قوله تعالى : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة } .
والمقصود المبالغة في التواضع ، وهذه استعارة بليغة .
قال القفَّال{[20346]} - رحمه الله تعالى- : وفي تقريره وجهان :
الأول : أنَّ الطائر ، إذا أراد ضمَّ فرخه إليه للتربية خفض له جناحه ، فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية ، فكأنَّه قال للولد : اكفل والديك ؛ بأن تَضمَّهما إلى نفسك ، كما فعلا ذلك بك حال صغرك .
والثاني : أنَّ الطائر ، إذا أراد الطَّيران ، نَشرَ جناحيه ، ورفعهما ؛ ليرتفع ، وإذا أراد ترك الطيران ، خفض جناحيه ، فجعل خفض الجناحِ كناية عن التواضع واللِّين .
وقال الزمخشري : " فإن قلت : ما معنى جناح الذلِّ ؟ قلت : فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون المعنى : واخفض لهما جناحك ، كما قال : { واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ الحجر : 88 ] فأضافه إلى الذُّلِّ [ أو الذِّلِّ ] ، كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى : واخفض لهما جناحك الذَّليل أو الذَّلول .
والثاني : أن تجعل لذُلِّه أو لذِلِّه جناحاً خفيضاً ؛ كما جعل لبيد للشَّمال يداً ، وللقرَّة زماماً ، في قوله : [ الكامل ]
وغَداةِ رِيح قد كَشفْتُ وقَرَّةٍ *** إذْ أصَبْحَتْ بِيدِ الشَّمالِ زِمامُهَا{[20347]}
مبالغة في التذلُّل والتواضع لهما " انتهى ، يعني أنه عبَّر عن اللين بالذلِّ ، ثم استعار له جناحاً ، ثم رشَّح هذه الاستعارة بأن أمره بخفض الجناح .
ومن طريف ما يحكى : أن أبا تمامٍ ، لمَّا نظم قوله : [ الكامل ]
لا تَسْقِني مَاءَ المَلامِ فإنَّني *** صبٌّ قد اسْتعذَبْتُ مَاء بُكائِي{[20348]}
جاءه رجل بقصعةٍ ، وقال له : أعطني شيئاً من ماءِ الملامِ ، فقال : حتى تأتيني بريشةٍ من جناح الذلِّ ؛ يريد أن هذا مجاز استعارةٍ كذاك ، وقال بعضهم : [ الطويل ]
أرَاشُوا جَناحِي ثُمَّ بلُّوه بالنَّدى *** فلمْ أسْتطِعْ من أرْضهِمْ طَيرانَا{[20349]}
وقرأ العامة{[20350]} " الذُّلِّ " بضم الذال ، وابن عبَّاسٍ في آخرين بكسرها ، وهي استعارةٌ ؛ لأن الذلَّ في الدوابِّ ؛ لأنَّه ضدُّ الصعوبة ، فاستعير للأناسيِّ ، كما أنَّ الذل بالضم ضدُّ العزِّ .
قوله : " من الرَّحمة " فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنها للتعليل ، فتتعلق ب " اخفِضْ " ، أي : اخفض من أجل الرَّحمة .
والثاني : أنها لبيان الجنس ؛ قال ابن عطيَّة : " أي : إنَّ هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنَّة في النَّفس " .
الثالث : أن تكون في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ " جَنَاح " .
الرابع : أنها لابتداء الغاية .
قوله : " كَمَا ربَّيانِي " في هذه الكاف قولان :
أحدهما : أنها نعتٌ لمصدر محذوف ، فقدَّره الحوفيُّ : " ارحمهما رحمة مثل تربيتهما [ لي ] " . وقدَّره أبو البقاء{[20351]} : " رحمة مثل رحمتهما " كأنَّه جعل التربية رحمة .
والثاني : أنها للتعليل ، أي : ارحمهما ؛ لأجل تربيتهما ؛ كقوله : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] .
قال القرطبي{[20352]} : أمر الله تعالى عباده بعبادته وتوحيده ، وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك ، كما قرن شكرهما بشكره ، فقال جل ذكره : { أن اشكر لي ولوالديك } [ لقمان : 14 ] ومن البر إليهما أن يحسن إليهما ، ولا يسبهما ولا يعقهما ؛ فإن ذلك من الكبائر ، ولا يخالفهما في أغراضهما الجائزة لهما .
والأحاديث الدالة على الأمر ببر الوالدين كثيرة .
قال القرطبيُّ{[20353]} : ولا يختصُّ برُّ الوالدين بأن يكونا مسلمين ، بل إن كانا كافرين يبرُّهما ، ويحسن إليهما .
قال القفال{[20354]} - رحمه الله- : إنَّه لم يقتصر في تعليم البرِّ بالوالدين على تعليم الأفعال ، بل أضاف إليه تعليم الأقوال ، وهو أن يدعو لهما بالرَّحمة ، فيقول : ربِّ ارحمهما ، ولفظة الرحمة جامعة لكلِّ الخيرات في الدِّين والدنيا ، ثم يقول : { كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } يعني : ربِّ افعل بهما هذا النوع من الإحسان ، كما أحسنا إليَّ في تربيتهما ، والتربية هي التَّنْميَةُ من قولهم : ربَا الشَّيء ، إذا انتفخ قال تعالى : { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ } [ الحج : 5 ] .
واختلف المفسرون في هذه الآية ، فقال ابن عباس - رضي الله عنهما- : إنها منسوخة بقوله تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 113 ] فلا ينبغي للمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين ، ولا يقول : ربِّ ارحمهما{[20355]} .
وقيل إنها مخصوصة بالمسلمين غير منسوخة ، وهذا أولى من القول الأول ؛ لأنَّ التخصيص أولى من النَّسخ .
وقيل : لا نسخ ، ولا تخصيص ؛ لأنَّ الوالدين ، إذا كانا كافرين ، فله أن يدعو لهما بالهداية والإرشاد ، وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان .
فصل في أنّ الأمر يفيد التكرار أم لا ؟
قوله جلَّ ذكرهُ : { وَقُل رَّبِّ ارحمهما } أمرٌ ، وظاهر الأمر لا يفيد التَّكرار ، فيكفي في العمل بمقتضى هذه الآية ذكر هذا القول مرَّة واحدة .
سئل سفيان : كم يدعو الإنسان لوالديه ؟ أفي اليوم مرة ، أو في الشهر ، أو في السَّنة ؟ فقال : نرجو أن يجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات ؛ كما قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ }{[20356]} [ الأحزاب : 56 ] فكانوا يرون أن التشهد يجزي عن الصلاة على النبيِّ - صلوات الله وسلامه عليه- .
وكقوله تعالى : { واذكروا الله في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } [ البقرة : 203 ] فهم يكرِّرون في أدبار الصلاة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.