اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا} (24)

قوله تعالى : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة } .

والمقصود المبالغة في التواضع ، وهذه استعارة بليغة .

قال القفَّال{[20346]} - رحمه الله تعالى- : وفي تقريره وجهان :

الأول : أنَّ الطائر ، إذا أراد ضمَّ فرخه إليه للتربية خفض له جناحه ، فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية ، فكأنَّه قال للولد : اكفل والديك ؛ بأن تَضمَّهما إلى نفسك ، كما فعلا ذلك بك حال صغرك .

والثاني : أنَّ الطائر ، إذا أراد الطَّيران ، نَشرَ جناحيه ، ورفعهما ؛ ليرتفع ، وإذا أراد ترك الطيران ، خفض جناحيه ، فجعل خفض الجناحِ كناية عن التواضع واللِّين .

وقال الزمخشري : " فإن قلت : ما معنى جناح الذلِّ ؟ قلت : فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون المعنى : واخفض لهما جناحك ، كما قال : { واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ الحجر : 88 ] فأضافه إلى الذُّلِّ [ أو الذِّلِّ ] ، كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى : واخفض لهما جناحك الذَّليل أو الذَّلول .

والثاني : أن تجعل لذُلِّه أو لذِلِّه جناحاً خفيضاً ؛ كما جعل لبيد للشَّمال يداً ، وللقرَّة زماماً ، في قوله : [ الكامل ]

وغَداةِ رِيح قد كَشفْتُ وقَرَّةٍ *** إذْ أصَبْحَتْ بِيدِ الشَّمالِ زِمامُهَا{[20347]}

مبالغة في التذلُّل والتواضع لهما " انتهى ، يعني أنه عبَّر عن اللين بالذلِّ ، ثم استعار له جناحاً ، ثم رشَّح هذه الاستعارة بأن أمره بخفض الجناح .

ومن طريف ما يحكى : أن أبا تمامٍ ، لمَّا نظم قوله : [ الكامل ]

لا تَسْقِني مَاءَ المَلامِ فإنَّني *** صبٌّ قد اسْتعذَبْتُ مَاء بُكائِي{[20348]}

جاءه رجل بقصعةٍ ، وقال له : أعطني شيئاً من ماءِ الملامِ ، فقال : حتى تأتيني بريشةٍ من جناح الذلِّ ؛ يريد أن هذا مجاز استعارةٍ كذاك ، وقال بعضهم : [ الطويل ]

أرَاشُوا جَناحِي ثُمَّ بلُّوه بالنَّدى *** فلمْ أسْتطِعْ من أرْضهِمْ طَيرانَا{[20349]}

وقرأ العامة{[20350]} " الذُّلِّ " بضم الذال ، وابن عبَّاسٍ في آخرين بكسرها ، وهي استعارةٌ ؛ لأن الذلَّ في الدوابِّ ؛ لأنَّه ضدُّ الصعوبة ، فاستعير للأناسيِّ ، كما أنَّ الذل بالضم ضدُّ العزِّ .

قوله : " من الرَّحمة " فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنها للتعليل ، فتتعلق ب " اخفِضْ " ، أي : اخفض من أجل الرَّحمة .

والثاني : أنها لبيان الجنس ؛ قال ابن عطيَّة : " أي : إنَّ هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنَّة في النَّفس " .

الثالث : أن تكون في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ " جَنَاح " .

الرابع : أنها لابتداء الغاية .

قوله : " كَمَا ربَّيانِي " في هذه الكاف قولان :

أحدهما : أنها نعتٌ لمصدر محذوف ، فقدَّره الحوفيُّ : " ارحمهما رحمة مثل تربيتهما [ لي ] " . وقدَّره أبو البقاء{[20351]} : " رحمة مثل رحمتهما " كأنَّه جعل التربية رحمة .

والثاني : أنها للتعليل ، أي : ارحمهما ؛ لأجل تربيتهما ؛ كقوله : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] .

قال القرطبي{[20352]} : أمر الله تعالى عباده بعبادته وتوحيده ، وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك ، كما قرن شكرهما بشكره ، فقال جل ذكره : { أن اشكر لي ولوالديك } [ لقمان : 14 ] ومن البر إليهما أن يحسن إليهما ، ولا يسبهما ولا يعقهما ؛ فإن ذلك من الكبائر ، ولا يخالفهما في أغراضهما الجائزة لهما .

والأحاديث الدالة على الأمر ببر الوالدين كثيرة .

قال القرطبيُّ{[20353]} : ولا يختصُّ برُّ الوالدين بأن يكونا مسلمين ، بل إن كانا كافرين يبرُّهما ، ويحسن إليهما .

قال القفال{[20354]} - رحمه الله- : إنَّه لم يقتصر في تعليم البرِّ بالوالدين على تعليم الأفعال ، بل أضاف إليه تعليم الأقوال ، وهو أن يدعو لهما بالرَّحمة ، فيقول : ربِّ ارحمهما ، ولفظة الرحمة جامعة لكلِّ الخيرات في الدِّين والدنيا ، ثم يقول : { كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } يعني : ربِّ افعل بهما هذا النوع من الإحسان ، كما أحسنا إليَّ في تربيتهما ، والتربية هي التَّنْميَةُ من قولهم : ربَا الشَّيء ، إذا انتفخ قال تعالى : { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ } [ الحج : 5 ] .

واختلف المفسرون في هذه الآية ، فقال ابن عباس - رضي الله عنهما- : إنها منسوخة بقوله تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 113 ] فلا ينبغي للمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين ، ولا يقول : ربِّ ارحمهما{[20355]} .

وقيل إنها مخصوصة بالمسلمين غير منسوخة ، وهذا أولى من القول الأول ؛ لأنَّ التخصيص أولى من النَّسخ .

وقيل : لا نسخ ، ولا تخصيص ؛ لأنَّ الوالدين ، إذا كانا كافرين ، فله أن يدعو لهما بالهداية والإرشاد ، وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان .

فصل في أنّ الأمر يفيد التكرار أم لا ؟

قوله جلَّ ذكرهُ : { وَقُل رَّبِّ ارحمهما } أمرٌ ، وظاهر الأمر لا يفيد التَّكرار ، فيكفي في العمل بمقتضى هذه الآية ذكر هذا القول مرَّة واحدة .

سئل سفيان : كم يدعو الإنسان لوالديه ؟ أفي اليوم مرة ، أو في الشهر ، أو في السَّنة ؟ فقال : نرجو أن يجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات ؛ كما قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ }{[20356]} [ الأحزاب : 56 ] فكانوا يرون أن التشهد يجزي عن الصلاة على النبيِّ - صلوات الله وسلامه عليه- .

وكقوله تعالى : { واذكروا الله في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } [ البقرة : 203 ] فهم يكرِّرون في أدبار الصلاة .


[20346]:ينظر: الفخر الرازي 20/153.
[20347]:تقدم.
[20348]:ينظر: ديوانه ص 10، البحر المحيط 6/26، الدر المصون 4/386.
[20349]:ينظر: البحر 6/68، الدر المصون 4/386.
[20350]:ينظر: المحتسب 2/18، والكشاف 2/658، والقرطبي 1/159 والبحر 6/26، والشواذ 76، والدر المصون 4/386، ونسبها الفراء في معاني القرآن 2/122 إلى عاصم ، وقال القرطبي: ورويت عن عاصم.
[20351]:ينظر: الإملاء : 2/90.
[20352]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 10/155.
[20353]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 10/156.
[20354]:ينظر: الفخر الرازي 20/153.
[20355]:أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" ص 16 رقم (23) والطبري في "تفسيره" (8/63) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/311) وزاد نسبته إلى أبي داود في ناسخه وابن المنذر من طرق عن ابن عباس.
[20356]:ذكره الرازي في "تفسيره" (20/153).