه لا يجيء الكتاب إلا عن طريق رسول .
ومعرفتهم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه حاصلة بانطباق العلامات والصفات الواردة في التوراة عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان من الواجب عليهم أن يؤيدوا هذه المعرفة بالإِيمان به ، ولكن خوفهم على زوال رياستهم وأموالهم ، وفوات ما كانوا يحرصون عليه من أن يكون النبي المبعوث منهم لا من العرب ، ملأ قلوبهم غيظاً وحسداً ، وأخذ هذا الغيظ والحسد يغالب تلك المعرفة حتى غلبها ، وحال بينها وبين أن يكون لها أثر نافع لهم لعدم اقترانها بالقبول والتصديق .
ولقد حاول رئيسهم ( عبد الله بن سلام ) - رضي الله عنه - أن يصرفهم عن العناد وأقسم لهم بأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الحق المصدق لما معهم أن يتبعوه ولكنهم عموا وصموا وتنقصوه ولذا لعنهم الله تعالى ، وأبعدهم عن رحمته كما قال تعالى : { فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين } .
وقال - سبحانه - { عَلَى الكافرين } ولم يقل عليهم ، للإِشعار بأن حلول اللعنة عليهم كان بسبب كفرهم .
{ وَلَمّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمّا جَآءَهُمْ مّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ }
يعني جل ثناؤه بقوله : وَلَمّا جاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّق لِمَا مَعَهُمْ : ولما جاء اليهود من بني إسرائيل الذين وصف جل ثناؤه صفتهم ، كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ يعني بالكتاب : القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم ، مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ يعني مصدّق للذي معهم من الكتب التي أنزلها الله من قبل القرآن . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَلَمّا جاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وهو القرآن الذي أنزل على محمد مصدق لما معهم من التوراة والإنجيل .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : وَلَمّا جاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّق لِمَا مَعَهُمْ وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم مصدق لما معهم من التوراة والإنجيل .
القول في تأويل قوله تعالى : { وكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ على الّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ } .
يعني بقوله جل ثناؤه : { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ على الّذِينَ كَفَرُوا } أي وكان هؤلاء اليهود الذين لما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم من الكتب التي أنزلها الله قبل الفرقان ، كفروا به يستفتحون بمحمد صلى الله عليه وسلم ومعنى الاستفتاح : الاستنصار يستنصرون الله به على مشركي العرب من قبل مبعثه أي من قبل أن يبعث . كما :
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ، عن أشياخ منهم قالوا : فينا والله وفيهم يعني في الأنصار وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم نزلت هذه القصة ، يعني : { وَلَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ على الّذِينَ كَفَرُوا } قالوا : كنا قد علوناهم دهرا في الجاهلية ، ونحن أهل الشرك ، وهم أهل الكتاب ، فكانوا يقولون : إن نبيّا الاَن مبعثه قد أظل زمانه ، يقتلكم قَتْلَ عادٍ وإرَم فلما بعث الله تعالى ذكره رسوله من قريش واتبعناه كفروا به . يقول الله : فَلَمّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ .
حدثنا بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس : أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه . فلما بعثه الله من العرب ، كفروا به ، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة : يا معشر يهود ، اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شِرْك ، وتخبروننا أنه مبعوث ، وتصفونه لنا بصفته . فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه ، وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله جل ثناؤه في ذلك من قوله : { وَلَمّا جاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ على الكافِرِينَ } .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت ، قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس : { وكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ على الّذِينَ كَفَرُوا }يقول : يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب يعني بذلك أهل الكتاب فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ورأوه من غيرهم كفروا به وحسدوه .
وحدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثني عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن عليّ الأزدي في قول الله :
{ وكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ على الّذِينَ كَفَرُوا } قال : اليهود ، كانوا يقولون : اللهمّ ابعث لنا هذا النبيّ يحكم بيننا وبين الناس يَسْتَفْتِحُونَ يستنصرون به على الناس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، على عن الأزدي وهو البارقي في قول الله جل ثناؤه : { وكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ } فذكر مثله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ على الّذِينَ كَفَرُوا } كانت اليهود تستفتح بمحمد صلى الله عليه وسلم على كفار العرب من قبل ، وقالوا : اللهمّ ابعث هذا النبيّ الذي نجده في التوراة يعذّبهم ويقتلهم فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فرأوا أنه بعث من غيرهم كفروا به حسدا للعرب ، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة فَلَمّا جَاءَهُمْ مَا عرَفُوا كَفَرُوا بِهِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب ، يقولون : اللهمّ ابعث هذا النبيّ الذي نجده مكتوبا عندنا حتى يعذّب المشركين ويقتلهم فلما بعث الله محمدا ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسدا للعرب ، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله : فَلَمّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ على الكافِرِينَ .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { ولمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ على الّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ } قال : كانت العرب تمرّ باليهود فيؤذونهم ، وكانوا يجدون محمدا صلى الله عليه وسلم في التوراة ، ويسألون الله أن يبعثه فيقاتلوا معه العرب فلما جاءهم محمد كفروا به حين لم يكن من بني إسرائيل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء قوله : { وَكَانُوا مِنْ قَبْل يَسْتَفْتِحُونَ عَلى الّذِينَ كَفَرُوا } قال : كانوا يستفتحون على كفار العرب بخروج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ويرجون أن يكون منهم . فلما خرج ورأوه ليس منهم كفروا ، وقد عرفوا أنه الحقّ وأنه النبيّ . قال : { فَلَمّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ على الكافِرِينَ } .
قال : حدثنا ابن جريج ، وقال مجاهد : يستفتحون بمحمد صلى الله عليه وسلم تقول أنه يخرج ، فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا وكان من غيرهم ، كَفَرُوا بِهِ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : وقال ابن عباس : كانوا يستفتحون على كفار العرب .
حدثني المثنى ، قال : حدثني الحماني ، قال : حدثني شريك ، عن أبي الحجاب ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير قوله : { فَلَمّا جاءهُمْ مَا عرَفُوا كَفَرُوا بِهِ } قال : هم اليهود عرفوا محمدا أنه نبيّ ، وكفروا به .
حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { وكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ على الّذِينَ كَفَرُوا } قال : كانوا يستظهرون يقولون نحن نعين محمدا عليهم ، وليسوا كذلك يكذبون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سألت ابن زيد عن قول الله عزّ وجل : { وكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ على الّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ مَا عَرفُوا كَفَرُوا بِهِ } قال : كانت يهود يستفتحون على كفار العرب يقولون : أما والله لو قد جاء النبيّ الذي بشر به موسى وعيسى : أحمد لكان لنا عليكم . وكانوا يظنون أنه منهم والعرب حولهم ، وكانوا يستفتحون عليهم به ويستنصرون به فَلَمّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ وحسدوه . وقرأ قول الله جل ثناؤه : { كُفّارا حَسَدا مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ الحَقّ } قال : قد تبين لهم أنه رسول ، فمن هنالك نفع الله الأوس والخزرج بما كانوا يسمعون منهم أن نبيّا خارج .
فإن قال لنا قائل : فأين جواب قوله : { وَلَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدق لِمَا مَعَهُمْ } ؟ قيل : قد اختلف أهل العربية في جوابه ، فقال بعضهم : هو مما تُرك جوابه استغناء بمعرفة المخاطبين به بمعناه وبما قد ذكر من أمثاله في سائر القرآن . وقد تفعل العرب ذلك إذا طال الكلام ، فتأتي بأشياء لها أجوبة فتحذف أجوبتها لاستغناء سامعيها بمعرفتهم بمعناها عن ذكر الأجوبة ، كما قال جل ثناؤه : وَلَوْ أَنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ أوّ كُلّمَ بِهِ المَوْتَى بَلْ لِلّهِ الأمْرُ جَمِعيا فترك جوابه . والمعنى :
{ ولو أن قرآنا سوى هذا القرآن سيرت به الجبال لسُيّرت بهذا القرآن } استغناءً بعلم السامعين بمعناه . قالوا : فكذلك قوله : وَلَمّا جَاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ .
وقال آخرون : جواب قوله : وَلَمّا جاءَهُمْ كِتاب مِنْ عِنْدِ اللّهِ في «الفاء » التي في قوله : { فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ }وجواب الجزاءين في «كفروا به » كقولك : لما قمت فلما جئتنا أحسنت ، بمعنى : لما جئتنا إذْ قمتَ أحسنتَ .
القول في تأويل قوله تعالى : فَلَعنَةُ اللّهِ على الكافِرِينَ .
قد دللنا فيما مضى على معنى اللعنة وعلى معنى الكفر ، بما فيه الكفاية . فمعنى الآية : فخزي الله وإبعاده على الجاحدين ما قد عرفوا من الحقّ عليهم لله ولأنبيائه المنكرين ، لما قد ثبت عندهم صحته من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . ففي إخبار الله عزّ وجل عن اليهود بما أخبر الله عنهم بقوله : { فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ } البيان الواضح أنهم تعمدوا الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد قيام الحجة بنبوّته عليهم وقطع الله عذرهم بأنه رسوله إليهم .
معطوف على قوله : { وقالوا قلوبنا غلف } [ البقرة : 88 ] لقصد الزيادة في الإنحاء عليهم بالتوبيخ فإنهم لو أعرضوا عن الدعوة المحمدية إعراضاً مجرداً عن الأدلة لكان في إعراضهم معذرة ما ولكنهم أعرضوا وكفروا بالكتاب الذي جاء مصدقاً لما معهم والذي كانوا من قبل يستفتحون به على المشركين . فقوله : { من عند الله } متعلق بجاءهم وليس صفة لأنه ليس أمراً مشاهداً معلوماً حتى يوصف به . وقوله : { مصدق لما معهم } وصف شأن لقصد زيادة التسجيل عليهم بالمذمة في هذا الكفر والقول في تفسيره قد مضى عند قوله تعالى : { وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم } [ البقرة : 41 ] .
والاستفتاح ظاهره طلب الفتح أي النصر قال تعالى : { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } [ الأنفال : 19 ] وقد فسروه بأن اليهود كانوا إذا قاتلوا المشركين أي من أهل المدينة استنصروا عليهم بسؤال الله أن يبعث إليهم الرسول الموعود به في التوراة . وجوز أن يكون { يستفتحون } بمعنى يفتحون أي يعلمون ويخبرون كما يقال فتح على القارىء أي علمه الآية التي ينساها فالسين والتاء لمجرد التأكيد مثل زيادتهما في استعصم واستصرخ واستعجب والمراد كانوا يخبرون المشركين بأن رسولاً سيبعث فيؤيد المؤمنين ويعاقب المشركين . وقوله : { فلما جاءهم ما عرفوا } أي ما كانوا يستفتحون به أي لما جاء الكتاب الذي عرفوه كفروا به وقد عدل عن أن يقال فلما جاءهم الكتاب ليكون اللفظ أشمل فيشمل الكتاب والرسول الذي جاء به فإنه لا يجيء كتاب إلا مع رسول . ووقع التعبير بما الموصولة دون مَن لأجل هذا الشمول ولأن الإبهام يناسبه الموصول الذي هو أعم فإن الحق أن ما تجيء لما هو أعم من العاقل .
والمراد بما عرفوا القرآن أي أنهم عرفوه بالصفة المتحققة في الخارج وإن جهلوا انطباقها على القرآن لضلالهم لأن الظاهر أن بني إسرائيل لم يكن أكثرهم يعتقد صدق القرآن وصدق الرسول وبعضهم كان يعتقد ذلك ولكنه يتناسى ويتغافل حسداً قال تعالى : { حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق } [ البقرة : 109 ] ويصير معنى الآية : « ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم » وعرفوا أنه الذي كانوا يستفتحون به على المشركين .
وجملة : { وكانوا من قبل يستفتحون } في موضع الحال وفائدتها هنا استحضار حالتهم العجيبة وهي أنهم كذبوا بالكتاب والرسول في حال ترقبهم لمجيئه وانتظار النصر به وهذا منتهى الخذلان والبهتان .
وقوله : { فلما جاءهم ما عرفوا } بالفاء عطف على جملة { كانوا يستفتحون } . و { لما } الثانية تتنازع مع { لما } الأولى الجواب وهو قوله : { كفروا به } فكان موقع جملة { وكانوا } إلخ بالنسبة إلى كون الكتاب مصدقاً موقع الحال لأن الاستنصار به أو التبشير به يناسب اعتقاد كونه « مصدقاً لما معهم » وموقعها بالنسبة إلى كون الكتاب والرسول معروفين لهم بالأمارات والدلائل موقع المنشإ من المتفرع عنه مع أن مفاد جملة { لما جاءهم كتاب من عند الله } إلخ وجملة { لما جاءهم ما عرفوا } إلخ واحد وإعادة { لما } في الجملة الثانية دون أن يقول : وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فجاءهم ما عرفوا إلخ قصد إظهار اتحاد مفاد الجملتين المفتتحتين بلما وزيادة الربط بين المعنيين حيث انفصل بالجملة الحالية فحصل بذلك نظم عجيب وإيجاز بديع ، وطريقة تكرير العامل مع كون المعمول واحداً طريقة عربية فصحى ، قال تعالى : { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } [ آل عمران : 188 ] وقال : { أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون } [ المؤمنون : 35 ] فأعاد ( أنكم ) قبل خبر الأولى وقد عدلنا في هذا البيان عن طريقة الزجاج وطريقة المبرد وطريقة الفراء المذكورات في { حاشية الخفاجي وعبد الحكيم } وصغناه من محاسن تلك الطرائق كلها لما في كل طريقة منها من مخالفة للظاهر .
وقوله : { فلعنة الله على الكافرين } جملة دعاء عليهم وعلى أمثالهم والدعاء من الله تعالى تقدير وقضاء لأنه تعالى لا يعجزه شيء وليس غيره مطلوباً بالأدعية وهذا كقوله : { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم } [ المائدة : 64 ] وقوله : { قاتلهم الله أنى يؤفكون } [ التوبة : 30 ] وسيأتي بيانه عند قوله تعالى : { عليهم دائرة السوء } في سورة براءة ( 98 ) .
والفاء للسببية والمراد التسبب الذكري بمعنى أن ما قبلها وهو المعطوف عليه يسبب أن ينطق المتكلم بما بعدها كقول قيس بن الخطيم :
وكنت امرءاً لا أسمع الدهر سبـة *** أسب بها إلا كشفت غطاءها
فإني في الحرب الضروس موكل *** بإقدام نفس ما أريد بقاءهـا
فعطف قوله : ( فإني ) على قوله كشفت غطاءها لأن هذا الحكم يوجب بيان أنه في الحرب مقدام .
واللام في { الكافرين } للاستغراق بقرينة مقام الدعاء يشمل المتحدث عنهم لأنهم من جملة أفراد هذا العموم بل هم أول أفراده سبقاً للذهن لأن سبب ورود العام قطعي الدخول ابتداء في العموم . وهذه طريقة عربية فصيحة في إسناد الحكم إلى العموم والمراد ابتداءً بعض أفراده لأن دخول المراد حينئذ يكون بطريقة برهانية كما تدخل النتيجة في القياس قال بَشَامَةُ بن حَزن النهشلي :
إنَّا محيوك يا سَلْمى فحيينا *** وإن سَقَيْتِ كرام الناس فاسقِينا