الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{۞إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلۡفُقَرَآءِ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡعَٰمِلِينَ عَلَيۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۖ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (60)

وقوله سبحانه : { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاءِ } [ التوبة : 60 ] .

{ إِنَّمَا } في هذه الآيةِ حاصرةٌ تقتضي وقوفَ الصَدقاتِ على الثمانيةِ الأصناف ، وإِنما أُخْتُلِفَ في صُورَة القِسْمَةِ ، ومَذْهَب مالكٍ وغيره ؛ أَنَّ ذَلِكَ عَلى قَدْر الاجتهاد ، وبحسب الحاجة ، وأما الفقيرُ والمِسْكين ، فقال ابن عبَّاس والحسن ومجاهدٌ والزُّهْرِيُّ وابن زَيْد وغيرهم : المَسَاكِينُ : الذين يَسْعَوْنَ وَيَسْأَلُونَ ، والفقراء : الذين يتصَاوَنُون ، وهذا القولُ أحسنُ ما قيل في هذا ، وتحريره أن الفقيرَ هو الذي لا مَالَ له إِلا أنه لم يذلَّ نفسه ، ولا يذلُّ وجهه ؛ وذلك إِما لتعفُّفٍ مُفْرِطٍ ، وإِما لِبُلغَةٍ تكون له ، كالحَلُوبة وما أشبهها ، والمسكينُ هو الذي يقترن بفقره تذلُّل وخضوعٌ وسؤالٌ ، فهذه هي المَسْكَنَة ؛ ويقوِّي هذا أن اللَّه سبحانه قد وَصَف بني إِسرائيل بالمَسْكَنة ، وقَرَنها بالذِّلَّة مع غناهم ، وإِذا تأمَّلت ما قلناه ، بَانَ أنهما صِنْفان موجُودَان في المسلمين .

( ت ) : وقد أكْثر الناس في الفَرْق بين الفَقِير والمِسْكِين ، وأوْلَى ما يعوَّل عليه ما ثَبَتَ في ذلك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وقد رَوَى مالكٌ ، عن أبي الزِّنَادِ عن الأعرج عن أبي هريرة ؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لَيْسَ المِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ ، إِنَّمَا المِسْكِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غِنًى يُغْنِيهِ ، وَلاَ يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ ، وَلاَ يَقُومُ فَيَسْأَلَ النَّاسَ ) ، انتهى . وأوَّل أبو عمر في «التمهيد » هذا الحديثَ ، فقال : كأنه أراد واللَّه أعلم ليس المسكينُ على تمامِ المَسْكَنة ، وعلى الحقيقة إِلا الذي لا يَسْأَلُ النَّاس . انتهى .

وأَمَّا العاملون : فهم جُبَاتها يستنيبهم الإِمامُ في السعْي على الناس ، وجَمْعِ صَدَقَاتهم ، قال الجُمْهور : لَهُمْ قَدْر تعبهم ومؤونتهم ، وأما { المؤلفة قُلُوبُهُمْ } ، فكانوا مُسْلِمين وكافرينَ مستَتِرِينَ مُظْهرين للإِسلام ؛ حتى وثَّقه الاستئلاف في أكثرهم ، واستئلافهم إِنما كان لِتُجْلَبَ إلى الإِسلام مَنْفَعة ، أو تُدْفَعَ عنه مَضَرَّة ، والصحيحُ بَقَاءُ حكمهم ؛ إِن احتيج إِليهم ، وأَما { الرقاب } ، فمذْهَبُ مالك وغيره هو ابتداء عِتْق مؤْمِن ، وأما الغَارِمُ : فهو الرجُلُ يرْكَبه دَيْن في غير مَعْصِيَة ولا سَفَه ، كذا قال العلماء ، وأما { فِي سَبِيلِ الله } ، فهو الغازِي ، وإِن كانَ مَلِيًّا ببَلَده ، وأمَّا { ابن السبيل } ، فهو المسافِرُ ، وإِن كان غنيًّا ببلده ، وسمي المُسَافِرِ ابْنَ السبيلِ لملازمته السبيلِ .

ومَنِ ادعى الفقْر صُدِّق إِلاَّ لريبة ؛ فيكلَّف حينئذٍ البيِّنة ، وأمَّا إِن ادعى أنه غارمٌ أو ابن السبيل أو غازٍ ، ونحو ذلك مما لا يُعْلَم إِلا منه ، فلا يعطَى إِلا ببينة ، وأهلُ بلد الصَّدقة أَحقُّ بها إِلا أن تَفْضُل فضلةٌ ، فتنقل إِلى غيرهم .

قال ابنُ حَبِيب : وينبغي للإِمام أن يأمِر السُّعَاة بتَفْريقها في المواضِعِ التي جُبِيَتْ فيها ، ولا يحمل منها شيْءٌ إِلى الإِمام ، وفي الحديثِ : ( تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ) .

وقوله سبحانه : { فَرِيضَةً مِّنَ الله } : أي : موجبةً محدودةً .