ثم وجه - سبحانه - الخطاب إلى أمهات المؤمنين ، فأدبهن أكمل تأديب وأمرهن بالتزام الفضائل ، وباجتناب الرذائل ، لأنهن القدوة لغيرهن من النساء ، ولأنهن فى بيوتهن ينزل الوحى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال - تعالى - : { يانسآء النبي . . . . كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } .
فقوله - سبحانه - { يانسآء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ } نداء من الله تعالى - لهن . على سبيل الوعظ والارشاد والتأديب ، والعناية بشأنهن لأنهن القدوة لغيرهن ، والفاحشة : ما قبح من الأقوال والأفعال .
والمعنى : يا نساء النبى صلى الله عليه وسلم من يأت منكن بمعصية ظاهرة القبح ، يضاعف الله - تعالى - لها العقاب ضعيفين ، لأن المعصية من رفيع الشأن تكون أشد قبحا ، وأعظم جرما .
قال صاحب الكشاف : وإنما ضوعف عذابهن ، لأن ما قبح من سائر النساء ، كان أقبح منهن وأقبح ، لأن زيادة قبح المعصية ، تتبع زيادة الفضل والمرتبة . . وليس لأحد من النساء ، مثل فضل نساء النبى صلى الله عليه وسلم ولا على أحد منهن مثل ما لله عليهن من النعمة . . ولذلك كان ذم العقلاء للعاصى العالم : أشد منه للعاصى الجاهل ، لأن المعصية من العالم أقبح .
وقد روى عن زين العابدين بن على بن الحسين - رضى الله عنهم - أنه قال له رجل : إنكم أهل بيت مغفور لكم ، فغضب ، وقال نحن أحرى أن يجرى فينا ، ما أجرى الله - تعالى - على نساء نبيه صلى الله عليه وسلم من أن لمسيئنا ضعيفين من العذاب ، ولمحسننا ضعفين من الأجر .
وقوله - سبحانه - : { مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ . . . } جملة شرطية . والجملة الشرطية لا تقتضى وقوع الشرط ، كما فى قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ . . } وكما فى قوله - سبحانه - : { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بببيان أن منزلتهن - رضى الله عنهن - لا تمنع من وقوع العذاب بهن فى حالة ارتكابهن لما نهى الله - تعالى - عنه ، فقال : { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً } أى : وكان ذلك التضعيف للعذاب لهن ، يسيرا وهينا على الله ، لأنه - سبحانه - لا يصعب عليه شئ .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَنِسَآءَ النّبِيّ مَن يَأْتِ مِنكُنّ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً } .
يقول تعالى ذكره لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم : يا نِساء النّبِيّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنّ بفاحِشَةٍ مَبَيّنَةٍ يقول : من يزن منكنّ الزنى المعروف الذي أوجب الله عليه الحدّ ، يضاعف لها العذاب على فجورها في الاَخرة ضعفين على فجور أزواج الناس غيرهم ، كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ ضِعْفَيْنِ قال : يعني عذاب الاَخرة .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار : يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ بالألف ، غير أبي عمرو ، فإنه قرأ ذلك : «يُضَعّفْ » بتشديد العين تأوّلاً منه في قراءته ذلك أن يضعّف ، بمعنى : تضعيف الشيء مرّة واحدة ، وذلك أن يجعل الشيء شيئين ، فكأن معنى الكلام عنده : أن يجعل عذاب من يأتي من نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم بفاحشة مبينة في الدنيا والاَخرة ، مثلي عذاب سائر النساء غيرهنّ ، ويقول : إنّ يُضَاعَفْ بمعنى أنْ يجْعَل إلى الشيء مثلاه ، حتى يكون ثلاثة أمثاله فكأن معنى من قرأ يُضَاعَفْ عنده كان أن عذابها ثلاثة أمثال عذاب غيرها من النساء من غير أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلذلك اختار «يضعّف » على يضاعف . وأنكر الاَخرون الذين قرءوا ذلك يضاعف ما كان يقول في ذلك ، ويقولون : لا نعلم بين : ويُضاعَفْ ويُضَعّفْ فرقا .
والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار ، وذلك يُضَاعَفْ . وأما التأويل الذي ذهب إليه أبو عمرو ، فتأويل لا نعلم أحدا من أهل العلم ادّعاه غيره ، وغير أبي عُبيدة معمر بن المثنى ، ولا يجوز خلاف ما جاءت به الحجة مجمعة عليه بتأويل لا برهان له من الوجه الذي يجب التسليم له .
قال أبو رافع كان عمر كثيراً ما يقرأ سورة يوسف وسورة الأحزاب في الصبح ، فكان إذا بلغ { يا نساء النبي } رفع بها صوته ، فقيل له فقال أذكرهن العهد . وقرأ الجمهور «من يأت » بالياء وكذلك «من يقنت » حملاً على لفظ { من } ، وقرأ عمرو بن فائد ، والجحدري ويعقوب «من تأت » و «من تقنت » بالتاء من فوق حملاً على المعنى ، وقال قوم : «الفاحشة » إذا وردت معرفة فهي الزنا واللواط ، وإذا وردت منكرة فهي سائر المعاصي كل مستفحش ، وإذا وردت موصوفة بالبيان فهي عقوق الزوج وفساد عشرته ، ولذلك يصفها بالبيان إذ لا يمكن سترها ، والزنا وغيره هو مما يتستر به ولا يكون مبيناً ، ولا محالة أن الوعيد واقع على ما خفي منه وما ظهر . وقالت فرقة بل قوله { بفاحشة مبينة } تعم جميع المعاصي ، وكذلك الفاحشة كيف وردت .
تولى الله خطابهن بعد أن أمر رسوله بتخييرهِنّ فخيرهُنّ فاخترْنَ الله ورسوله والدار الآخرة ، فخاطبهن ربُّهُنّ خطاباً لأنهن أصبحْنَ على عهد مع الله تعالى أن يؤتِيَهُنّ أجراً عظيماً . وقد سمّاه عمر عهداً فإنه كان كثيراً ما يقرأ في صلاة الصبح سورة الأحزاب فإذا بلغ هذه الآية رَفَعَ بها صوته فقيلَ له في ذلك ، فقال : أُذكِّرهُنّ العهدَ ، ولما كان الأجر الموعود منوطاً بالإحسان أُريد تحذيرهن من المعاصي بلوغاً بهن إلى مرتبة الملكية مبالغة في التحذير إذ جعل عذاب المعصية على فرض أن تأتيها إحداهن عذاباً مضاعفاً . ونِدَاؤُهُنّ للاهتمام بما سيُلْقَى إليهن . ونَادَاهُنّ بوصف { نساء النبي } ليعلَمْنَ أن ما سيُلقَى إليهن خبر يناسب علوّ أقدارهِنّ . والنساء هنا مراد به الحلائل ، وتقدم في قوله تعالى : { ونساءَنا ونساءَكم } في سورة آل عمران ( 61 ) . وقرأ الجمهور { يَأتِ } بتحتية في أوله مراعاة لمدلول { مَن } الشرطية لأن مدلولها شيء فأصله عدم التأنيث . وقرأه يعقوب { مَن تأت } بفوقية في أوله مراعاة لِمَا صْدَق { مَن } أي : إحدى النساء . وقرأ الجمهور { يضاعَف } بتحتية في أوله للغائب وفتح العين مبنياً للنائب ورفع { العذابُ } على أنه نائب فاعل . وقرأه ابن كثير وابن عامر { نضَعِّف } بنون العظمة وبتشديد العين مكسورة ونصب { العذابَ } على المفعولية ؛ فيكون إظهار اسم الجلالة في قوله بعده : { وكان ذلك على الله يسيراً } إظهاراً في مقام الإضمار . وقرأه أبو عمرو ويعقوب { يُضَعَّف } بتحتية للغائب وتشديد العين مفتوحة . ومفاد هذه القراءات متّحِدُ المعنى على التحقيق .
وروى الطبري عن أبي عمرو بن العلاء وعن أبي عبيدة مَعمَر بن المثنَّى : أن بين ضاعف وضَعَّف فرقاً ، فأما ضاعف فيفيد جعْل الشيء مِثْلَيْه فتصير ثلاثة أعْذِبة . وأما ضَعَّف المشدّد فيفيد جَعْل الشيء مثله . قال الطبري : وهذا التفريق لا نعلم أحداً من أهل العلم ادعاه غيرهما . وصيغة التثنية في قوله { ضعفين } مستعملة في إرادة الكثرة كقوله تعالى : { ثم ارجع البصر كرَّتيْن ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير } [ الملك : 4 ] لظهور أن البصر لا يرجع خاسئاً وحسيراً من تكرّر النظر مرتين ، والتثنية ترِدُ في كلام العرب كناية عن التكرير ، كقولهم : لَبَّيْك وسَعْديك ، وقولهم : دَوَالَيْك ، ولذلك لا نشتغل بتحديد المضاعفة المرادة في الآية بأنها تضعيف مرة واحدة بحيث يكون هذا العذاب بمقدار ما هو لأمثال الفاحشة مرتين أو بمقدار ذلك ثلاث مرات وذلك ما لم يشتغل به أحد من المفسرين ، وما إعراضهم عنه إلا لأن أفهامهم سبقت إلى الاستعمال المشهور في الكلام ، فما روي عن أبي عمرو وأبي عبيدة لا يلتفت إليه .
والفاحشة : المعصية ، قال تعالى : { قل إنما حرَّم ربيَ الفواحش ما ظهر منها وما بطن } [ الأعراف : 33 ] وكلما وردت الفاحشة في القرآن نكرة فهي المعصية وإذا وردت معرفة فهي الزنا ونحوه .
والمبيِّنة : بصيغة اسم الفاعل مبالغة في بيان كونها فاحشة ووضوحه حتى كأنها تبيِّن نفسها وكذلك قرأها الجمهور . وقرأ ابن كثير وأبو بكر بفتح الياء ، أي : يبيّنها فاعِلها .
والمضاعفة : تكرير شيء ذي مقدار بمثل مقداره .
والضعف : مماثل عدد ما . وتقدم في قوله تعالى { فآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً من النار } في سورة الأعراف ( 38 ) . ومعنى مضاعفة العذاب : أنه يكون ضعف عذاب أمثال تلك المعصية إذا صدرت من غيرهنّ ، وهو ضعف في القوة وفي المدة ، وأريد : عذاب الآخرة .
وجملة { وكان ذلك على الله يسيراً } معترضة ، وتقدم القول في نظيرها آنفاً . والمعنى : أن الله يحقق وعيده ولا يمنعه من ذلك أنها زوجة نبيء ، قال تعالى : { كانتا تحتَ عبدَيْن من عِبادنا صالحيْن } إلى قوله : { فلم يُغْنِيَا عنهما من الله شيئاً } [ التحريم : 10 ] .
والتعريف في { العذاب } تعريف العهد ، أي : العذاب الذي جعله الله للفاحشة .