فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَوَرِثَ سُلَيۡمَٰنُ دَاوُۥدَۖ وَقَالَ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّيۡرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيۡءٍۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡمُبِينُ} (16)

{ ولقد آتينا داوود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين15 وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين16 وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون17 حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون18 فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين19 }

أعطى المولى الكريم الوهاب داود وسليمان- عبديه ورسوليه- علما كثيرا عظيما ، علم السماء فيما تنزل عليهما من وحي الله العليم وكلماته- وما أقدس هذا العلم وأصدقه- وعلم قيادة النفوس وتدبير شئون الحكم والسلطان والملك كالذي امتن الله تعالى عليهما به في قوله- تبارك اسمه- : ) . . وكلا آتينا حكما وعلما . . ( {[2835]} ، كما علم- سبحانه- داود الصناعة الثقيلة والحربية : )وعلمناه صنعة لبوس{[2836]}لكم لتحصنكم{[2837]}من بأسكم{[2838]} . . ( {[2839]} )أن اعمل سابغات وقدر في السرد . . ( {[2840]} ، وحمدا الله المنعم وشكراه أن فضلهما بما آتاهما{[2841]}على كثير من العباد المؤمنين ، وإنها لعبرة ألا يشغل العطاء مهما تعاظم عن الثناء على الوهاب- جل ثناؤه- فهذان الرسولان الملكان العالمان الحكيمان لم يزدهما الإنعام إلا خضوعا للكبير المتعال ، شديد المحال ، ذي العزة والجلال ، وأورث الله تعالى سليمان النبوة بعد أبيه )ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب( {[2842]} وتحدث بآلاء الله عليه ، وما علمه مع علم النبوة والسياسة من فهم لغة الطير والهوام والجن ، كما منحه العزيز الوهاب ملكا لا يناله أحد من العالمين ، أليس فضلا مبينا أن يملكه القوي القدير عتاة الجن ومردتهم ؟ : ) . . ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير . يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات . . ( {[2843]} )والشياطين كل بناء وغواص . وآخرين مقرنين في الأصفاد( {[2844]} ) ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين( {[2845]} وجمع لسليمان جنوده من كل قبيل : الإنس والجن والطير- فهم يكفون{[2846]} عن الشرود أو يرد أولهم على آخرهم ، حتى إذا مروا على واد فيه نمل نادت نملة- بلغة فهمها الله سبحانه سليمان وصاحت في طائفتها وقبيلها من النمل أن ادخلوا إلى سكنكم حتى لا يكسركم ويطأكم سليمان وجنود سليمان على غير شعور منهم ولا قصد إلى تحطيمكم ، فسر سليمان عليه السلام من اشتهار أمر عدله ورأفته بين الخلائق ، فهذه النملة تقر أن سليمان وجنده لا يروعون آمنا ، ولا يؤذون مخلوقا بغير ما اكتسب ، ولا يعمدون إلى بريء بمهلكة ، إلا أن يقع ذلك منهم عفوا ودون شعور ، وتبسم ضاحكا من قول النملة هذا ، وسأل الله أن يعينه على شكر ما أنعم به عليه وعلى أبويه ، وأن يلهمه ذلك ، ويكفه عن البطر الذي يصرف عن شكر المنعم ، ودعا مولاه أن يدخله برحمته مع العباد الصالحين ، المكرمين في الدنيا ويوم الدين .

روى مسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله تعالى إليه أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح " . يقول القرطبي : وعلى هذا فليس في الحديث ما يدل على كراهة ولا حظر في قتل النمل ، فإن من آذاك حل لك دفعه عن نفسك ، ولا أحد من خلقه أعظم حرمة من المؤمن ، وقد أبيح لك دفعه عنك بقتل وضرب على المقدار ، فكيف بالهوام والدواب التي قد سخرت لك وسلطت عليها ، فإذا آذاك أبيح لك قتله . اه{[2847]} .


[2835]:سورة الأنبياء. من الآية79.
[2836]:اللبوس عند العرب: السلاح كله، ولعل المراد به الدروع.
[2837]:لتحرزكم وتحميكم.
[2838]:حربكم.
[2839]:سورة الأنبياء. من الآية 80.
[2840]:سورة سبأ. من الآية 11.)سابغات)دروعا وافيات)وقدر في السرد)ضع المسامير في الحلق بقدر يحقق تماسكها.
[2841]:يقول صاحب روح المعاني: وفي الآية أوضح دليل على فضل العلم وشرف أهله، حيث شكرا على العلم، وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا دونه مما أوتياه من الملك العظيم، وتحريض للعلماء على أن يحمدوا الله تعالى على ما آتاهم من فضله، وأن يتواضعوا ويعتقدوا أن في عباد الله تعالى من يفضلهم في العلم.. ولعل في الآية إشارة إلى جواز أن يقول العالم.. أنا عالم اهـ أقول: ويمكن أن يشار إلى مثل هذا عند تفسير الآية الكريمة رقم 16، والتي ختمت بقول الحق تقدست أسماؤه:{إن هذا لهو الفضل المبين}. المؤلف.
[2842]:سورة ص. الآية 30.
[2843]:سورة سبأ. من الآية 12، ومن الآية13.
[2844]:سورة ص. الآيتان: 37، 38.
[2845]:سورة الأنبياء. الآية 82.
[2846]:يقول القرطبي:{يوزعون} معناه: يرد أولهم على آخرهم.. والوازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع من تقدم منهم.
[2847]:الجامع لأحكام القرآن جـ 13. ص 173. وقد أطال- رحمه الله- وشاركه كثير من المفسرين في ذكر أمور تتعلق بالنملة: ما اسمها؟ ما حجمها؟ ما جنسها؟ هل كانت ذكرا أم أنثى؟ حتى أوردوا أنها كانت عرجاء، وبعضهم قال: كانت في حجم الذئاب، بل نقلوا أن للحيوانات كلها أفهاما وعقولا، وقال الأستاذ أبو المظفر: ولا يبعد أن تدرك البهائم حدوث العالم.. لكن من طريف ما أورد أن النملة حاجت سليمان عليه السلام، وحملت إليه نبقة هدية وأنشأت تقول: ألم ترنا نهدي إلى الله ماله *** وإن عنه ذا غنى فهو قابله ولو كان يهدى للجليل بقدره *** لقصر عنه البحر يوما وساحله ولكننا نهدي إلى من نحبه *** فيرضى به عنا ويشكر فاعله وما ذاك إلا من كريم فعاله *** وإلا فما في ملكنا ما يشاكله جـ 13. ص 169، وما بعدها.