وبعد أن بين - سبحانه - حكم القذف بالنسبة للمحصنات . وبالنسبة للزوجات ، أتبع - عز وجل - ذلك بإيراد مثل لما قاله المنافقون فى شأن السيدة عائشة - رضى الله عنها - . ولما كان يجب على المؤمنين أن يفعلوه فى مثل هذه الأحوال ، فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين . . . } .
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : " هذه الآيات نزلت فى شأن السيدة عائشة - رضى الله عنها - حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين ، بما قالوه من الكذب البحت ، والفرية التى غار الله - تعالى - لها ولنبيه صلى الله عليه وسلم فأنزل براءتها صيانة لعرض الرسول صلى الله عليه وسلم .
جاء فى الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه . فأقرع بيننا فى غزوة غزاها فخرج سهمى - وكان ذلك فى غزوة بنى المصطلق على الأرجح - ، فخرجت مع النبى صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعدما أُنزل الحجاب ، وأنا أُحمل فى هودج وأنزل فيه .
فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك ، وقفل ودنونا من المدينة ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل ، حتى جاوزت الجيش .
فلما قضيت من شأنى أقبلت إلى الراحلة ، فلمست صدرى ، فإذا عقد لى قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدى فاحتبسنى ابتغاؤه ، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بى ، فاحتملوا هودجى ، فرحلوه على بعيرى . وهم يحسبون أنى فيه . وكان النساء إذ ذاك خفافا ، لم يثقلهن اللحم ، فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج ، فاحتملوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ، فوجدت عقدى بعد ما سار الجيش . فجئت منزلهم ، وليس فيه أحد منهم فيممت منزلى الذى كنت فيه . وظننت أن القوم سيفقدوننى فيرجعون إلى .
فبينا أنا جالسة فى منزلى غلبتنى عيناى فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمى ، قد عرَّس - أى تأخر - من وراء الجيش ، فأصبح عند منزلى فرأى سواد إنسان نائم ، فأتانى فعرفنى حين رآنى . وقد كان يرانى قبل أن يُضْرَب علينا الحجاب .
فاستيقظت باسترجاعه حتى عرفنى . فخمرت وجهى بجلبابى ، والله ما كلمنى كلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، حين أناخ راحلته ، فوطىء على يديها فركبتها ، فانطلق يقود بى الراحلة . حتى أتينا الجيش ، بعدما نزلوا فى نحو الظهيرة . فهلك من هلك فى شأنى ، وكان الذى تولى كبره عبد الله بن أبى بن سلول . . . " .
وقد افتتحت هذه الآيات الكريمة بقوله - تعالى - : { إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ } .
والإفك : أشنع الكذب وأفحشه ، يقال أفِكَ فلان - كضرب وعلم - أَفْكاً ، أى : كذب كذبا قبيحا .
والعصبة : الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، من العصب وهو الشد ، لأن كل وأحد منها يشد الآخر ويؤازره .
أى : إن الذين قالوا ما قالوا من كذب قبيح ، وبهتان شنيع ، على السيدة عائشة - رضى الله عنها - هم جماعة ينتسبون إليكم - أيها المسلمون - بعضهم قد استزلهم الشيطان .
- كمسطح بن أثاثة - وبعضهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والنفاق - كعبد الله بن أبى بن سلول - وأتباعه .
وفى التعبير بقوله - تعالى - { عُصْبَةٌ } : إشعار بأنهم جماعة لها أهدافها الخبيثة ، التى تواطئوا عل نشرها ، وتكاتفوا على إشاعتها ، بمكر وسوء نية .
وقوله - سبحانه - : { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ . . } تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم ولأصحابه المؤمنين الصادقين ، عما أصابهم من هم وغم بسبب هذا الحديث البالغ نهاية دركات الكذب والقبح .
أى : لا تظنوا - أيها المؤمنون - أن حديث الإفك هذا هو شر لكم ، بل هو خير لكم ، لأنه كشف عن قوى الإيمان من ضعيفة . كما فضح حقيقة المنافقين وأظهر ما يضمرونه من سوء للنبى صلى الله عليه وسلم ولأهل بيته ، وللمؤمنين ، كما أنكم قد نلتم بصبركم عليه وتكذيبكم له أرفع الدرجات عند الله تعالى .
ثم بين - سبحانه - ما أعده لهؤلاء الخائضين فى حديث الإفك من عقاب فقال : { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم } .
أى لكل واحد من هؤلاء الذين اشتركوا فى إشاعة حديث الإفك العقاب الذى يستحقه بسبب ما وقع فيه من آثام ، وما اقترفه من سيئات .
وقوله - تعالى - : { والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } بيان لسوء عاقبة من تولى معظم إشاعة هذا الحديث الكاذب .
والكبر - بكسر الكاف وضمها - مصدر لمعظم الشىء وأكثره .
أى : والذى تولى معظم الخوض فى هذا الحديث الكاذب ، وحرض على إشاعته ، له عذاب عظيم لا يقادر قدره من الله - تعالى - .
والمقصود بهذا الذى تولى كبره . عبد الله بن أبى بن سلول ، رأس المنافقين وزعيمهم ، فهو الذى قاد حملته ، واضطلع بالنصيب الأكبر لإشاعته .
روى أنه لما جاء صفوان بن المعطل يقود راحلته وعليها عائشة - رضى الله عنها - قال عبد الله بن أبى لمن حوله : من هذه ؟ قالوا عائشة فقال - لعنه الله - : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها ، والله ما نجت منه وما نجا منها .
وقال ابن جرير : " والأولى بالصواب قول من قال ، الذى تولى كبره عبد الله بن أبى بن سلول ، وذلك أنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير ، وأن الذى بدأ بذكر الإفك . وكان يجمع أهله ويحدثهم به ، هو عبد الله بن ابى بن سلول " .
وقال الآلوسى : " والذى تولى كبره . . . كما فى صحيح البخارى عن الزهرى عن عروة عن عائشة : هو عبد الله بن أبى - عليه اللعنة - وقد سار على ذلك أكثر المحدثين .
أخرج الطبرانى وابن مردويه عن ابن عمر ، أنه بعد نزول هذه الآيات فى براءة السيدة عائشة دعا الرسول صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح فجمع الناس ، ثم تلاها عليهم .
ثم بعث إلى عبد الله بن أبى . فجىء به فضربه حدين ، ثم بعث إلى حسان بن ثابت ، ومسطح . وحمنة بنت جحش فضربوا ضربا وجيعا . . . وقيل إن ابن أبى لم يحد أصلا ، لأنه لم يقر ، ولم يلتزم إقامة البينة عليه تأخيرا لجزائه إلى يوم القيامة " .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لّكُمْ لِكُلّ امْرِىءٍ مّنْهُمْ مّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالّذِي تَوَلّىَ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : إن الذين جاءوا بالكذب والبُهتان عُصْبَةٌ مِنْكُمْ يقول : جماعة منكم أيها الناس . لا تَحْسَبُوهُ شَرّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يقول : لا تظنوا ما جاءوا به من الإفك شرّا لكم عند الله وعند الناس ، بل ذلك خير لكم عنده وعند المؤمنين وذلك أن الله يجعل ذلك كَفّارة للمرميّ به ، ويُظهر براءته مما رُمي به ، ويجعل له منه مخرجا . وقيل : إن الذي عَنَى الله بقوله : إنّ الّذِينَ جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ : جماعة ، منهم حسان بن ثابت ، ومِسْطَح بن أُثاثة ، وحَمْنه بنت جحش . كما :
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبان العطار ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة : أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان : كتبت إليّ تسألني في الذين جاءوا بالإفك ، وهم كما قال الله : إنّ الّذِينَ جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ، وأنه لم يُسَمّ منهم أحد إلا حسان بن ثابت ، ومِسْطَح بن أُثاثة ، وحَمْنة بنت جَحْش ، وهو يقال في آخرين لا علم لي بهم غير أنهم عصبة كما قال الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ هم أصحاب عائشة . قال ابن جُرَيج : قال ابن عباس : قوله : جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ . . . الآية ، الذين افْتَروا على عائشة : عبد الله بن أُبَيّ ، وهو الذي تولى كِبْره ، وحسان بن ثابت ، ومِسْطَح ، وحَمْنة بنت جحش .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : الّذِينَ جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ الذين قالوا لعائشة الإفك والبهتان .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّ الّذِينَ جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّا لَكُمْ ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ قال : الشرّ لكم بالإفك الذي قالوا ، الذي تكلّموا به ، كان شرّا لهم ، وكان فيهم من لم يقله إنما سمعه ، فعاتبهم الله ، فقال أوّلَ شيء : إنّ الّذِينَ جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّا لَكُمْ ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ثم قال : والّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ .
وقوله : لِكُلّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ ما اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ يقول : لكلّ امرىء من الذين جاءوا بالإفك جزاء ما اجترم من الإثم ، بمجيئه بما جاء به ، من الأولى عبد الله . وقوله : وَالّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ يقول : والذي تحمل معظم ذلك الإثم والإفك منهم هو الذي بدأ بالخوض فيه . كما :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَالّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ يقول : الذي بدأ بذلك .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : عُصْبَةٌ مِنْكُمْ قال : أصحاب عائشة عبد الله بن أبيّ ابن سَلُول ، ومِسْطَح ، وحَسّان .
قال أبو جعفر : له من الله عذاب عظيم يوم القيامة .
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله : كِبْرَهُ فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار : كِبْرَهُ بكسر الكاف ، سوى حميد الأعرج فإنه كان يقرؤه : «كُبْرَهُ » بمعنى : والذي تحمل أكبره .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب : القراءة التي عليها عوامّ القرّاء ، وهي كسر الكاف ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها ، وأن الكِبْر بالكسر : مصدر الكبير من الأمور ، وأن الكُبْر بضم الكاف : إنما هو من الولاء والنسب ، من قولهم : هو كُبْر قومه والكِبْر في هذا الموضع : هو ما وصفناه من معظم الإثم والإفك . فإذا كان ذلك كذلك ، فالكسر في كافة هو الكلام الفصيح دون ضمها ، وإن كان لضمها وجه مفهوم .
وقد اختلف أهل التأويل في المعنىّ بقوله : وَالّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ . . . الآية ، فقال بعضهم : هو حسان بن ثابت . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن قزعة ، قال : حدثنا مسلمة بن علقمة ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، أن عائشة قالت : ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسان ، وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة ، قوله لأبي سفيان :
هَجَوْتَ مُحَمّدًا فَأجَبْتُ عَنْهُ *** وَعِنْدَ اللّهِ فِي ذَاكَ الجَزاءُ
فإنّ أبي وَوَالِدهُ وَعِرْضِي *** لِعِرْضِ مُحَمّدٌ مِنْكُمْ وِقاءُ
أتَشْتُمُهُ وَلَسْتَ لَهُ بكُفْءٍ *** فَشَرّكُما لخَيْرِكُما الفِداءُ
لِسانِي صَارِمٌ لا عَيْبَ فِيهِ *** وبَحْرِي لا تُكَدّرهُ الدّلاءُ
فقيل : يا أمّ المؤمنين ، أليس هذا لغوا ؟ قالت لا ، إنما اللّغو ما قيل عند النساء . قيل : أليس الله يقول : وَالّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ قالت : أليس قد أصابه عذاب عظيم ؟ أليس قد ذهب بصره وكُنّع بالسيف ؟ .
قال : حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : كنت عند عائشة ، فدخل حسان بن ثابت ، فأمرت ، فأُلقي له وسادة فلما خرج قلت لعائشة : ما تصنعين بهذا وقد قال الله ما قال ؟ فقالت : قال الله : وَالّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ وقد ذهب بصره ، ولعلّ الله يجعل ذلك العذاب العظيم ذهاب بصره .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، قال : دخل حسان بن ثابت على عائشة ، فشبّب بأبيات له ، فقال :
*** وَتُصْبِح غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الغَوَافِلِ ***
فقالت عائشة : أما إنك لست كذلك فقلت : تدعين هذا الرجل يدخل عليك وقد أنزل الله فيه : وَالّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ . . . الآية ؟ فقالت : وأيّ عذاب أشدّ من العمى وقالت : إنه كان يدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن عثمان الواسطي ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، عن المُعَلّى بن عرفان ، عن محمد بن عبد الله بن جحش ، قال : تفاخرت عائشة وزينب ، قال : فقالت زينب : أنا التي نزل تزويجِي من السماء . قال : وقالت عائشة : أنا التي نزل عذري في كتابه حين حملني ابن المعَطّل على الراحلة . فقالت لها زينب : يا عائشة ، ما قلت حين ركبتيها ؟ قالت : قلت : حسبي الله ونعم الوكيل قالت قلتِ كلمةَ المؤمنين .
وقال آخرون : هو عبد الله بن أُبيّ ابن سَلُول . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : كان الذين تكلموا فيه : المنافق عبد الله بن أُبيّ ابن سَلول ، وكان يستوشيه ويجمعه ، وهو الذي تولى كِبْره ، ومِسْطَحا ، وحسان بن ثابت .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا محمدبن عمرو ، قال : حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن علقمة بن وقّاص وغيره أيضا ، قالوا : قالت عائشة : كان الذي تولى كبره الذي يجمعهم في بيته ، عبد الله بن أُبيّ ابن سَلُول .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن شهاب ، قال : ثني عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عتبة ، عن عائشة ، قالت : كان الذي تولى كبره : عبد الله بن أُبيّ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : إنّ الّذِينَ جاءُوا . . . الآية ، ، الذين افْتَرَوا على عائشة : عبد الله بن أُبيّ ، وهو الذي تولى كِبْره ، وحسان ، ومِسْطَح ، وحَمْنه بنت جحش .
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبان العطار ، قال : حدثنا هشام بن عروة في الذين جاءوا بالإفك : يزعمون أنه كان كِبْرُ ذلك عبدَ الله بن أبيّ ابن سلول ، أحد بني عوف بن الخرزج وأخبرت أنه كان يحدّث به عنهم فيقرّه ويسمعه ويستوشيه .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أما الذي تولى كبره منهم ، فعبد الله بن أُبيّ ابن سلول الخبيث ، هو الذي ابتدأ هذا الكلام ، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ، ثم جاء يقود بها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : والذي تولى كِبْره هو عبد الله بن أُبيّ ابن سلول ، وهو بدأه .
وأولى القولين في ذلك بالصواب : قول من قال : الذي تولى كِبْره من عصبة الإفك ، كان عبد الله بن أبيّ ، وذلك أنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير ، أن الذي بدأ بذكر الإفك ، وكان يجمع أهله ويحدثهم ، عبدُ الله بن أُبيّ ابن سَلُول ، وفعله ذلك على ما وصفت كان توليه كِبْر ذلك الأمر . وكان سبب مجيء أهل الإفك ، ما :
حدّثنا به ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب ، ثني عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقّاص ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن حديث عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، فبرأها الله ، وكلهم حدثني طائفة من حديثها ، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض ، وأثبت اقتصاصا ، وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة ، وبعض حديثهم يصدق بعضا :
زعموا أن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها . قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزاة غزاها ، فخرج سهمي ، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعد ما أَنْزِل الحجاب ، وأنا أُحْمَل في هودجي وأنزل فيه . فسرنا ، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل إلى المدينة ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل ، فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني ، أقبلت إلى الرحل ، فلمست صدري ، فإذا عِقْدٌ لي من جَزْع ظَفَارِ قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي ، فحبسني ابتغاؤه . وأقبل الرهط الذين كانوا يرْحَلون لي ، فاحتملوا هو دجي ، فَرَحلوه على بعيري الذي كنت أركب ، وهم يحسبون أني فيه . قالت : وكانت النساء إذ ذاك خِفافا لم يُهَبّلْهُن ولم يَغْشَهن اللحم ، إنما يأكلن العُلْقة من الطعام . فلم يستنكر القوم ثقلَ الهودج حين رَحَلُوه ورفعوه ، وكنت جارية حديثة السنّ ، فبعثوا الجمل وساروا ، فوجدت عَقْدي بعد ما استمرّ الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب . فتيممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أن القوم سيفقدوني ويرجعون إليّ . فبينا أنا جالسة في منزلي ، غلبتني عيني ، فنمت حتى أصبحت . وكان صفوان بن المعطّل السّلميّ ثم الذّكْوانيّ ، قد عَرّس من وراء الجيش ، فادّلَج فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني ، فعرفني حين رآني ، وكان يراني قبل أن يُضرب الحجاب عَلَيّ ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخَمّرت وجهي بجلبابي ، والله ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته ، فوطِىء على يديها فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة ، حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا مُوغِرِينَ في نحر الظهيرة . فهلك من هلك في شأني ، وكان الذي تولى كِبْره عبد الله بن أُبيّ ابن سلول .
فقدمنا المدينة ، فاشتكيت شهرا ، والناس يُفِيضُون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يَرِيبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللّطْف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل فيسلم ثم يقول : «كيف تيكم ؟ » فذلك يريبني ، ولا أشعر بالشرّ . حتى خرجت بعد ما نَقَهت ، فخرجت مع أمّ مِسْطَح قبَلَ المَنَاصع ، وهو مُتَبرّزنا ، ولا نخرج إلا ليلاً إلى ليل ، وذلك قَبل أن نتخذ الكُنُف قريبا من بيوتنا ، وأَمْرُنا أمر العرب الأُوَل في التنزّه ، وكنا نتأذّى بالكُنُف أن نتخذها عند بيوتنا . فانطلقت أنا وأمّ مسطح ، وهي ابنة أبي رُهْم بن عبد المطلب بن عبد مناف ، وأمها ابنة صخر بن عامر ، خالة أبي بكر الصدّيق ، وابنها مِسْطَحْ بن أُثاثة بن عباد بن المطّلب . فأقبلت أنا وابنة أبي رُهْم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أمّ مِسْطَح في مِرْطِها ، أوَ لم تسمعي ماقال ؟ وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مَرَضا على مرضي . فلما رجعت إلى منزلي ، ودخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : «كَيْفَ تِيكُمْ ؟ » فقلت : أتأذن لي أن آتيَ أبويّ ؟ قال : «نعم » . قالت : وأنا حينئذٍ أريد أن أستثبت الخبر من قِبَلهما . فأذِن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجئت أبويّ ، فقلت لأمي : أي أمتاه ، ماذا يتحدّث الناس ؟ فقالت : أي بُنية ، هوّني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر ، إلا أكثرن عليها . قالت : قلت : سبحان الله ، أَوَ قد تحدّث الناس بهذا وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم ، فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت ، فدخل عليّ أبو بكر وأنا أبكي ، فقال لأمي : مايبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها . فأكبّ يَبْكي ، فبكى ساعة ، ثم قال : اسكتي يا بنية فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم بكيت ليلى المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، حتى ظنّ أبواي أن البكاء سيفلق كبدي .
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب وأُسامة بن زيد ، حين استْلَبث الوحي ، يستشيرهما في فراق أهله قالت : فأما أُسامة ، فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الودّ ، فقال : يا رسول الله ، هم أهلك ، ولا نعلم إلا خيرا . وأما عليّ فقال : لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية تَصْدُقك ، يعني بَرِيرة . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بَرِيرة ، فقال : «هَلْ رأيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ مِنْ عائِشَةَ ؟ » قالت له بَرِيرة : والذي بعثك بالحقّ ، ما رأيت عليها أمرا قطّ أَغْمِصْه عليها ، أكثرَ من أنها حديثة السنّ تنام عن عجين أهلها فتأتى الداجن فتأكله فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : «مَنْ يَعْذِرُنِي مِمنْ قَدْ بَلَغْنِي أذَاهُ فِي أهْلِي ؟ » يعني عبدَ الله بن أُبي ابن سَلُول . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر أيضا : «يا مَعْشَرَ المُسْلَمِينَ ، مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَني أذَاهُ فِي أهْلي ؟ فَوَاللّهِ ما عَلمْتُ عَلى أهْلي إلاّ خَيْرا ، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً ما عَلمْتُ عَلَيْهِ إلاّ خَيْرا ، وَما كانَ يَدْخُلُ عَلى أهْلي إلاّ مَعي » فقام سعد بن مُعاذ الأنصاريّ ، فقال : أنا أعذِرك منه يا رسول الله ، إن كان من الأوس ضربنا عُنُقه ، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك . فقام سعد بن عُبادة ، فقال ، وهو سيد الخزرج ، وكان رجلاً صالحا ، ولكن احتملَتْه الحَمِيّة ، فقال : أَيْ سعدَ بن معاذ ، فقال لسعد بن عُبادة : كذبت ، لعمر الله لنقتلّنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين فثار الحيان : الأوس والخزرج ، حتى هموا أن يقتتلوا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخَفّضُهم حتى سكتوا . ثم أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في بيت أبويّ ، فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي ، استأذنتْ عليّ امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي معي قالت : فبينا نحن على ذلك ، دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جلس عندي ، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل ، وقد لبث شهرا لا يوحَى إليه في شأني بشيء قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ، ثم قال : «أمّا بَعْدُ يا عائشَةُ فإنّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وكَذا ، فإنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرّئُكِ اللّهُ ، وَإنْ كُنْتِ ألمَمْتِ بِذَنْبٍ ، فاسْتَغْفِرِي اللّهَ ، وَتُوبِي إلَيْهِ ، فإنّ العَبْدَ إذَا اعْتَرَف بَذَنْبِهِ ثُمّ تابَ تابَ اللّه عَلَيْهِ » . فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته ، قَلَص دمعي ، حتى ما أحسّ منه دمعة قلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت وأنا جارية حديثة السنّ لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله لقد عرفت أنْ قد سمعتم بهذا ، حتى استقرّ في أنفسكم ، حتى كِدْتم أن تصدّقوا به ، فإن قلت لكم : إني بريئة والله يعلم أني برئة ، لا تصدّقوني بذلك ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة ، لتصدّقُنّي ، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف : وَاللّهُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ .
ثم تولّيت واضطجعت على فراشي ، وأنا والله أعلم أني بريئة وأن الله سيبرّئني ببراءتي ، ولكني والله ما كنت أظنّ أن ينزل في شأني وحْي يُتلى ، ولَشأني كان أحقَر في نفسي من أن يتكلّم الله فيّ بأمر يُتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام رؤيا يبرّئني الله بها . قالت : والله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج من البيت أحد حتى أنزل الله على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحاء عند الوحي ، حتى إنه ليتحدّر منه مثلُ الجُمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي أُنزل عليه . قالت : فلما سُرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ، كان أوّل كلمة تكلم بها أن قال : «أبْشِرِي يا عائِشةُ ، إنّ اللّهَ قَدْ بَرّأكِ » فقالت لي أمي ، قومي إليه فقلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله ، هو الذي أنزل براءتي . فأنزل الله : إنّ الّذِينَ جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ عشر آيات ، فأنزل هذه الاَيات براءة لي . قالت : فقال أبو بكر ، وكان ينفق على مِسْطَح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة قالت : فأنزل الله : وَلا يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ والسّعَةِ حتى بلغ : غَفُورٌ رَحِيمٌ فقال أبو بكر : إني لأحبّ أن يغفر الله لي . فرجع إلى مِسْطَح النفقةَ التي كان يُنفق عليه ، وقال : لا أنزعها منه أبدا .
قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري وما رأت وما سمعت ، فقالت : يا رسول الله ، أحمي سمعي وبصري ، والله ما رأيت إلا خيرا . قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني ، فعصمها الله بالوَرَع ، وطفقت أختها حَمْنة تحارب فهلكت فيمن هلك .
قال الزهريّ بن شهاب : هذا الذي انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهريّ ، وعن علقمة بن وقّاص الليثيّ ، عن سعيد بن المسيب ، وعن عروة بن الزبير ، وعن عبيد الله بن عتبة بن مسعود . قال الزهريّ : كلّ قد حدثني بعض هذا الحديث ، وبعض القوم كان له أوعى من بعض . قال : وقد جمعت لك كل الذي قد حدثني . وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة قال : وثني محمد بن إسحاق ، قال : حدثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن عائشة . قال : ثني عبد الله بن بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ ، عن عَمْرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة قالت وكل قد اجتمع في حديثه قصة خبر عائشة عن نفسها ، حين قال أهل الإفك فيها ما قالوا ، وكله قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعا ، ويحدث بعضهم ما لم يحدث بعض ، وكلّ كان عنها ثقة ، وكلّ قد حدث عنها ما سمع .
قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأَيتهُنّ خرج سهمها خرج بها معه . فلما كانت غزاة بني المصطَلِق ، أقرع بين نسائه كما كان يصنع ، فخرج سهمي عليهنّ ، فخرج بي رسول الله صلى الله عليه وسلم معه . قالت : وكان النساء إذ ذاك إنما يأكلن العُلَق لم يهيّجْهُنّ اللحم فيثقلن . قالت : وكنت إذا رحل بعيري جلست في هَوْدَجي ، ثم يأتي القوم الذين يرحلون بي بعيري ويحملوني ، فيأخذون بأسفل الهودج يرفعونه فيضعونه على ظهر البعير ، فينطلقون به . قالت : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك وجّه قافلاً ، حتى إذا كان قريبا من المدينة ، نزل منزلاً فبات بعض الليل ، ثم أذّن في الناس بالرحيل . فلما ارتحل الناس ، خرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقد لي من جَزْعَ ظَفارِ ، فلما فرغت انسلّ من عنقي وما أدري فلما رجعت إلى الرحْل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده ، وقد أخذ الناس في الرحيل . قالت : فرجعت عَوْدِي إلى بَدْئِي ، إلى المكان الذي ذهبت إليه ، فالتمسته حتى وجدته وجاء القوم خلافي الذين كانوا يرحلون بي البعير .
ثم ذكر نحو حديث ابن عبد الأعلى ، عن ابن ثور .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : لما ذكر من شأني الذي ذكر وما علمت به ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا وما علمت ، فتشهد ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : «أمّا بَعْدُ أشِيرُوا عَليّ فِي أُناسٍ أبَنُوا أهْلِي وَاللْهِ ما عَلِمْتُ عَلى أهْلِي سُوءًا قَطّ ، وأبَنُوهُمْ بِمَنْ وَاللّهِ ما عَلِمْتُ عَلَيْهِ سُوءا قَطّ ، وَلا دَخَلَ بَيْتِي قَطّ إلاّ وأنا حاضِرٌ ، وَلا أغِيبُ فِي سَفَرٍ إلاّ غابَ مَعِي » فقام سعد بن مُعاذ فقال : يا رسول الله ، نرى أن نضرب أعناقهم فقام رجل من الخزرج ، وكانت أمّ حسان بن ثابت من رهط ذلك الرجل ، فقال كذبتَ ، أما والله لو كانوا من الأوس ما أحببت أن تضرب أعناقهم حتى كاد أن يكون بين الأوس والخزرج في المسجد شرّ وما علمتُ به . فلما كان مساء ذلك اليوم ، خرجت لبعض حاجتي ومعى أمّ مِسْطح ، فعثرت ، فقالت : تَعَس مِسْطح فقلت علام تسبين ابنك ؟ فسكتت ، ثم عثرت الثانية ، فقالت : تَعَس مسطح قلت : علام تسبين ابنك ؟ فسكتت الثانية . ثم عثرت الثالثة ، فقالت : تَعَس مسطح فانتهرتها ، فقلت : وقد كان هذا ؟ قالت : نعم والله . قالت : فرجعت إلى بيتي فكأن الذي خرجت له لم أخرج له ، ولا أجد منه قليلاً ولا كثيرا . ووُعِكْت ، فقلت : يا رسول الله ، أرسلني إلى بيت أبي فأرسل معي الغلام ، فدخلت الدار فإذا أنا بأمي أمّ رومان ، قالت : ما جاء بك يا بُنية ؟ فأخبرتها ، فقالت : خَفّضي عليك الشأن ، فإنه والله ما كانت امرأة جميلة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا حسدنها وقلن فيها . قلت : وقد علم بها أبي ؟ قالت : نعم . قلت : ورسول الله ؟ قالت : نعم . فاستعبرت وبكيت ، فسمع أبو بكر صوتي وهو فوق البيت يقرأ ، فنزل فقال لأمي : ما شأنها ؟ قالت : بلغها الذي ذُكر من أمرها . ففاضت عيناه ، فقال : أقسمت عليك إلاّ رَجَعْت إلى بيتك فرجعت .
فأصبح أبواي عندي ، فلم يزالا عندي حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بعد العصر ، وقد اكتنفني أبواي ، عن يميني وعن شمالي ، فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : «أمّا بَعْدُ يا عائِشَةُ ، إنْ كُنْتِ قارَفْتِ سُوءا أوْ ألَمَمْتِ فَتُوبِي إلى اللّهِ ، فإنّ اللّهَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ » . وقد جاءت امرأة من الأنصار وهي جالسة ، فقلت : ألا تستحي من هذه المرأة أن تقول شيئا ؟ فقلت لأبي : أجبه فقال : أقول ماذا ؟ قلت لأمي : أجيبيه فقالت : أقول ماذا ؟ فلما لم يجيباه تشّهدت فحمدت الله وأثنيت عليه بما هو أهله ، ثم قلت : أما بعد ، فوالله لئن قلت لكم إني لم أفعل ، والله يعلم إني لصادقة ما ذا بنافعي عندكم ، لقد تُكُلّم به وأُشْرِبته قلوبكم وإن قلت إني قد فعلت والله يعلم أني لم أفعل لَتقولُنّ قد باءت به على نفسها ، وأيمُ الله مَا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف وما أحفظ اسمه : فَصَبْرٌ جَميلٌ وَاللّهُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ . وأنزل الله على رسوله ساعتئذٍ ، فُرفع عنه ، وإني لأتبين السرور في وجهه وهو يمسح جبينه يقول : «أبْشِرِي يا عائِشَةُ ، فَقَدْ أنْزَلَ اللّهُ بَرَاءَتَكِ » فكنت أشدّ ما كنت غضبا ، فقال لي أبواي : قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمده ولا أحمدكما ، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه ، ولكني أحمد الله الذي أنزل براءتي . ولقد جاء رسول الله بيتي ، فسأل الجارية عني ، فقالت : والله ما أعلم عليها عيبا إلا أنها كانت تنام حتى كانت تدخل الشاة فتأكل حصيرها أو عجينها ، فانتهرها بعض أصحابه ، وقال لها : اصْدُقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عروة : فعَتب على من قاله ، فقال : لا ، والله ما أعلم عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر . وبلغ ذلك الرجل الذي قيل له ، فقال : سبحان الله ما كشفت كَنَف أنثى قطّ . فقتل شهيدا في سبيل الله . قالت عائشة : فأما زينب بنت جحش ، فعصمها الله بدينها ، فلم تقل إلا خيرا وأما حَمْنة أختها ، فهلكت فيمن هلك . وكان الذين تكلموا فيه : المنافقَ عبد الله بن أُبيّ ابن سلول ، وكان يستوشيه ويجمعه ، وهو الذي تولى كِبْره ، ومِسْطحا ، وحسانَ بن ثابت ، فحلف أبو بكر أن لا ينفع مِسْطَحا بنافعة ، فأنزل الله : وَلا يَأَتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ والسّعَةِ يعني أبا بكر ، أنْ يُؤْتُوا أُولي القُرْبَى وَالمَساكِينَ يعني مِسْطحا ، ألا تَحِبّونَ أنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ وَاللّهِ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال أبو بكر : بلى والله ، إنا لنحبّ أن يغفر الله لنا وعاد أبو بكر لِمْسطَح بما كان يصنع به .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن علقمة بن وقاص وغيره أيضا ، قال : خرجت عائشة تريد المَذْهب ، ومعها أمّ مسطح . وكان مِسطح بن أثاثة ممن قال ما قال . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس قبل ذلك ، فقال : «كَيْفَ تَرَوْنَ فِيمَنْ يُؤْذِينِي فِي أهْلِي وَيجْمَعُ فِي بَيْتِهِ مَنْ يُؤْذِينِي ؟ » فقال سعد بن مُعاذ : أي رسول الله ، إن كان منا معشرَ الأوس جلدنا رأسه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج ، أمرتنا فأطعناك . فقال سعد بن عبادة : يا ابن معاذ ، والله ما بك نُصْرة رسول الله ، ولكنها قد كانت ضغائن في الجاهلية وإحن لم تحلل لنا من صدوركم بعد فقال ابن معاذ : الله أعلم ما أردت . فقام أُسَيد بن حُضَير ، فقال : يا ابن عبادة ، إن سعدا ليس شديدا ، ولكنك تجادل عن المنافقين وتدفع عنهم . وكثر اللّغَط في الحيين في المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على المنبر ، فما زال النبيّ صلى الله عليه وسلم يومىء بيده إلى الناس ههنا وههنا ، حتى هدأ الصوت .
وقالت عائشة : كان الذي تولى كِبْره ، والذي يجمعهم في بيته ، عبد الله بن أُبّي ابن سلول . قالت : فخرجت إلى المَذْهَب ومعي أمّ مسطح ، فعثرتْ ، فقالتْ : تَعَس مِسْطح فقلت : غفر الله لك ، أتقولين هذا لابنك ولصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت ذلك مرّتين ، وما شعرت بالذي كان . فحُدثت ، فذهب عنى الذي خرجت له ، حتى ما أجد منه شيئا . ورجعت على أبويّ أبي بكر وأمّ رُومان ، فقلت : أما اتقيتما الله فيّ وما وصلتما رحمي ؟ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي قال ، وتحدّث الناس بالذي تحدثوا به ولم تُعْلِماني فأُخْبِر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : أي بنية ، والله لقلما أحبّ رجل قطّ امرأته إلا قالوا لها نحو الذي قالوا لك أي بنية ارجعي إلى بيتك حتى نأتَيك فيه فرجعت وارتكبني صالِبٌ من حُمّى ، فجاء أبواي فدخلا ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس على سريري وُجاهي ، فقالا : أي بينة ، إن كنت صنعت ما قال الناس فاستغفري الله ، وإن لم تكوني صنعتيه فأخبرني رسول الله بعذرك قلت : ما أجد لي ولكم إلا كأبي يوسف فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ . قالت : فالتمست اسم يعقوب ، فما قدرت ، أو فلم أقدر عليه . فشخص بصر رسول الله إلى السقف ، وكان إذا نَزَل عليه وَجَد ، قال الله : إنّا سَنُلْقي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً فوالذي هو أكرمه وأنزل عليه الكتاب ، ما زال يضحك حتى إني لأنظر إلى نواجذه سرورا ، ثم مسح عن وجهه ، فقال : «يا عائِشَةُ أبْشِرِي ، قَدْ أنْزَلَ اللّهُ عُذْرَكِ » قلت : بحمد الله لا بحمدك ولا بحمد أصحابك . قال الله : إنّ الّذِينَ جاءُوا بالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ . . . حتى بلغ : وَلا يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعَةِ . وكان أبو بكر حلف أن لا ينفع مسطحا بنافعة ، وكان بينهما رَحم ، فلما أنزلت : وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ . . . حتى بلغ : وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال أبو بكر : بلى ، أي ربّ فعاد إلى الذي كان لمسطح إن الّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ . . . حتى بلغ : أُولَئِكَ مُبَرّءُونَ مِمّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم . قالت عائشة : والله ما كنت أرجو أن ينزل فيّ كتاب ولا أطمع به ، ولكن أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا تُذْهب ما في نفسه . قالت : وسأل الجارية الحَبَشية ، فقالت : والله لعائشة أطيب من طيب الذهب ، وما بها عيب إلا أنها ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل عجينها ، ولئن كانت صنعت ما قال الناس ليخبرنّك الله قال : فعجب الناس من فقهها .
{ إن الذين جاءوا بالإفك } بأبلغ ما يكون من الكذب من الإفك ، وهو الصرف لأنه قول مأفوك عن وجهه ، والمراد ما أفك به على عائشة رضي الله تعالى عنها . وذلك أنه عليه الصلاة والسلام استصحبها في بعض الغزوات فأذن ليلة في القفول بالرحيل ، فمشت لقضاء حاجة ثم عادت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت لتلتمسه فظن الذي كان يرحلها أنها دخلت الهودج فرحله على مطيتها وسار ، فلما عادت إلى منزلها لم تجد ثمة أحدا فجلست كي يرجع إليها منشد ، وكان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه قد عرس وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلها فعرفها فأناخ راحلته فركبتها فقادها حتى أتيا الجيش فاتهمت به . { عصبة منكم } جماعة منكم وهي من العشرة إلى الأربعين وكذلك العصابة ، يريد عبد اله بن أبي ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم ، وهي خبر إن وقوله : { لا تحسبوه شرا لكم } مستأنف والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعائشة وصفوان رضي اله تعالى عنهم والهاء للإفك . { بل هو خير لكم } لاكتسابكم به الثواب العظيم وظهور كرامتكم على الله بإنزال ثماني عشرة آية في براءتكم ، وتعظيم شأنكم وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم والثناء على من ظن بكم خيرا . { لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم } لكل جزاء ما اكتسب بقدر ما خاض فيه مختصا به . { والذي تولى كبره } معظمه وقرأ يعقوب بالضم وهو لغة فيه . { منهم } من الخائضين وهو ابن أبي فإنه بدأ به وأذاعه عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو هو وحسان ومسطح فإنهما شايعاه بالتصريح به { والذي } بمعنى الذين . { له عذاب عظيم } في الآخرة أو في الدنيا بأن جلدوا وصار ابن أبي مطرودا مشهورا بالنفاق ، وحسان أعمى أشل اليدين ، ومسطح مكفوف البصر .