اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ} (39)

قوله : { يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم : " ويُثْبِتُ " مخففاً من " أثْبَتَ " والباقون بالتشديد والتضعيف ، والهمزة للتعدية ولا يصح أن يكون التضعيف للتكثير ، إذ من شرطه أن متعدياً قبل ذلك ، ومفعول " يُثْبِتُ " محذوف ، أي : ويثبت ما يشاء والمحو : ذهاب أثر الكتابة ، يقال : مَحَاهُ يَمْحُوهُ مَحْواً ، إذا أذهب أثره .

قوله : " ويُثْبِتُ " قال النحويون : ويثبته إلا أنه استغنى بتعدية الفعل الأول عن تعدية الفعل الثاني ، وهو كقوله عز وجل { والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات } [ الأحزاب : 35 ] .

فصل

قال سعيد بن جبير وقتادة " يمحو الله مايشاء " من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله " ويُثْبِتُ " ما يشاء منها فلا ينسخه .

وقال ابن عباس رضي الله عنه : { يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ } الرزق والأجل والسعادة والشقاوة .

وعن ابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا : " يمحو السعادة والشقاوة ويمحو الرزق والأجل ويثبت ما يشاء .

وروي عن عمر رضي الله عنه : أنه كان يطوف بالبيت وهو بيكي يقول : " اللهم إن كنت كتبتي في أهل السعادة فأثبتني فيها ، وإن كانت كتبتني في أهل الشقاوة فامحني منها بفضلك وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب " .

ومثله عن ابن مسعود وفي بعض الآثار : أن الرجل قد يكون بقي له من عمره ثلاثون سنة ، فيقطع رحمه فيرد إلى ثلاثة أيام ، والرجل قد بقي له من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيرد إلى ثلاثين سنة .

روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه سلم :

" ينْزِلُ اللهُ سبحانه وتعالى في آخر ثلاث سَاعاتِ يبقين من اللَّيل فنظر في الساعة الاولى منهنَّ في أم الكتاب الذي لا نظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت " .

وقيل : الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم فيمحوا الله من ديوان الحفظة ماليس فيه ثواب ولا عقاب ، كقوله : أكلت . شربت . دخلت . خرجت ، ونحوها من الكلام هو صادق فيه ، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب ، قاله الضحاك والكلبي ورواه أبو بكر الأصم ، لأن الله تعالى قال في وصف الكتاب { لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] .

وقال تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 78 ] .

فأجاب القاضي عنه : بأنه لا يغادر من الذنوب صغير ولا كبيرة ، ويمكن أن يجاب عن هذا : بانكم خصصتم الكبيرة والصغيرة بالذنوب بمجرد اصطلاحكم ، وأمام في أصل اللغة فالصغيرة والكبيرة تتناول كل فعل وعرضٍ ، لأنه إن كان حقيراً فهو صغير وإن كان غير ذلك فهو كبير ، وعلى هذا يتناول المباحات .

وقال عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما : " هو الرجل يعمل بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلاله ، فهو الذي يمحو والذي يثبت هو الرجل يعمل بطاعة الله فيموت في طاعته فهو الذي يثبت " .

وقال الحسن : { يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ } أي : من جاء أجله يذهب به ويثبت من لم يجىء أجله إلى أجله .

وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : يمحو الله ما يشاء : من ذنوب العباد ويغفرها وثبت ما يشاء فلا يغفرها .

وقال عكرمة : ما يشاء من الذنوب بالتوبة ، ويثبت بدل الذنوب حسنات ، كما قال الله تعالى { فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] وقيل غير ذلك .

قوله { وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } أي : أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ الذي لايبدل ولا يغير ، والأم : أصل الشيء ، والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أمَّا له ، ومنه أم الرأس للدماغ ، وأم القرى لمكة ، وكد مدينة فهي أمّ لما حولها من القرى .

قال ابن عباس في رواية عكرمة : هما كتابان : كتاب سمي أم الكتاب يمحو ما يشاء منه ويثبت وأم الكتاب لا يغيرمنه شيء ، وعلى هذا فالكتاب الذي يمحو منه ويثبت هو الكتاب الذي تكتبه الملائكة على الخلق .

وعن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم قال : إن لله لوحاً محفوظاً مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء له دفتان من ياقوت ، لله فيه كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحوا ما يشاء ويثبت { وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } [ وسأل ابن عباس كعباً عن أم الكتاب ] فقال : " علم الله ما خلقه ما هو خالقه إلى يوم القيامة " .