الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{الٓمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة البقرة مدنية وهي مائتان وست وثمانون آية

«الم » إعلم أنّ الألفاظ التي يتهجى بها أسماء ، مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم ، فقولك ضاد اسم سمي به «ضه » من ضرب إذا تهجيته ، وكذلك : را ، با : اسمان لقولك : ره ، به ؛ وقد روعيت في هذه التسمية لطيفة ، وهي أن المسميات لما كانت ألفاظاً كأساميها وهي حروف وحدان والأسامي عدد حروفها مرتق إلى الثلاثة ، اتجه لهم طريق إلى أن يدلوا في التسمية على المسمى فلم يغفلوها ، وجعلوا المسمى صدر كل اسم منها كما ترى ، إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها ؛ لأنه لا يكون إلا ساكناً .

ومما يضاهيها في إيداع اللفظ دلالة على المعنى : التهليل ، والحوقلة ، والحيعلة ، والبسملة ؛ وحكمها ما لم تلها العوامل أن تكون ساكنة الأعجاز موقوفة كأسماء الأعداد ، فيقال : ألف لام ميم ، كما يقال : واحد اثنان ثلاثة ؛ فإذا وليتها العوامل أدركها الإعراب . تقول : هذه ألف ، وكتبت ألفاً ، ونظرت إلى ألف ؛ وهكذا كل اسم عمدت إلى تأدية ذاته فحسب ، قبل أن يحدث فيه بدخول العوامل شيء من تأثيراتها ، فحقك أن تلفظ به موقوفاً . ألا ترى أنك إذا أردت أن تلقى على الحاسب أجناساً مختلفة ليرفع حسبانها ، كيف تصنع وكيف تلقيها أغفالاً من سمة الإعراب ؟ فتقول : دار ، غلام ، جارية ، ثوب ، بساط . ولو أعربت ركبت شططاً .

فإن قلت : لم قضيت لهذه الألفاظ بالإسمية ؟ وهلا زعمت أنها حروف كما وقع في عبارات المتقدّمين ؟ قلت : قد استوضحت بالبرهان النير أنها أسماء غير حروف ، فعلمت أن قولهم خليق بأن يصرف إلى التسامح ، وقد وجدناهم متسامحين في تسمية كثير من الأسماء التي لا يقدح إشكال في اسميتها كالظروف وغيرها بالحروف ، مستعملين الحرف في معنى الكلمة ، وذلك أن قولك : «ألف » دلالته على أوسط حروف «قال ، وقام » دلالة «فرس » على الحيوان المخصوص ، لا فضل فيما يرجع إلى التسمية بين الدلالتين . ألا ترى أنّ الحرف : ما دلّ على معنى في غيره ، وهذا كما ترى دال على معنى في نفسه ؛ ولأنها متصرف فيها بالإمالة كقولك : با ، تا . وبالتفخيم كقولك : يا ، ها . وبالتعريف ، والتنكير ، والجمع والتصغير ، والوصف ، والإسناد ، والإضافة ، وجميع ما للأسماء المتصرفة . ثم إني عثرت من جانب الخليل على نص في ذلك . قال سيبويه : قال الخليل يوماً وسأل أصحابه : كيف تقولون إذا أردتم أن تلفظوا بالكاف التي في لك ، والباء التي في ضرب ؟ فقيل : نقول : باء ، كاف ؛ فقال : إنما جئتم بالإسم ، ولم تلفظوا بالحرف ، وقال : أقول : كه ، به . وذكرأبو علي في كتاب الحجة في ( يس ) : وإمالة يا ، أنهم قالوا : يا زيد ، في النداء ؛ فأمالوا وإن كان حرفاً ، قال : فإذا كانوا قد أمالوا ما لا يمال من الحروف من أجل الياء ، فلأن يميلوا الاسم الذي هو يس أجدر . ألا ترى أنّ هذه الحروف أسماء لما يلفظ بها ؟

فإن قلت : من أي قبيل هي من الأسماء ، أمعربة أم مبنية ؟ قلت : بل هي أسماء معربة ، وإنما سكنت سكون زيد وعمرو وغيرهما من الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد مقتضيه وموجبه . والدليل على أنّ سكونها وقف وليس ببناء : أنها لو بنيت لحذى بها حذو : كيف ، وأين ، وهؤلاء . ولم يقل : ص ، ق ، ن مجموعاً فيها بين الساكنين .

فإن قلت فلم لفظ المتهجي بما آخره ألف منها مقصوراً ، فلما أعرب مدّ فقال هذه باء ، وياء ، وهاء ؛ وذلك يخيل أن وزانها وزان قولك «لا » مقصورة ؛ فإذا جعلتها إسماً مددت فقلت : كتبت لاء ؟ قلت : هذا التخيل يضمحل بما لخصته من الدليل ؛ والسبب في أن قصرت متهجاة ، ومدّت حين مسها الإعراب : أنّ حال التهجي خليقة بالأخف الأوجز ، واستعمالها فيه أكثر .

فإن قلت : قد تبين أنها أسماء لحروف المعجم ، وأنها من قبيل المعربة ، وأن سكون أعجازها عند الهجاء لأجل الوقف ، فما وجه وقوعها على هذه الصورة فواتح للسور ؟ قلت : فيه أوجه : أحدها وعليه إطباق الأكثر : أنها أسماء السور . وقد ترجم صاحب الكتاب الباب الذي كسره على ذكرها في حد ما لا ينصرف ب«باب أسماء السور » وهي في ذلك على ضربين : أحدهما ما لا يتأتى فيه إعراب ، نحو : كهيعص ، والمر . والثاني : ما يتأتى فيه الإعراب ، وهو إما أن يكون اسماً فرداً كص ، وق ، ون ، أو أسماء عدّة مجموعها على زنة مفرد ك«حم وطس ويس » ؛ فإنها موازنة لقابيل وهابيل ، وكذلك طسم يتأتى فيها أن تفتح نونها ، وتصير ميم مضمومة إلى طس فيجعلا اسما واحد ؛ كدارا بحرد ؛ فالنوع الأول محكى ليس إلاّ ؛ وأما النوع الثاني فسائغ فيه الأمران : الإعراب ، والحكاية ؛ قال قاتل محمد بن طلحة السجاد وهو شريح بن أوفى العبسي .

يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ *** فَهَلاَّ تَلاَ حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ

فأعرب حاميم ومنعها الصرف ، وهكذا كل ما أعرب من أخواتها ؛ لاجتماع سببي منع الصرف فيها ، وهما : العلمية ، والتأنيث . والحكاية أن تجيء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته الأولى . كقولك : دعني من تمرتان ، ( وبدأت بالحمد لله ) ، وقرأت : { سُورَةٌ أنزلناها } [ النور : 1 ] قال :

وَجَدْنا في كِتَابِ بَني تَمِيم *** أَحَقُّ الْخَيّلِ بالرَّكْضِ المُعَارُ

وقال ذو الرمّة :

سَمِعْتُ النَّاسَ يَنْتَجِعُونَ غَيثاً *** فَقُلْتُ لِصَيْدَح انْتَجِعي بِلاَلاَ

وقال آخر :

تَنَادَوْا بالرَّحِيلِ غَدا ً*** َفي تَرْحَالِهمْ نَفْسِي

وروى منصوباً ومجروراً . ويقول أهل الحجاز في استعلام من يقول : رأيت زيداً ، من زيداً ؟ وقال سيبويه : سمعت من العرب : لا من أين يا فتى .

فإن قلت : فما وجه قراءة من قرأ : ص ، وق ، ون مفتوحات ؟ قلت : الأوجه أن يقال : ذاك نصب وليس بفتح ، وإنما لم يصحبه التنوين لامتناع الصرف على ما ذكرت . وانتصابها بفعل مضمر . نحو : اذكر ؛ وقد أجاز سيبويه مثل ذلك في : حم ، وطس ، ويس لو قرىء به . وحكى أبو سعيد السيرافي أنّ بعضهم قرأ : يس . ويجوز أن يقال : حرّكت لالتقاء الساكنين ، كما قرأ من قرأ : «ولا الضالين » .

فإن قلت : هلا زعمت أنها مقسم بها ؟ وأنها نصبت قولهم : نعم الله لأفعلن ، وأي الله لأفعلن ، على حذف حرف الجر وإعمال فعل القسم ؟ وقال ذو الرمة :

أَلاَ رُبَّ مَنْ قَلْبي لَهُ للَّهَ نَاصِح ***

وقال آخر :

فَذَاكَ أَمَانَةُ اللَّهِ الثَّرِيدُ ***

قلت : إنّ القرآن والقلم بعد هذه الفواتح محلوف بهما ، فلو زعمت ذلك لجمعت بين قسمين على مقسم واحد وقد استكرهوا ذلك . قال الخليل في قوله عزّ وجلّ : { واليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وما خلق الذكر والأنثى } [ الليل : 1-3 ] : الواوان الأخريان ليستا لمنزلة الأولى ، ولكنهما الواوان اللتان تضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك : مررت بزيد وعمرو ، والأولى بمنزلة الباء والتاء ، قال سيبويه : قلت للخليل : فلم لا تكون الأخريان بمنزلة الأولى ؟ فقال : إنما أقسم بهذه الأشياء على شيء ، ولو كان انقضى قسمه بالأوّل على شيء لجاز أن يستعمل كلاماً آخر ، فيكون كقولك بالله لأفعلنّ ، بالله لأخرجنّ اليوم ، ولا يقوى أن تقول : وحقك وحق زيد لأفعلنّ . والواو الأخيرة واو قسم لا يجوز إلا مستكرهاً قال : وتقول وحياتي ثم حياتك لأفعلنّ ؛ فثم هاهنا بمنزلة الواو . هذا ولا سبيل فيما نحن بصدده إلى أن تجعل الواو للعطف ؛ لمخالفة الثاني الأول في الإعراب .

فإن قلت : فقدّرها مجرورة بإضمار الباء القسمية لا بحذفها ، فقد جاء عنهم : الله لأفعلن مجروراً ، ونظيره قولهم : لاه أبوك ؛ غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة ، واجعل الواو للعطف حتى يستتب لك المصير إلى نحو ما أشرت إليه . قلت : هذا لا يبعد عن الصواب ، ويعضده ما رووا عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : أقسم الله بهذه الحروف .

فإن قلت : فما وجه قراءة بعضهم ص وق بالكسر ؟ قلت : وجهها ما ذكرت من التحريك لالتقاء الساكنين ، والذي يبسط من عذر المحرّك : أن الوقف لما استمرّ بهذه الأسامي ، شاكلت لذلك ما اجتمع في آخره ساكنان من المبينات ، فعوملت تارة معاملة «الآن » وأخرى معاملة «هؤلاء » .

فإن قلت : هل تسوغ لي في المحكية مثل ما سوّغت لي في المعربة من إرادة معنى القسم ؟ قلت : لا عليك في ذلك ، وأن تقدّر حرف القسم مضمراً في نحو قوله عز وجل : { حم والكتاب المبين } [ الدخان : 2 ] ، كأنه قيل : أقسم بهذه السورة ، وبالكتاب المبين : إنا جعلناه . وأما قوله صلى الله عليه وسلم : " حم لا ينصرون " فيصلح أن يقضى له بالجرّ والنصب جميعاً على حذف الجار وإضماره .

فإن قلت : فما معنى تسمية السور بهذه الألفاظ خاصة ؟ قلت : كأن المعنى في ذلك الإشعار بأن الفرقان ليس إلا كلما عربية معروفة التركيب من مسميات هذه الألفاظ ، كما قال عز من قائل :

{ قرآناً عَرَبِيّاً } [ يوسف : 2 ] .

فإن قلت : فما بالها مكتوبة في المصحف على صور الحروف أنفسها ، لا على صور أساميها ؟ قلت : لأنّ الكلم لما كانت مركبة من ذوات الحروف ، واستمرّت العادة متى تهجيت ومتى قيل للكاتب : اكتب كيت وكيت أن يلفظ بالأسماء وتقع في الكتابة الحروف أنفسها ، عمل على تلك الشاكلة المألوفة في كتابة هذه الفواتح . وأيضاً فإن شهرة أمرها ، وإقامة ألسن الأسود والأحمر لها ، وأنّ اللافظ بها غير متهجاة لا يحلى بطائل منها ، وأنّ بعضها مفرد لا يخطر ببال غير ما هو عليه من مورده : أمنت وقوع اللبس فيها ، وقد اتفقت في خط المصحف أشياء خارجة عن القياسات التي بني عليها علم الخط والهجاء ؛ ثم ما عاد ذلك بضير ولا نقصان ؛ لاستقامة اللفظ وبقاء الحفظ ، وكان اتباع خط المصحف سنة لا تخالف . قال عبد الله بن درستويه في كتابه : المترجم بكتاب الكتاب المتمم : في الخط والهجاء خطان لا يقاسان : خط المصحف ، لأنه سنة ، وخط العروض ؛ لأنه يثبت فيه ما أثبته اللفظ ويسقط عنه ما أسقطه .

الوجه الثاني : أن يكون ورود هذه الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدّى بالقرآن وبغرابة نظمه ؛ وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه عن آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أن لم تتساقط مقدرتهم دونه ، ولم تظهر معجزتهم عن أن يأتوا بمثله بعد المراجعات المتطاولة ، وهم أمراء الكلام وزعماء الحوار ، وهم الحرّاص على التساجل في اقتضاب الخطب ، والمتهالكون على الافتنان في القصيد والرجز ، ولم يبلغ من الجزالة وحسن النظم المبالغ التي بزت بلاغة كل ناطق ، وشقت غبار كل سابق ، ولم يتجاوز الحدّ الخارج من قوى الفصحاء ، ولم يقع وراء مطامح أعين البصراء ؛ إلا لأنه ليس بكلام البشر ، وأنه كلام خالق القوى والقدر .

وهذا القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزل ، ولناصره على الأوّل أن يقول : إن القرآن إنما نزل بلسان العرب مصبوباً في أساليبهم واستعمالاتهم ، والعرب لم تتجاوز ما سموا به مجموع اسمين ، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة ، والقول بأنها أسماء السور حقيقة : يخرج إلى ما ليس في لغة العرب ، ويؤدّي أيضاً إلى صيرورة الاسم والمسمى واحداً . فإن اعترضت عليه بأنه قول مقول على وجه الدهر وأنه لا سبيل إلى ردّه ، أجابك بأن له محملاً سوى ما يذهب إليه ، وأنه نظير قول الناس : فلان يروي : قفا نبك ، وعفت الديار . ويقول الرجل لصاحبه : ما قرأت ؟ فيقول : { الحمد للَّهِ } و{ بَرَاءةٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 1 ] و { يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم } [ النساء : 11 ] و { الله ُ نُورُ السماوات والأرض } [ النور : 35 ] . وليست هذه الجمل بأسامي هذه القصائد وهذه السور والآي ، وإنما تعني رواية القصيدة التي ذاك استهلالها ، وتلاوة السورة أو الآية التي تلك فاتحتها . فلما جرى الكلام على أسلوب من يقصد التسمية ، واستفيد منها ما يستفاد من التسمية ، قالوا ذلك على سبيل المجاز دون الحقيقة .

وللمجيب عن الاعتراضين على الوجه الأول أن يقول : التسمية بثلاثة أسماء فصاعداً مستنكرة لعمري وخروج عن كلام العرب ، ولكن إذا جعلت إسماً واحداً على طريقة حضرموت ، فأما غير مركبة منثورة نثر أسماء العدد فلا استنكار فيها ؛ لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى حكاية ، كما سموا : بتأبط شراً ، وبرق نحره ، وشاب قرناها . وكما لو سمي : بزيد منطلق ، أو بيت شعر . وناهيك بتسوية سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر ، وبين التسمية بطائفة من أسماء حروف المعجم ، دلالة قاطعة على صحة ذلك . وأما تسمية السورة كلها بفاتحتها ، فليست بتصيير الاسم والمسمى واحداً ، لأنها تسمية مؤلف بمفرده ، والمؤلف غير المفرد . ألا ترى أنهم جعلوا اسم الحرف مؤلفاً منه ومن حرفين مضمومين إليه ، كقولهم : صاد ، فلم يكن من جعل الاسم والمسمى واحداً حيث كان الاسم مؤلفاً والمسمى مفرداً .

الوجه الثالث : أن ترد السور مصدّرَةً بذلك ليكون أوّل ما يقرع الأسماع مستقلاً بوجه من الإعراب ، وتقدمة من دلائل الإعجاز . وذلك أنّ النطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام : الأميون منهم وأهل الكتاب ، بخلاف النطق بأسامي الحروف . فإنه كان مختصاً بمن خط وقرأ وخالط أهل الكتاب وتعلم منهم ، وكان مستغرباً مستبعداً من الأمي التكلم بها استبعاد الخط والتلاوة ، كما قال عز وجل : { وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كتاب وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارتاب المبطلون } [ العنكبوت : 48 ] . فكان حكم النطق بذلك مع اشتهار أنه لم يكن ممن اقتبس شيئاً من أهله حكم الأقاصيص المذكورة في القرآن ، التي لم تكن قريش ومن دان بدينها في شيء من الإحاطة بها ، في أن ذلك حاصل له من جهة الوحي ، وشاهد بصحة نبوته ، وبمنزلة أن يتكلم بالرطانة من غير أن يسمعها من أحد .

واعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عز سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء . وجدتها نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر سواء ، وهي : الألف ، واللام ، والميم ، والصاد ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والياء ، والعين ، والطاء ، والسين ، والحاء ، والقاف ، والنون في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم . ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف ، بيان ذلك أن فيها من المهموسة نصفها : الصاد ، والكاف ، والهاء ، والسين ، والحاء . ومن المجهورة نصفها : الألف ، واللام ، والميم ، والراء ، والعين ، والطاء ، والقاف ، والياء ، والنون . ومن الشديدة نصفها : الألف ، والكاف ، والطاء ، والقاف . ومن الرخوة نصفها : اللام ، والميم ، والراء ، والصاد ، والهاء ، والعين ، والسين ، والحاء ، والياء ، والنون .

ومن المطبقة نصفها : الصاد ، والطاء . ومن المنفتحة نصفها : الألف ، واللام ، والميم ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والعين ، والسين ، والحاء ، والقاف ، والياء ، والنون . ومن المستعلية نصفها : القاف ، والصاد ، والطاء . ومن المنخفضة نصفها : الألف ، واللام ، والميم ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والياء ، والعين ، والسين ، والحاء ، والنون . ومن حروف القلقلة نصفها : القاف ، والطاء .

ثم إذا استقريت الكلم وتراكيبها ، رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها ، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته . وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله ، وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته ، فكأن الله عز اسمه عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم ، إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم . ومما يدل على أنه تغمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعاً في تراكيب الكلم ، أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكرّرتين . وهي : فواتح سورة البقرة ، وآل عمران ، والروم ، والعنكبوت ، ولقمان ، والسجدة ، والأعراف ، والرعد ، ويونس ، وإبراهيم ، وهود ، ويوسف ، والحجر .

فإن قلت : فهلا عدّدت بأجمعها في أوّل القرآن ؟ وما لها جاءت مفرقة على السور ؟ قلت : لأنّ إعادة التنبيه على أنّ المتحدّى به مؤلف منها لا غير ، وتجديده في غير موضع واحد أوصل إلى الغرض وأقرّ له في الأسماع والقلوب من أن يفرد ذكره مرة ، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن فمطلوب به تمكين المكرر في النفوس وتقريره .

فإن قلت : فهلا جاءت على وتيرة واحدة ؟ ولم اختلفت أعداد حروفها فوردت ص و ق و ن على حرف ، وطه و طس و يس و حم على حرفين ، والم والر وطسم على ثلاثة أحرف ، والمص والمر على أربعة أحرف ، وكهيعص وحم عسق على خمسة أحرف ؟ قلت : هذا على إعادة افتنانهم في أساليب الكلام ، وتصرفهم فيه على طرق شتى ومذاهب متنوّعة . وكما أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف لم تتجاوز ذلك ، سلك بهذه الفواتح ذلك المسلك .

فإن قلت : فما وجه اختصاص كل سورة بالفاتحة التي اختصت بها ؟ قلت : إذا كان الغرض هو التنبيه والمبادىء كلها في تأدية هذا الغرض سواء لا مفاضلة كان تطلب وجه الاختصاص ساقطاً ، كما إذا سمى الرجل بعض أولاده زيداً والآخر عمراً ، لم يقل له : لم خصصت ولدك هذا بزيد وذاك بعمرو ؟ لأنّ الغرض هو التمييز وهو حاصل أية سلك ؛ ولذلك لا يقال : لم سمي هذا الجنس بالرجل وذاك بالفرس ؟ ولم قيل للاعتماد الضرب ؟ وللانتصاب القيام ؟ ولنقيضه القعود ؟

فإن قلت : ما بالهم عدّوا بعض هذه الفواتح آية دون بعض ؟ قلت : هذا علم توقيفي لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور . أمّا الم فآية حيث وقعت من السور المفتتحة بها . وهي ست . وكذلك المص آية ، والمر لم تعدّ آية ، والر ليست بآية في سورها الخمس ، وطسم آية في سورتيها ، وطه ويس آيتان ، وطس ليست بآية ، وحم آية في سورها كلها ، و حم عسق آيتان ، وكهيعص آية واحدة ، وص و ق و ن ثلاثتها لم تعدّ آية . هذا مذهب الكوفيين ومن عداهم ، لم يعدّوا شيئاً منها آية .

فإن قلت : فكيف عدّ ما هو في حكم كلمة واحدة آية ؟ قلت : كما عدّ الرحمن وحده ومدهامّتان وحدها آيتين على طريق التوقيف .

فإن قلت : ما حكمها في باب الوقف ؟ قلت : يوقف على جميعها وقف التمام إذا حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده ، وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور ونعق بها كما ينعق بالأصوات أو جعلت وحدها أخبار ابتداء محذوف كقوله عز قائلاً : ( الم الله ) أي هذه الم ثم ابتدأ فقال : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ } [ آل عمران : 1-2 ] .

فإن قلت : هل لهذه الفواتح محل من الإعراب ؟ قلت : نعم لها محل فيمن جعلها أسماء للسور لأنها عنده كسائر الأسماء الأعلام .

فإن قلت : ما محلها ؟ قلت : يحتمل الأوجه الثلاثة ، أما الرفع : فعلى الابتداء ، وأما النصب والجرّ ، فلما مرّ من صحة القسم بها وكونها بمنزلة : الله والله على اللغتين . ومن لم يجعلها أسماء للسور ، لم يتصوّر أن يكون لها محل في مذهبه ، كما لا محل للجمل المبتدأ وللمفردات المعدّدة .