قوله تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } .
لما ذكر في الآية المتقدمة ما هو الركن الأعظم في الإيمان ، أتبعه بذكر ما هو من شعائر الإيمان وشرائعه ، وهي أنواع :
الأول : أن يشتغل الإنسان بعبادة الله سبحانه وتعالى ، ويتحرَّز عن عبادة غير الله تعالى .
والقضاءُ : الحكم الجزم البتُّ الذي لا يقبل النسخ ؛ لأنَّ الواحد منا ، إذا أمر غيره بشيءٍ لا يقال : قضى عليه ، فإذا أمره أمراً جزماً ، وحكم عليه بذلك على سبيل البتِّ والقطع ، فها هنا يقال : قضى عليه ، وروى ميمون بن مهران عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - أنه قال في هذه الآية : كان الأصلُ : " ووصَّى ربُّكَ " ، فالتصقت إحدى الواوين بالصَّاد ، فصارت قافاً فقرئ " وقَضَى ربُّكَ " {[20307]} .
ثم قال : ولو كان على القضاء ما عصى الله أحدٌ قط ؛ لأنَّ خلاف قضاء الله ممتنعٌ ، هذا رواه عنه الضحاك بنُ مزاحم{[20308]} ، وسعيد بن جبيرٍ ، وهو قراءة عليٍّ وعبد الله .
وهذا القول بعيدٌ جدًّا ؛ لأنه يفتح باب أنَّ التحريف والتغيير قد تطرق إلى القرآن ، ولو جوَّزنا ذلك ، لارتفع الأمانُ عن القرآن ، وذلك يخرجه عن كونه حجَّة ، وذلك طعنٌ عظيمٌ في الدِّين .
وقرأ الجمهور " قَضَى " فعلاً ماضياً ، فقيل : هي على موضوعها الأصلي ؛ قال ابن عطية : " ويكون الضمير في " تَعْبدُوا " للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة " .
وقال ابن عبَّاس وقتادة والحسن بمعنى : أمَرَ{[20309]} .
وقال مجاهد : بمعنى : أوصى{[20310]} .
وقال الربيع بن أنسٍ : أوجب وألزم{[20311]} .
وقرأ بعض ولد معاذ بن جبل : " وقضاءُ ربِّك " اسماً مصدراً مرفوعاً بالابتداء ، و " ألاَّ تَعْبدُوا " خبره .
قوله تعالى : { أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } : يجوز أن تكون " أنْ " مفسرة ؛ لأنها بعد ما هو بمعنى القول ، و " لا " ناهية ، ويجوز أن تكون الناصبة ، و " لا " نافية ، أي : بأن لا ، ويجوز أن تكون المخففة ، واسمها ضمير الشأن ، و " لا " ناهية أيضاً ، والجملة خبرها ، وفيه إشكال ؛ من حيث وقوع الطَّلب خبراً لهذا الباب ، ومثله في هذا الإشكال قوله : { أَن بُورِكَ مَن فِي النار } [ النمل : 8 ] ، وقوله : { أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ } [ النور : 9 ] لكونه دعاء ، وهو طلبٌ أيضاً ، ويجوز أن تكون الناصبة ، و " لا " زائدة . [ قال أبو البقاء{[20312]} : " ويجوز أن يكون في موضع نصب ، [ أي : ] ألزم ربُّك عبادته و " لا " زائدة " ] . قال أبو حيَّان : " وهذا وهمٌ ؛ لدخول " إلاَّ " على مفعول " تَعْبدُوا " فلزم أن يكون نفياً ، أو نهياً " .
قوله تعالى : { وبالوالدين إِحْسَاناً } قد تقدم نظيره في البقرة .
وقال الحوفي : " الباء متعلقة ب " قَضَى " ويجوز أن تكون متعلقة بفعلٍ محذوف تقديره : وأوصى بالوالدين إحساناً ، و " إحساناً " مصدر ، أي : يحسنون بالوالدين إحساناً " .
وقال الواحديُّ : " الباءُ من صلة الإحسان ، فقدِّمت عليه ؛ كما تقول : بزيدٍ فانزل " {[20313]} وقد منع الزمخشري هذا الوجه ؛ قال : " لأنَّ المصدر لا يتقدَّم عليه معموله " . قال شهاب الدين : والذي ينبغي أن يقال : إنَّ هذا المصدر إن عنى به أنَّه ينحلُّ لحرفٍ مصدريٍّ ، وفعلٍ ، فالأمر على ما ذكر الزمخشريُّ ، وإن كان بدلاً من اللفظ بالفعل ، فالأمرُ على ما قال الواحديُّ ، فالجوازُ والمنع بهذين الاعتبارين .
وقال ابن عطية : " قوله { وبالوالدين إِحْسَاناً } عطف على " أنْ " الأولى ، أي : أمر الله ألاَّ تعبدوا إلاَّ إيَّاه ، وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً " . واختار أبو حيَّان أن يكون " إحْسَاناً " مصدراً واقعاً موقع الفعل ، وأنَّ " أنْ " مفسرة ، و " لا " ناهية ، قال : فيكون قد عطف ما هو بمعنى الأمر على نهيٍ ؛ كقوله : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . *** يقُولُونَ : لا تهْلِكَ أسًى وتَجمَّلِ{[20314]}
قلت : و " أحْسنَ " و " أسَاءَ " يتعدَّيان ب " إلى " وب " الباء " . قال تعالى : { وَقَدْ أَحْسَنَ بي } [ يوسف : 100 ] وقال كثير عزَّة : [ الطويل ]
أسِيئي بِنَا أو أحْسِنِي لا مَلُومَة *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[20315]}
وكأنه ضُمِّن " أحْسنَ " لمعنى " لَطُفَ " فتعدَّى تعديته .
لما أمر بعبادة نفسه أتبعه ببرِّ الوالدين ، ووجه المناسبة بين الأمرين أمورٌ :
أوَّلها : أنَّ السبب الحقيقيَّ لوجود الإنسان هو تخليق الله وإيجاده ، والسبب الظاهريّ هو الأبوان ، فأمر بتعظيم السبب الحقيقي ، ثم أتبعه بالأمر بتعظيم السبب الظاهري .
وثانيها : أنَّ الموجود : إما قديمٌ ، وإما محدث ، ويجب أن تكون معاملة الإنسان مع الإله القديم بالتعظيم والعبودية ، ومع المحدث بإظهار الشفقة ، وهو المراد من قوله - صلوات الله البرِّ الرَّحيم وسلامه عليه- : " والتعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله " {[20316]} وأحقُّ الخلق بالشفقة الأبوان ؛ لكثرة إنعامهما على الإنسان . فقوله تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } إشارة إلى التَّعظيم لأمر الله تعالى ، وقوله تعالى : { وبالوالدين إِحْسَاناً } إشارة إلى الشَّفقة على خلق الله .
وثالثها : أنَّ الاشتغال بشكر المنعم واجبٌ ، ثمَّ المنعم الحقيقي هو الخالق سبحانه وتعالى جلَّ ذكره لا إله إلا هو ، وقد يكون بعض المخلوقين منعماً عليك ، وشكره أيضاً واجبٌ ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ لمْ يشكُر النَّاس ، لمْ يشكُر الله " {[20317]} ، وليس لأحدٍ من الخلائق نعمةٌ على الإنسان مثل ما للوالدين ، وتقريره من وجوه :
أحدها : أن الولد قطعةٌ من الوالدين ؛ قال - عليه السلام-{[20318]} : " فَاطِمةُ بضَعةٌ منِّي يُؤذِينِي ما يُؤذيها " {[20319]} .
وأيضاً شفقة الوالدين على الولد عظيمة ، وجدهما في إيصال الخير إلى الولد أمرٌ طبيعيٌّ ، واحترازهما عن إيصال الضرر إليه أمر طبيعيٌّ أيضاً ؛ فوجب أن تكون نعم الوالدين على الولد كثيرة ، بل هي أكثر من كلِّ نعمة تصل من إنسانٍ إلى إنسانٍ .
وأيضاً : حال ما يكون الإنسان في غاية الضَّعفِ ونهاية العجز يكون جميعُ أصناف نعم الأبوين في ذلك الوقت واصلة إلى الولدِ ، وإذا وقع الإنعام على هذا الوجه ، كان موقعه عظيماً .
وأيضاً : فإيصال الخير إلى الغير قد يكون لداعية إيصال الخير إليه ، وإيصال الخير إلى الولد ليس لهذا الغرض ، فكان الإنعام فيه أتمَّ وأكمل ، فثبت بهذه الوجوه أنه ليس لأحدٍ من المخلوقين نعمةٌ على غيره مثل ما للوالدين على الولدِ ، فلهذا بدأ الله بشكر نعمة الخالق ؛ فقال تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } ثم أردفه بشكر نعمة الوالدين ، فقال تعالى : { وبالوالدين إِحْسَاناً } . فإن قيل : إنَّ الوالدين إنَّما طلبا تحصيل اللذَّة لأنفسهما ؛ فلزم منه دخول الولد في الوجود ، ودخوله في عالم الآفات والمخافات ، فأيُّ إنعامٍ للأبوين على الولد .
يحكى أن بعض المنتسبين للحكمة كان يضربُ أباه ، ويقول : هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد ، وعرَّضني للموت ، والفقر ، والعمى ، والزَّمانة .
وقيل لأبي العلاء المعرِّي : ماذا تكتب على قبرك ؟ فقال اكتبوا عليه : [ الكامل ]
هَذَا جَناهُ أبِي عَلَيْ *** يَ وما جَنَيْتُ عَلى أحَدْ{[20320]}
وقال في ترك التزوج والولد : [ الكامل ]
وتَركْتُ فِيهِمْ نِعْمةَ الْ *** عدم التي سبقت نعيم العاجل
ولوْ أنَّهُمْ ولَدُوا لعَانَوا شِدَّة *** تَرْمِي بِهمْ في مُوبِقاتِ الآجلِ{[20321]}
وقيل للإسكندر : أستاذك أعظم ملَّة عليك أم والدك ؟ فقال : الأستاذ أعظم منَّة ؛ لأنَّه تحمَّل أنواع الشَّدائد عند تعليمي وأوقفني في نور العلم ، وأمَّا الوالدُ فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه ، فأخرجني إلى آفاتِ عالمِ الكون والفساد . ومن الكلمات المشهورة المأثورة : " خَيْرُ الآبَاءِ من عَلَّمكَ " والجواب :
هبْ أنَّه في أوَّل الأمر طلب لذة الوقاع ، إلاَّ أن الاهتمام بإيصال الخيراتِ إليه ، ودفع الآفاتِ من أوَّل دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر ، أليس أنَّه أعظم من جميع ما يصل إليه من جهاتِ الخيرات والمبرات ؟ فسقطت هذه الشبهات .
واعلم أن لفظ الآية يدلُّ على معانٍ كثيرة ، كل واحدٍ منها يوجب المبالغة في الإحسان إلى الوالدين ، منها أنه تبارك وتعالى قال في الآية المتقدمة : { وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } [ الإسراء : 19 ] ، ثم أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي يحصل بها الفوز بسعادة الآخرة . وذكر من جملتها البرَّ بالوالدين ، وذلك يدلُّ على أن هذه الطاعة من أصول الطَّاعات التي تفيد سعادة الآخرة .
ومنها أنَّه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتَّوحيد ، وثنَّى بطاعة الله ، وثلَّث ببرِّ الوالدين ، وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطَّاعة .
ومنها : أنه تعالى لم يقل : " وإحْسَاناً بالوَالِديْنِ " ، بل قال : { وبالوالدين إِحْسَاناً } ، فتقديم ذكرهما يدل على شدَّة الاهتمام .
ومنها : أنه تعالى قال : " إحْسَاناً " بلفظ التنكير ، والتنكير يدلُّ على التعظيم ، أي : إحساناً عظيماً كاملاً ؛ لأنَّ إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة ؛ فوجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك ، وإن لم تحسن إليهما كذلك ، فلا تحصل المكافأة ؛ لأنَّ إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداءِ ، وفي الأمثال المشهورة : " إنَّ البَادِئ بالبرِّ لا يُكَافأ " .
قوله تعالى : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ } قرأ الأخوان{[20322]} " يَبْلغانِّ " بألف التثنية قبل نون التوكيد المشددة المكسورةِ ، والباقون دون ألف وبفتحِ النون ، فأمَّا القراءة الأولى ، ففيها أوجه :
أحدها : أن الألف ضمير الوالدين ؛ لتقدُّم ذكرهما ، و " أحَدُهمَا " بدلٌ منه ، و " أو كلاهما " عطف عليه ، وإليه نحا الزمخشريُّ وغيره ، واستشكله بعضهم بأنَّ قوله " أحَدهُمَا " بدل بعضٍ من كلٍّ ، لا كل من كلٍّ ؛ لأنه غير وافٍ بمعنى الأول ، وقوله بعد ذلك " أو كلاهما " عطف على البدل ، فيكون بدلاً ، وهو من بدل الكلِّ من الكلِّ ؛ لأنه مرادف لألف التثنية ، لكنه لا يجوز أن يكون بدلاً ؛ لعروِّه عن الفائدة ؛ إذ المستفادُ من ألف التثنية هو المستفاد من " كِلاهمَا " فلم يفد البدل زيادة على المبدل منه .
قال شهاب الدين : هذا معنى قول أبي حيَّان ، وفيه نظر ؛ إذ لقائلٍ أن يقول : مسلَّمٌ أنَّه لم يفد البدل زيادة على المبدل منه ، لكنه لا يضرُّ ؛ لأنه شأن التأكيد ، ولو أفاد زيادة أخرى غير مفهومة من الأول كان تأسيساً لا تأكيداً ، وعلى تقدير تسليم ذلك ، فقد يجاب عنه بما قال ابن عطيَّة ؛ فإنه قال بعد ذكره هذا الوجه : وهو بدلٌ مقسِّم ؛ كقول الشاعر : [ الطويل ]
وكُنْتُ كَذِي رجْليْنِ رجْلٍ صَحِيحَةٍ *** ورِجْلٍ رَمَى فيها الزَّمانُ فشَلَّتِ{[20323]}
إلا أنَّ أبا حيَّان تعقَّب كلامه ، فقال : " أمَّا قوله : بدلٌ مقسم ؛ كقوله :
" وكُنْتُ *** . . . . . . . . . . " {[20324]}
فليس كذلك ؛ لأنَّ شرطه العطف بالواو ، وأيضر فشرطه : ألاَّ يصدق المبدل منه على أحد قسميه ، لكن هنا يصدق على أحد قسميه ؛ ألا ترى أنَّ الألف ، وهي المبدل منه يصدق على أحد قسميها ، وهو " كلاهما " فليس من البدلِ{[20325]} المقسِّم " . ومتى سلِّم له الشرطان ، لزم ما قاله .
الثاني : أن الألف ليست ضميراً ، بل علامة تثنية ، و " أحَدُهمَا " فاعل بالفعل قبله ، و " أو كِلاهُمَا " عطف عليه ، وقد ردَّ هذا الوجه : بأنَّ شرط الفعل الملحقِ به علامة تثنية : أن يكون مسنداً لمثنى ؛ نحو : قَامَا أخواك ، أو إلى مفرَّق بالعطف بالواو خاصة على خلاف فيه ؛ نحو : " قَامَا زيدٌ وعمرٌو " ، لكنَّ الصحيح جوازه ؛ لوروده سماعاً كقوله : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وقَدْ أسْلمَاهُ مُبعدٌ وحَمِيمُ{[20326]}
والفعلُ هنا مسندٌ إلى " أحدهما " وليس مثنًّى ، ولا مفرَّقاً بالعطف بالواو .
الثالث : نقل عن الفارسي أن " كلاهما " توكيد ، وهذا لابد من إصلاحه بزيادة ، وهو أن يجعل " أحدهما " بدل بعضٍ من كلٍّ ، ويضمر بعده فعلٌ رافعٌ لضمير تثنية ، ويقع " كلاهما " توكيداً لذلك الضمير تقديره : أو يبلغا كلاهما ، إلا أنه فيه حذف المؤكد وإبقاء التوكيد ، وفيها خلاف ، أجازها الخليل وسيبويه{[20327]} نحو : " مَررْتُ بزَيْدٍ ، ورَأيْتُ أخَاكَ أنْفُسَهُمَا " بالرفع والنصب ، فالرفع على تقدير : هما أنفسهما ، والنصب على تقدير أعينهما أنفسهما ، ولكن في هذا نظرٌ ؛ من حيث إنَّ المنقول عن الفارسي منع حذف المؤكَّد وإبقاء توكيده ، فكيف يخرَّجُ قوله على أصلٍ لا يجيزه ؟ .
وقد نصَّ الزمخشريُّ على منع التوكيدِ ، فقال : " فإن قلت : لو قيل : " إمَّا يَبْلغانِّ كلاهما " كان " كِلاهما " توكيداً لا بدلاً ، فما لك زعمْتَ أنه بدلٌ ؟ قلت : لأنه معطوفٌ على ما لا يصحُّ أن يكون توكيداً للاثنين ، فانتظم في حكمه ؛ فوجب أن يكون مثله " قلت : يعني أنَّ " أحدهما " لا يصلح أن يكون توكيداً للمثنى ، ولا لغيرهما ، فكذا ما عطف عليه ؛ لأنه شريكه .
ثم قال : " فإن قلت : ما ضرَّك لو جعلته توكيداً مع كونِ المعطوف عليه بدلاً ، وعطفت التوكيد على البدل ؟ قلت : لو أريد توكيد التثنية ، لقيل : " كِلاهُمَا " فحسب ، فلما قيل : " أحَدهُمَا أو كِلاهُمَا " علم أنَّ التوكيد غير مرادٍ ، فكان بدلاً مثل الأول " .
الرابع : أن يرتفع " كِلاهُمَا " بفعل مقدرٍ تقديره : أو يبلغُ كلاهما ، ويكون " أحدهما " بدلاً من ألف الضمير بدل بعضٍ من كلٍّ ، والمعنى : إمَّا يبلغنَّ عندك أحد الوالدين أو يبلغ كلاهما .
قال البغوي{[20328]} - رحمه الله - فعلى قراءة حمزة والكسائي قوله : " أحَدهُمَا أو كِلاهُمَا " كلام مستأنف ؛ كقوله تعالى : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } [ المائدة : 71 ] وقوله تعالى : { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] فقوله : { الذين ظَلَمُواْ } ابتداء .
وأما القراءة الثانية فواضحة ، و " إمَّا " هي " إنْ " الشرطية زيدتْ عليها " ما " توكيداً ، فأدغم أحد المتقاربين في الآخر بعد أن قلب إليه ، وهو إدغام واجب ، قال الزمخشريُّ : " هي إن الشرطية زيدت عليها " ما " توكيداً لها ؛ ولذلك دخلت النون ، ولو أفردت " إنْ " لم يصحَّ دخولها ، لا تقول : إن تُكرمنَّ زيداً ، يُكرمْكَ ، ولكن : إمَّا تُكرِمنَّهُ " .
وهذا الذي قاله الزمخشريُّ نصَّ سيبويه على خلافه ، قال سيبويه{[20329]} :
وإنْ شِئْتَ ، لم تُقْحمِ النون ، كما أنك ، إن شئت ، لم تجئ ب " مَا " قال أبو حيَّان : " يعني مع النون وعدمها " وفي هذا نظر ؛ لأنَّ سيبويه ، إنما نصَّ على أنَّ نون التوكيد لا يجب الإتيان بها بعد " أمَّا " وإن كان أبو إسحاق قال بوجوب ذلك ، وقوله بعد ذلك : كما أنَّك إن شِئْتَ لم تجئ ب " مَا " ليس فيه دليلٌ على جواز توكيد الشَّرط مع " إنْ " وحدها .
و " عِندكَ " ظرفٌ ل " يَبْلغَنَّ " و " كِلا " مثناةٌ معنى من غير خلاف ، وإنما اختلفوا في تثنيتها لفظاً : فمذهب البصريِّين : أنها مفردة لفظاً ، ووزنها على فعل ؛ ك " مِعَى " وألفها منقلبة عن واوٍ ، بدليل قلبها تاء في " كِلْتَا " مؤنث " كِلا " هذا هو المشهور ، وقيل : ألفها عن ياءٍ ، وليس بشيءٍ ، وقال الكوفيُّون : هي مثناة لفظاً ؛ وتبعهم السهيليُّ مستدلِّين على ذلك بقوله : [ الرجز ]
في كِلْتِ رِجْليْهَا سُلامَى وَاحِده *** . . . . . . . . . . . . . . . . . {[20330]}
فنطق بمفردها ؛ ولذلك تعربُ بالألف رفعاً والياء نصباً وجراً ، فألفها زائدة على ماهية الكلمة كألف " الزيدان " ، ولامها محذوفة عند السهيليِّ ، ولم يأت عن الكوفيين نصٌّ في ذلك ، فاحتمل أن يكون الأمر كما قال السهيليُّ ، وأن تكون موضوعة على حرفين فقط ، لأنَّ مذهبهم جواز ذلك في الأسماءِ المعربة .
قال أبو الهيثم الرَّازيُّ{[20331]} وأبو الفتح الموصليُّ ، وأبو عليٍّ الجرجانيُّ إن " كلا " اسم مفرد يفيد معنى التثنية ، ووزنه فعل ، ولامه معتلٌّ بمنزلة لام " حِجَى ورِضَى " وهي كلمة وضعت على هذه الخلقة يؤكد بها الاثنان{[20332]} خاصة ، ولا تكون إلا مضافة{[20333]} ؛ لأنَّها لو كانت تثنية ، لوجب أن يقال في النَّصب والخفض : " مَرَرْتُ بِكلَي الرَّجليْنِ " بكسر الياء ، كما يقال : " بَيْنَ يَدي الرَّجُل : و " مِنْ ثُلُثي اللَّيْلِ " و " يَا صَاحِبَي السِّجْنِ " و " طَرفي النَّهارِ " ، ولما لم يكن كذلك ، علمنا أنَّها ليست تثنية ، بل هي لفظة مفردة ، وضعت للدلالة على التثنية ، كما أنَّ لفظة " كُل " اسمٌ واحدٌ موضوع للجماعة ، فإذن أخبرت عن لفظه ، كما تخبر عن الواحد ؛ كقوله تعالى : { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً } [ مريم : 95 ] ، فكذا إن أخبرت عن " كِلاَ " أخبرت عن واحدٍ ، فقلت : كلا أخويك كان قائماً .
قال الله تعالى : { كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا } [ الكهف : 33 ] . ولم يقل : " آتَنَا " .
وحكمها : أنَّها متى أضيفت إلى مضمرٍ أعربت إعراب المثنى ، أو إلى ظاهر ، أعْرِبت إعراب المقصور عند جمهور العرب ، وبنو كنانة يعربونها إعراب المثنى مطلقاً ، فيقولون : رأيت كِلَي أخوَيْكَ ، وكونها جرتْ مجرى المثنى مع المضمر ، دون الظاهر يطول ذكره .
ومن أحكامها : أنَّها لا تضافُ إلاَّ إلى مثنى لفظاً [ ومعنى نحو : " كلا الرَّجليْنِ " ] ، أو معنى لا لفظاً ؛ نحو : " كِلانَا " ولا تضاف إلى مفرَّقين بالعطف نحو " كِلا زَيْدٍ وعمرٍو " إلا في ضرورةٍ ؛ كقوله : [ الطويل ]
كلا السيف والساق الذي ذهبت به على مهل باثنين ألقاه صاحبه{[20334]}
وكذا لا تضاف إلى مفرد مراد به التثنية إلا في ضرورة ؛ كقوله : [ الرمل ] .
إنَّ للخَيْرِ وللشَّرِّ مَدًى *** وكِلاَ ذلِكَ وجْهٌ وقَبَلْ{[20335]}
والأكثر مطابقتها فيفرد خبرها وضميرها ؛ نحو : كلاهما قائم ، وكلاهما ضربته ، ويجوز في قليل : قائمان ، وضربتهما ؛ اعتباراً بمعناهما ، وقد جمع الشاعر بينهما في قوله : [ البسيط ]
كِلاهُمَا حِينَ جَدَّ الجَرْيُ بَيْنهُمَا *** قَد أقْلعَا وكِلاَ أنْفَيهِمَا رَابِي{[20336]}
وقد يتعيَّن اعتبارُ اللفظ ؛ نحو : كلانا كفيل صاحبه ، وقد يتعيَّن اعتبارُ المعنى ، ويستعمل تابعاً توكيداً ، وقد لا يتبع ، فيقع مبتدأ ، ومفعولاً به ، ومجروراً ، و " كِلْتَا " في جميع ما ذكر ك " كِلا " وتاؤها بدل عن واو ، وألفها للتأنيث ، ووزنها فعلى ؛ كذكرى ، وقال يونس : ألفها أصلٌ ، وتاؤها مزيدة ، ووزنها فعتلٌ ، وقد ردَّ عليه الناس ، والنسب إليها عند سيبويه{[20337]} : " كِلْوِي " كمذكرها ، وعند يونس : كِلْتَوِيّ ؛ لئلا تلتبس ، ومعنى الآية أنَّهما يبلغان إلى حالة الضَّعف والعجز ، فيصيران عندك في آخر العمر ، كما كنت عندهما في أوَّل العمر .
قوله تعالى : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } قوله : أفّ : اسم فعلٍ مضارعٍ بمعنى أتضجَّر ، وهو قليلٌ ؛ فإنَّ أكثر باب أسماء الأفعال أوامر ، وأقل منه اسم الماضي ، وأقلُّ منه اسم المضارع ؛ ك " أف " وأوَّه ، أي : أتوجَّع ، وويْ ، أي : أعجبُ ، وكان من حقِّها أن تعرب ؛ لوقوعها موقع معربٍ ، وفيها لغاتٌ كثيرة ، وصلها الرُّماني إلى تسع وثلاثين ، وذكر ابنُ عطيَّة لفظة ، بها تمَّت الأربعون ، وهي اثنتان وعشرون مع الهمزة المضمومة : أفُّ ، أفَّ ، أفِّ ، بالتشديد مع التنوين وعدمه ، أفُ ، أفَ ، أفِ ، بالتخفيف مع التنوين وعدمه ، أُفْ بالسكون والتخفيف ؛ أُفّْ بالسكون والتشديد ، أفُّهْ ، أُفَّهْ ، أفِّهْ ، أفَّا من غير إمالة ، وبالإمالة المحضة ، وبالإمالة بين بين ، أفُّو أفِّي ] : بالواو والياء ، وإحدى عشرة مع كسرِ الهمزة : إفَّ ، إفِّ : بالتشديد مع التنوين وعدمه ، أَفُ ، إِفَ ، إِفِ بالتخفيف مع التنوين وعدمه ، إفَّا بالإمالة ، وست مع فتح الهمزة : أفَّ أفِّ ؛ بالتشديد مع التنوين وعدمه ، أفْ بالسكون ، أفا بالألف ، فهذه تسعٌ وثلاثون لغة ، وتمام الأربعين " " أفاهُ " بهاء السكت ، وفي استخراجها بغير هذا الضَّابط الذي ذكرته عسر ونصب ، يحتاج في استخراجه من كتب اللغة ، ومن كلام أهلها ، إلى تتبُّعٍ كثيرٍ ، وأبو حيان لم يزدْ على أن قال : " ونحنُ نسردها مضبوطة كما رأيناها " ، فذكرها ، والنُّسَّاخ خالفوه في ضبطه ، فمن ثمَّ جاء فيه الخللُ ، فعدلنا إلى هذا الضَّابط المذكور ، ولله الحمد والمنة .
وقد قرئ من هذه اللغات بسبعٍ : ثلاثٍ في المتواتر ، وأربعٍ في الشاذ ، فقرأ نافع{[20338]} وحفص بالكسر والتنوين ، وابن كثيرٍ ، وابن عامرٍ بالفتح دون تنوين ، والباقون بالكسر دون تنوين ، ولا خلاف بينهم في تشديد الفاء ، وقرأ نافع في رواية : أفٌ بالرفع والتنوين ، وأبو السَّمال بالضمِّ من غير تنوين ، وزيد بن عليِّ بالنصب والتنوين ، وابن عبَّاسٍ : " أفْ " بالسكون .
قال ابن الخطيب : والبحث المشكل ها هنا أنا لما نقلنا أنواعاً من اللغات في هذه اللفظة ، فما السَّبب في أنَّهم تركوا أكثر تلك اللُّغاتِ في قراءةِ هذه اللفظة ، واقتصروا على وجوه قليلة منها ؟ .
أحدها : قال الفراء : تقول العرب : " لعلَّ فلاناً يَتأفَّفُ من ريحٍ وجدها " معناه : يقول : أفٍّ أفٍّ .
والثاني : قال الأصمعي : الأفُّ : وسخُ الآذانِ ، والتُّفُّ : وسخُ الأظفار ، يقال ذلك عند استقذار الشيء ، ثم كثر ، حتَّى استعملوه عند محلِّ ما يتأذُّون .
الثالث : قال أبو عبيدة - رحمه الله- : أصل الأفِّ والتُّفِّ : الوسخُ على الأصابع إذا فَتلْتَها .
الرابع : الأفُّ : ما يكون في المغابن من الوسخِ ، والتُّفُّ ما يكون في الأصابع من الوسخ .
الخامس : الأفُّ : وسخ الأظافرِ ، والتُّفُّ ما رفعت بيدك من الأرْضِ من شيءٍْ حقيرٍ .
السادس : قيل : أفٍّ : معناه قلًّة ، وهو مأخوذ من الأفيفِ ، وهو الشيء القليل ، وتُفّ : إتباعٌ له ؛ كقولهم شيطانٌ ليطانٌ ، خبيثٌ نبيثٌ .
السابع : روى ثعلبٌ عن ابن الأعرابيّ : الأفُّ : الضجر .
الثامن : قال القتبيُّ : أصل هذه الكلمة أنَّه إذا سقط عليك ترابٌ أو رمادٌ ، نفخت فيه لتزيله ؛ والصَّوْت الحاصل عند تلك النفخةِ هو قولك : أفٍّ ، ثم إنَّهم توسَّعوا ، فذكروا هذه اللفظة عند كلِّ مكروه يصل إليهم .
قال مجاهدٌ : معنى قوله : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } أي : لا تتقذَّرهما : كما أنَّهما لم يتقذَّراك حين كنت تخرى وتبول{[20339]} .
وروي عن مجاهد أيضاً : إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك ، فلا تقل لهما : أفٍّ{[20340]} .
قول القائل : " لا تقلْ لفلانٍ : أفٍّ " مثل يضرب للمنعِ من كل مكروهٍ وأذيَّةٍ ، وإن خفَّ وقلَّ .
واختلف الأصوليُّون في أنَّ دلالة هذا اللفظ على المنع من سائر أنواع الإيذاء دلالةٌ لفظيةٌ ، أو دلالة مفهومة بالقياس ، فقيل : إنها دلالة لفظية ، لأنَّ أهل العرف ، إذا قالوا : لا تقل لفلانٍ أفٍّ ، عنوا به أنَّه لا يتعرض له بنوعٍ من أنواع الأذى ، فهو كقوله : فلانٌ لا يملكُ نقيراً ولا قطْمِيراً فهو بحسب العرف يدلُّ على أنه لا يملك شيئاً .
وقيل : إنَّ هذا اللفظ ، إنَّما دلَّ على المنعِ من سائر أنواعِ الأذى بالقياس الجليِّ .
وتقريره : أنَّ الشَّرع ، إذا نصَّ على حكمٍ في صورةٍ ، وسكت عن حكم في صورةٍ أخرى ، فإذا أردنا إلحاق الصُّورة المسكوت عن حكمها بالصورة المذكور حكمها ، فهذا على ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يكون ثبوت ذلك الحكم في محلِّ السكوت أولى من ثبوته في محلِّ الذِّكر كهذه الصورة ؛ فإنَّ اللفظ إنما دلَّ على المنع من التأفيف ، والضَّرب أولى بالمنع .
وثانيها : أن يكون الحكم في محلِّ السكوت مساوياً للحكم في محلِّ الذِّكر ، وهذا يسمِّيه الأصوليُّون : " القياس في معنى الأصل " كقوله صلوات الله وسلامه عليه : " مَنْ أعْتقَ شِركاً لهُ في عَبْدٍ ، قُوِّمَ عليه البَاقِي " {[20341]} فإنَّ الحكم في الأمَةِ وفي العبد سواء .
وثالثها : أن يكون الحكم في محلِّ السكوت أخفى من الحكم في محلِّ الذِّكرِ ، وهو أكثر القياساتِ .
إذا عرف هذا ، فالمنع من التأفيف ، إنما دلَّ على المنع من الضرب بالقياس الجليِّ من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى ؛ لأنَّ التأفيف غير الضرب ، فالمنع من التأفيف لا يكون منعاً من الضرب ، وأيضاً : المنع من التأفيف لا يستلزم المنع من الضرب عقلاً ؛ لأنَّ الملك الكبير ، إذا أخذ ملكاً عظيماً ، كان عدُوًّا له ، فقد يقول للجلاَّد : إيَّاك أن تستخفَّ به أو تشافهه بكلمة موحشةٍ ، لكن اضرب رقبته ، وإذا كان هذا معقولاً في الجملة ، علمنا أنَّ المنع من التأفيف يغاير المنع من الضرب ، وغير مستلزم للمنع من الضرب في الجملة إلاَّ أنَّا علمنا في هذه الصورة : أنَّ المقصود من هذا الكلام المبالغة في تعظيم الوالدين ، لقوله تعالى : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة } .
فكانت دلالة المنع من التأفيف على المنع من الضرب بالقياس من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى .
قوله : " ولا تَنْهَرْهُمَا " أي : لا تَزْجُرهما ، والنَّهْرُ : الزَّجْرُ بصياحٍ وغلظة وأصله الظهور ، ومنه " النَّهْر " لظهوره ، وقال الزمخشري - رحمه الله تعالى- : " النَّهْيُ والنَّهْرُ والنَّهْمُ أخَواتٌ " .
ويقال نهرهُ وانتهره ، إذا استقبله بكلامٍ يزجره ، قال تعالى : { وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 10 ] .
فإن قيل : المنع من التأفيف يدلُّ على المنع من الانتهار ؛ بطريق الأولى ، فلما قدم المنع من التأفيف ، كان المنع من الانتهار بعده عبثاً ، ولو فرضنا أنه قدَّم المنع من الانتهار على المنع من التأفيف ، كان مفيداً ؛ لأنه يلزم من المنع من الانتهار المنع من التأفيف ، فما السَّبب في رعاية هذا التَّرتيب ؟ .
فالجواب{[20342]} : أن المراد من قوله تعالى : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } المنع من إظهار الضَّجر بالقليل والكثير ، والمراد من قوله { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الردِّ عليه .
قوله تعالى : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } لمَّا منعه من القول المؤذي ، وذلك لا يكون أمراً بالقول الطَّيب ، فلا جرم : أردفه بأن أمره بالقول الحسن ، فقال : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } .
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- : هو أن يقول له : يا أبتَاهُ يا أمَّاهُ{[20343]} ، وقال عطاء : هو أن تتكلَّم معهما بشرط ألاَّ ترفع إليهما بصرك{[20344]} .
وقال مجاهد : لا تُسمِّهِمَا و لاتكنِّهما{[20345]} ، فهو كقول عمر - رضي الله عنه-
فإن قيل : إنَّ إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - كان أعظم النَّاس حلماً وكرماً وأدباً ، فكيف قال لأبيه : " يا آزرُ " على قراءة " لأبِيهِ آزَرُ " بالضمِّ { إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 74 ] فخاطبه بالاسم ، وهو إيذاءٌ له ، ثم نسبه ونسب قومه إلى الضلال ، وهو أعظم أنواع الإيذاء .
فالجواب أن قوله تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَانا } يدلُّ على أنَّ حقَّ الله متقدِّم على حقِّ الأبوين ، فإقدام إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - على ذلك الإيذاء ، إنَّما كان تقديماً لحق الله تعالى على حقِّ الأبوين .