وبعد هذا الحديث عن مظاهر قدرة الله فى هذا الكون ، جاءت الآيات بعد ذلك لتهديد الذين يلحدون فى آياته - تعالى - ولتمدح القرآن الكريم ، ولتسلى النبى صلى الله عليه وسلم عما لقيه من أعدائه ، ولتبين أن من عمل صالحا فثمار عمله لنفسه ، ومن عمل سيئا فعلى نفسه وحده يجبنى . . قال - تعالى - :
{ إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ في آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن . . . } .
قوله - تعالى - { يُلْحِدُونَ } من الإلحاد وهو الميل عن الاستقامة ، والعدول عن الحق .
يقال ألحد فلان فى كلامه إذا مال عن الصواب ، ومنه اللحد فى القبر ، لأنه أميل إلى ناحية منه دون الأخرى .
والمعنى : إن الذين يميلون عن الحق فى شأن آياتنا بأن يؤولوها تأويلا فاسدا ، أو يقابلوها باللغو فيها وعدم التدبر لما اشتملت عليه من توجيهات حكيمة . .
هؤلاء الذين يفعلون ذلك : { لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ } أى ليسوا بغائبين عن علمنا ، بل هم تحت بصرنا وقدرتنا ، وسنجازيهم بما يستحقون من عقاب مهما ألحدوا ومالوا عن الحق والصواب .
فالجملة تهديد لهم على تحريفهم الباطل لآيات الله - تعالى - .
ثم بين - سبحانه - البون الشاسع بين عاقبة المؤمنين وعاقبة الكافرين ، فقال : { أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة } ؟
والغرض من هذا الاستفهام بيان أن الذين يلحدون فى آيات الله سيكون مصيرهم الإِلقاء فى النار ، وأن الذين استجابوا للحق وساروا على طريقه وهم المؤمنون ، سيأتون آمنين من الفزع يوم القيامة .
قال الآلوسى : " وكان الظاهر أن يقابل الإِلقاء فى النار بدخول الجنة ، لكنه عدل عنه إلى ما فى النظم الجليل ، اعتناء بشأن المؤمنين ، لأن الأمن من العذاب أعم وأهم ، ولذا عبر عن الأول بالإلقاء الدال على القهر والقسر ، وعبر عن الثانى بالإِتيان الدال على أنه بالاختيار والرضا ، مع الأمن ودخول الجنة . . "
وقوله - تعالى - : { اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } تهديد آخر لهم على إلحادهم .
أى : اعملوا أيها المحلدون ما شئتم من أعمال قبيحة ، فإنها لا تخفى على خالقكم - عز وجل - ، لأنه بصير بكم ، ومطلع على أفعالكم ، وسيجازيكم عليها الجزاء العادل الذى تستحقونه .
فالمقصود من الأمر فى قوله - تعالى - { اعملوا } التهديد والوعيد .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيَ آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَىَ فِي النّارِ خَيْرٌ أَم مّن يَأْتِيَ آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : إنّ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا إن الذين يميلون عن الحقّ في حججنا وأدلتنا ، ويعدلون عنها تكذيبا بها وجحودا لها . وقد بيّنت فيما مضى معنى اللحد بشواهده المغنية عن إعادتها في هذا الموضع .
وسنذكر بعض اختلاف المختلفين في المراد به من معناه في هذا الموضع . اختلف أهل التأويل في المراد به من معنى الإلحاد في هذا الموضع ، فقال بعضهم : أريد به معارضة المشركين القرآن باللغط والصفير استهزاء به . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى : وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : إنّ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا قال : المُكَاء وما ذكر معه .
وقال بعضهم : أريد به الخبر عن كذبهم في آيات الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إنّ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِناقال : يكذّبون في آياتنا .
وقال آخرون : أريد به يعاندون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ إنّ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا قال : يشاقّون : يعاندون .
وقال آخرون : أريد به الكفر والشرك . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا قال : هؤلاء أهل الشرك وقال : الإلحاد : الكفر والشرك .
وقال آخرون : أريد به الخبر عن تبديلهم معاني كتاب الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا قال : هو أن يوضع الكلام على غير موضعه .
وكلّ هذه الأقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك قريبات المعاني ، وذلك أن اللحد والإلحاد : هو الميل ، وقد يكون ميلاً عن آيات الله ، وعدولاً عنها بالتكذيب بها ، ويكون بالاستهزاء مُكاء وتَصْدِية ، ويكون مفارقة لها وعنادا ، ويكون تحريفا لها وتغييرا لمعانيها .
ولا قول أولى بالصحة في ذلك مما قلنا ، وأن يعم الخبر عنهم بأنهم ألحدوا في آيات الله ، كما عمّ ذلك ربنا تبارك وتعالى .
وقوله : لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا يقول تعالى ذكره : نحن بهم عالمون لا يخفون علينا ، ونحن لهم بالمرصاد إذا وردوا علينا ، وذلك تهديد من الله جلّ ثناؤه لهم بقوله : سيعلمون عند ورودهم علينا ماذا يلقون من أليم عذابنا ، ثم أخبر جلّ ثناؤه عما هو فاعل بهم عند ورودهم عليه ، فقال : أفمَنْ يُلْقَى فِي النّار خَيْر أمْ مَنْ يأْتِي آمِنا يَوْمَ القِيَامَةِ يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين يُلحدون في آياتنا اليوم في الدنيا يوم القيامة عذاب النار ، ثم قال الله : أفهذا الذي يلقى في النار خير ، أم الذي يأتي يوم القيامة آمنا من عذاب الله لإيمانه بالله جلّ جلاله ؟ هذا الكافر ، إنه إن آمن بآيات الله ، واتبع أمر الله ونهيه ، أمّنه يوم القيامة مما حذّره منه من عقابه إن ورد عليه يومئذ به كافرا .
وقوله : اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ وهذا أيضا وعيد لهم من الله خرج مخرج الأمر ، وكذلك كان مجاهد يقول :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ قال : هذا وعيد .
وقوله : إنّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يقول جلّ ثناؤه : إن الله أيها الناس بأعمالكم التي تعملونها ذو خبرة وعلم لا يخفى عليه منها ، ولا من غيرها شيء .
هذه آية وعيد . والإلحاد : الميل ، وهو هاهنا عن الحق ، ومن الإلحاد : لحد الميت ، لأنه في جانب ، يقال لحد الرجل وألحد بمعنى .
وقرأ الجمهور : «يُلحدون » بضم الياء من ألحد . وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش : «يَلحَدون » بفتح الياء والحاء من لحد .
واختلف المفسرون في الإلحاد الذي أشير إليه ما هو ؟ فقال قتادة وغيره : الإلحاد بالتكذيب . وقال مجاهد وغيره : الإلحاد بالمكاء والصفير واللغو الذي ذهبوا إليه . وقال ابن عباس : إلحادهم هو أن يوضع الكلام غير موضعه ، ولفظة الإلحاد تعم هذا كله .
وقوله : { لا يخفون علينا } أي فنحن بالمرصاد لهم وسنعذبهم ، ثم قرر على هذين القسمين أنهما خير ، وهذا التقرير هم المراد به ، أي فقل لهم يا محمد { أفمن } . قال مقاتل : نزلت هذه الآية في أبي جهل وعثمان بن عفان ، وقيل في عمار بن ياسر ، وحسن التفضيل هنا بين الإلقاء في النار والأمن يوم القيامة وإن كانا لا يشتركان في صفة الخير من حيث كان الكلام تقريراً لا مجرد خبر ، لأن المقرر قد يقرر خصمه على قسمين : أحدهما بين الفساد حتى يرى جوابه ، فعساه يقع في الفاسد المعنى فيبين جهله ، وقد تقدم نظير هذه الآية واستيعاب القول في هذا المعنى ، ولا يتجه هنا أن يقال خاطب على معتقدهم كما يتجه ذلك في قوله : { خير مستقراً }{[10087]} فتأمله .
وقوله تعالى : { اعملوا ما شئتم } وعيد في صيغة الأمر بإجماع من أهل العلم ، ودليل الوعيد ومبينه قوله : { إنه بما تعملون بصير } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.