الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

{ الذين يُؤْمِنُونَ } إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة ، أو مدح منصوب ، أو مرفوع بتقدير : أعني الذين يؤمنون ، أو هم الذين يؤمنون . وإما مقتطع عن المتقين مرفوع على الابتداء مخبر عنه ب ( أولئك على هدى ) . فإذا كان موصولاً ، كان الوقف على المتقين حسناً غير تامّ . وإذا كان مقتطعاً ، كان وقفاً تاماً .

فإن قلت : ما هذه الصفة ، أواردة بياناً وكشفاً للمتقين ؟ أم مسرودة مع المتقين تفيد غير فائدتها ؟ أم جاءت على سبيل المدح والثناء كصفات الله الجارية عليه تمجيداً ؟ قلت : يحتمل أن ترد على طريق البيان والكشف لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من فعل الحسنات وترك السيئات . أمّا الفعل فقد انطوى تحت ذكر الإيمان الذي هو أساس الحسنات ومنصبها ، وذكر الصلاة والصدقة ؛ لأنّ هاتين أُمّا العبادات البدنية والمالية ، وهما العيار على غيرهما . ألم تر كيف سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصلاة عماد الدين . "

وجعل الفاصل بين الإسلام والكفر ترك الصلاة ؟ وسمى الزكاة قنطرة الإسلام ؟ وقال الله تعالى : { وويلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة } [ فصلت : 6 7 ] . فلما كانتا بهذه المثابة كان من شأنهما استجرار سائر العبادات واستتباعها . ومن ثم اختصر الكلام اختصاراً ، بأن استغنى عن عدّ الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها ، والذي إذا وجد لم تتوقف أخواته أن تقترن به ، مع ما في ذلك من الإفصاح عن فضل هاتين العبادتين . وأما الترك فكذلك . ألا ترى إلى قوله تعالى : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] ؟ ويحتمل أن لا تكون بياناً للمتقين ، وتكون صفة برأسها دالة على فعل الطاعات ، ويراد بالمتقين الذين يجتنبون المعاصي . ويحتمل أن تكون مدحاً للموصوفين بالتقوى ، وتخصيصاً للإيمان بالغيب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر ؛ إظهاراً لإنافتها عن سائر ما يدخل تحت حقيقة هذا الاسم من الحسنات .

والإيمان : إفعال من الأمن . يقال : أمنته وآمنته غيري . ثم يقال : آمنه إذا صدّقه . وحقيقته : آمنه التكذيب والمخالفة . وأمّا تعديته بالباء فلتضمينه معنى أقرّ وأعترف . وأمّا ما حكى أبو زيد عن العرب : ما آمنت أن أجد صحابة أي ما وثقت فحقيقته : صرت ذا أمن به ، أي ذا سكون وطمأنينة ، وكلا الوجهين حسن في { يُؤْمِنُونَ بالغيب } أي يعترفون به أو يثقون بأنه حق . ويجوز أن لا يكون { بالغيب } صلة للإيمان ، وأن يكون في موضع الحال ، أي يؤمنون غائبين عن المؤمن به . وحقيقته : ملتبسين بالغيب ، كقوله { الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب } [ فاطر : 18 ] ، { لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } [ يوسف : 52 ] . ويعضده ما روى «أن أصحاب عبد الله ذكروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيمانهم ، فقال ابن مسعود : إنّ أمر محمد كان بيناً لمن رآه . والذي لا إله غيره ، ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ هذه الآية .

فإن قلت : فما المراد بالغيب إن جعلته صلة ؟ وإن جعلته حالاً ؟ قلت : إن جعلته صلة كان بمعنى الغائب ، إمّا تسمية بالمصدر من قولك : غاب الشيء غيباً ، كما سمي الشاهد بالشهادة . قال الله تعالى : { عالم الغيب والشهادة } [ الزمر : 46 ] . والعرب تسمي المطمئن من الأرض غيباً . وعن النضر بن شميل : شربت الإبل حتى وارت غيوب كلاها . يريد بالغيب : الخمصة التي تكون في موضع الكلية ، إذا بطنت الدابة انتفخت . وإما أن يكون فيعلا فخفف ، كما قيل وأصله : قيل . والمراد به الخفي الذي لا ينفذ فيه ابتداء إلا علم اللطيف الخبير ، وإنما نعلم منه نحن ما أعلمناه ، أو نصب لنا دليلاً عليه . ولهذا لا يجوز أن يطلق فيقال : فلان يعلم الغيب . وذلك نحو الصانع وصفاته ، والنبوّات وما يتعلق بها ، والبعث والنشور والحساب والوعد والوعيد ، وغير ذلك . وإن جعلته حالاً كان بمعنى الغيبة والخفاء .

فإن قلت : ما الإيمان الصحيح ؟ قلت : أن يعتقد الحق ويعرب عنه بلسانه ، ويصدّقه بعمله . فمن أخل بالاعتقاد وإن شهد وعمل فهو منافق . ومن أخل بالشهادة فهو كافر . ومن أخل بالعمل فهو فاسق .

ومعنى إقامة الصلاة تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها ، من أقام العود إذا قوّمه أو الدوام عليها والمحافظة عليها ، كما قال عز وعلا : { الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ } [ المعارج : 23 ] ، { والذين هُمْ على صلواتهم يحافظون } [ المؤمنون : 9 ] من قامت السوق إذا نفقت ، وأقامها . قال :

أَقَامَتْ غَزَالَةُ سُوقَ الضِّرَابِ *** لِأَهْلِ العِرَاقيْنِ حَولاً قمِيطَا

لأنها إذا حوفظ عليها ، كانت كالشيء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات ويتنافس فيه المحصلون . وإذا عطلت وأضيعت ، كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه . أو التجلد والتشمر لأدائها . وأن لا يكون في مؤدّيها فتور عنها ولا توان ، من قولهم : قام بالأمر ، وقامت الحرب على ساقها . وفي ضدّه : قعد عن الأمر ، وتقاعد عنه إذا تقاعس وتثبط أو أداؤها ، فعبر عن الأداء بالإقامة ؛ لأنّ القيام بعض أركانها ، كما عبر عنه بالقنوت والقنوت القيام وبالركوع وبالسجود ، وقالوا : سبح ، إذا صلى ؛ لوجود التسبيح فيها . { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين } [ الصافات : 143 ] .

والصلاة : فعلة من صلى ، كالزكاة من زكى . وكتابتها بالواو على لفظ المفخم . وحقيقة صلى : حرّك الصلوين ؛ لأن المصلي يُفعل ذلك في ركوعه وسجوده . ونظيره كفر اليهودي إذا طأطأ رأسه وانحنى عند تعظيم صاحبه ؛ لأنه ينثني على الكاذتين وهما الكافرتان . وقيل للداعي : مصلّ ، تشبيهاً في تخشعه بالراكع والساجد .

وإسناد الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم ينفقون الحلال الطلق الذي يستأهل أن يضاف إلى الله ، ويسمى رزقاً منه . وأدخل من التبعيضية صيانة لهم وكفا عن الإسراف والتبذير المنهى عنه . وقدّم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم ، كأنه قال : ويخصون بعض المال الحلال بالتصدّق به . وجائز أن يراد به الزكاة المفروضة ، لاقترانه بأخت الزكاة وشقيقتها وهي الصلاة ، وأن تراد هي وغيرها من النفقات في سبيل الخير ، لمجيئه مطلقاً يصلح أن يتناول كل منفق . وأنفق الشيء وأنفده أخوان . وعن يعقوب : نفق الشيء ، ونفد واحد . وكل ما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء ، فدالّ على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأملت .