التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (128)

ثم ختم - سبحانه سورة التوبة ، بآيتين كريمتين ، اشتملتا على أسمى النعوت ، وأكرم الصفات للرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال - تعالى - : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ . . . وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم } .

وجمهور المفسرين على أن الخطاب في قوله - سبحانه - : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } للعرب : فهو كقوله : { هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ } أى : لقد جاءكم - يا معشر العرب - رسول كريم " من أنفسكم " أى : جنسكم ، ومن نسبكم ، فهو عربى مثلكم ، فمن الواجب عليكم أن تؤمنوا به وتطيعوه .

فالمقصود من هذه الجملة الكريمة ترغيب العرب في الإِيمان بالنبى - صلى الله عليه وسلم - وفى طاعته وتأييده ، فإن شرفهم قد تم بشرفه ، وعزهم بعزه ، وفخرهم بفخره ، وهم في الوقت نفسه قد شهدوا له في صباه بالصدق والأمانة والعفاف وطهارة النسب ، والأخلاق الحميدة .

قال القرطبى : قوله { مِّنْ أَنفُسِكُمْ } يقتضى مدحا لنسب النبى - صلى الله عليه وسلم - وأنه من صميم العرب وخالصها ، وفى صحيح مسلم " عن وائلة بن الأسقع قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى من قرش بنى هاشم ، واصطفانى من بنى هاشم " وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إنى من نكاح ولست من سفاح " .

وقال الزجاج إن الخطاب في الآية الكريمة لجميع البشر ، لعموم بثعته - صلى الله عليه وسلم - ومعنى كونه - صلى الله عليه وسلم - " من أنفسكم " إنه من جنس البشر .

ويبدو لنا أن الرأى الأول ارجح ؛ لأن الآية الكريمة ليت مسوقة لإِثبات رسالته - صلى الله عليه وسلم - وعمومها ، وإنما هي مسوقة لبيان منته وفضله - سبحانه - على العرب ، حيث أرسل خاتم أنبيائه منهم ، فمن الواجب عليهم أن يؤمنوا به ، لأنه ليس غريبا عنهم ، وإذا لم يؤمنوا به تكون الحجة عليهم ألزم ، والعقوبة لهم أعظم .

وقوله : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أى : شديد وشاق عليه عنتكم ومشقتكم ، لكونه بعضا منكم ؛ فهو يخاف عليكم سوء العاقبة ، والوقوع في العذاب .

يقال : عزَّ عليه الأمر أى صعب وشق عليه ، والعنت المشقة والتعب ومنه قولهم : أكمة عنوت ، إذا كانت شاقة مهلكة ، والفعل عنت بوزن فرح .

وقوله : { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } أى : حريص على إيمانهم وهدايتكم وعزتكم وسعادتكم في الدنيا والآخرة .

والحرص على الشئ معناه : شدة الرغبة في الحصول عليه وحفظه .

قوله : { بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } أى : شديد الرأفة والرحمة بكم - أيها المؤمنون - والرأفة عبارة عن السعى في إزالة الضرر . والرحمة عبارة عن السعى في إيصال النفع ، فهو - صلى الله عليه وسلم - يسعى بشدة في إيصال الخير والنفع للمؤمنين ، وفى إزالة كل مكروه عنهم .

قال بعضهم : لم يجمع الله - تعالى - لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبى - صلى الله عليه وسلم - فإنه قال { بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } وقال عن ذاته - سبحانه - { إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (128)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ } .

يقول تعالى ذكره للعرب : لَقَدْ جاءَكُمْ أيها القوم رَسُولٌ الله إليكم مِنْ أنْفُسِكُمْ تعرفونه لا من غيركم ، فتتهموه على أنفسكم في النصيحة لكم . عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنتّمْ : أي عزيز عليه عنتكم ، وهو دخول المشقة عليهم والمكروه والأذى . حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ يقول : حريص على هدى ضلاّلكم وتوبتهم ورجوعهم إلى الحقّ . بالمُؤْمِنِينَ رَءُؤفٌ : أي رفيق رَحِيمٌ .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، في قوله : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ قال : لم يصبه شيء من شرك في ولادته .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن جعفر بن محمد ، في قوله : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ قال : لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية . قال : وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّي خَرَجْتُ مِنْ نِكاحٍ ولَمْ أخْرُجْ مِنْ سِفاحٍ » .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، بنحوه .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ قال : جعله الله من أنفسهم ، ولا يحسدونه على ما أعطاه الله من النبوّة والكرامة .

وأما قوله : عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : ما ضللتم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا طلق بن غنام ، قال : حدثنا الحكم بن ظهير عن السديّ ، عن ابن عباس ، في قوله : عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ قال : ما ضللتم .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : عزيز عليه عنت مؤمنكم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ عزيز عليه عنت مؤمنهم .

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول ابن عباس وذلك أن الله عمّ بالخبر عن نبيّ الله أنه عزيز عليه ما عنت قومه ، ولم يخصص أهل الإيمان به ، فكان صلى الله عليه وسلم كما وصفه الله به عزيزا عليه عنت جميعهم .

فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يوصف صلى الله عليه وسلم بأنه كان عزيزا عليه عنت جميعهم وهو يقتل كفارهم ويسبي ذراريهم ويسلبهم أموالهم ؟ قيل : إن إسلامهم لو كانوا أسلموا كان أحبّ إليه من إقامتهم على كفرهم وتكذيبهم إياه حتى يستحقوا ذلك من الله ، وإنما وصفه الله جلّ ثناؤه بأنه عزيز عليه عنتهم ، لأنه كان عزيزا عليه أن يأتوا ما يعنتهم وذلك أن يضلوا فيستوجبوا العنت من الله بالقتل والسبي .

وأما «ما » التي في قوله : ما عَنِتّمْ فإنه رفع بقوله : عَزِيزٌ عَلَيْهِ لأن معنى الكلام : ما ذكرت عزيز عليه عنتكم .

وأما قوله : حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ فإن معناه : ما قد بينت ، وهو قول أهل التأويل ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ حريص على ضالهم أن يهديه الله .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ قال : حريص على من لم يسلم أن يسلم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (128)

وقوله تعالى : { لقد جاءكم } مخاطبة للعرب في قول الجمهور وهذا على جهة تعديد النعمة عليهم في ذلك ، إذ جاء بلسانهم وبما يفهمونه من الأغراض والفصاحة وشرفوا به غابر الأيام ، وقال الزجّاج : هي مخاطبة لجميع العالم ، والمعنى لقد جاءكم رسول من البشر والأول أصوب ، وقوله { من أنفسكم } يقتضي مدحاً لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب وأشرفها{[5985]} ، وينظر إلى هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم : «إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم »{[5986]} ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «إني من نكاح ولست من سفاح »{[5987]} معناه أن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام لم يكن النسل فيه إلا من من نكاح ولم يكن فيه زنى ، وقرأ عبد الله بن قسيط المكي «من أنفَسكم » بفتح الفاء من النفاسة ، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن فاطمة رضي الله عنها ، ذكر أبو عمرو أن ابن عباس رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله { ما عنتم } معناه عنتكم ف { ما } مصدرية وهي ابتداء ، و { عزيز } خبر مقدم ، ويجوز أن يكون { ما عنتم } فاعلاً ب { عزيز } و { عزيز } صفة للرسول ، وهذا أصوب من الأول{[5988]} والعنت المشقة وهي هنا لفظة عامة أي ما شق عليكم من كفر وضلال بحسب الحق ومن قتل أو أسار وامتحان بسبب الحق واعتقادكم أيضاً معه ، وقال قتادة : المعنى عنت مؤمنيكم .

قال القاضي أبو محمد : وتعميم عنت الجميع أوجه ، وقوله : { حريص عليكم } يريد على إيمانكم وهداكم ، وقوله : { رؤوف } معناه مبالغ في الشفقة ، قال أبو عبيدة : الرأفة أرق الرحمة ، وقرأ «رؤف » دون مد الأعمش وأهل الكوفة وأبو عمرو{[5989]} .


[5985]:- في جميع النسخ الأصلية جاء (وشرفها) بدون الهمزة، والمعنى يقتضي وجودها، وقد نقل أبو حيان في البحر كلام ابن عطية كما أثبتناه هنا.
[5986]:- أخرجه ابن سعد، ومسلم، والترمذي، والبيهقي في الدلائل عن واثلة بن الأسقع، وفي أوله: (إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى إسماعيل من بني كنانة) الحديث. (الدر المنثور).
[5987]:- أخرجه عبد الرزاق في المصنف، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، وأبو الشيخ عن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح). (الدر المنثور). وأخرجه ابن عدي في الكامل، والطبراني في الأوسط عن علي كرم الله وجهه بزيادة في آخره (من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، لم يصبني من سفاح الجاهلية شيء)، ورمز له الإمام السيوطي في الجامع الصغير بأنه حديث حسن.
[5988]:- فيكون المعنى على هذا: يعزّ عليه مشقتكم، كما قال الشاعر: يسرُّ المرء ما ذهب الليالي وكان ذهابهن له ذهابا أي: يسر المرء ذهاب الليالي. ويجوز أن يكون [عزيز] مبتدأ و{ما عنتم} هو الخبر وأن تكون (ما) بمعنى الذي، ذكره الحوفي، وهو إعراب دون الإعرابين السابقين كما قال أبو حيان الأندلسي في "البحر".
[5989]:-وصف الله تبارك وتعالى محمدا صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بستة أوصاف، الأولى: الرسالة وهي صفة كمال الإنسان لما احتوت عليه من كمال ذات الرسول وطهارة نفسه الزكية وأنه من الخيار بحيث صار أهلا لأن يكون واسطة بين الله وبين خلقه، ولما كانت هذه الصفة أشرف الأشياء بدأ بها. والثانية: أنه من أنفسهم، وهي صفة مؤثرة في التبليغ والفهم عنه والتآنس به، فإن كان الخطاب للعرب ففي هذه الصفة التنبيه على شرفهم والتحريض على اتباعه، وإن كان الخطاب لبني آدم ففيها التنويه بهم واللطف في إيصال الخير إليهم. والثالثة: أنه يعزّ عليه ما يشق عليهم فهذا الوصف من نتائج الرسالة ومن نتائج أنه منهم لأن من كان منك دلّك على الخير وصعب عليه إيصال ما يؤذي إليك، والرابعة: حرصه صلى الله عليه وسلم على هدايتهم، وهذه أيضا من نتائج الرسالة. والصفتان الخامسة والسادسة أنه رءوف رحيم بالمؤمنين، وهذا من نتائج التبعية له والدخول في دين الله، وصدق الله: {إنما المؤمنون إخوة}. هذا وقد قال الحسن بن الفضل: لم يجمع الله لنبي بين اسمين من أسمائه إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم، فإنه قال: {بالمؤمنين رءوف رحيم}، وقال تعالى: {إن الله بالناس لرءوف رحيم}.