اعلم أن المشركين طعنوا في الإسلام فقالوا : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ، ثم ينهاهم عنه ، ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولاً ، وغداً يرجع عنه ، كما قال تعالى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ } [ النحل : 101 ] فنزلت هذه الآية .
أحدهما وهو الظاهر أنها مفعول مقدم ل " ننسخ " ، وهي شرطية أيضاً جازمة ل " ننسخ " ولكنها واقعة موقع المصدر ، و " من آية " هو المفعول به ، والتقدير : أي شيء ننسخ كقوله : { أَيّاً مَّا تَدْعُواْ } [ الإسراء : 110 ] ، أو : أيَّ نَسْخ نَنْسَخ من آية ، قاله أبو البقاء وغيره ، وقالوا : مجيء " ما " مصدراً جائز ؛ وأنشدوا : [ الكامل ]
726- نَعَبَ الغُرَابُ فَقُلْتُ بَيْنٌ عَاجِلٌ *** ما شِئْتَ إذْ ظَعَنُوا لِبَيْنٍ فَانْعَبِ{[1659]}
أحدهما : أنه يلزم خلوّ جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط ، وهو غير جائز ، لما تقدم عند قوله : { مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } [ البقرة : 97 ] .
والثاني : أن " مِنْ " لا تزاد في الموجب ، والشرط موجب ، [ وهذا فيه خلاف لبعض ]{[1660]} البصريين أجاز زيادتها في الشرط ؛ لأنه يشبه النفي ، ولكنه خلاف ضعيف .
وقرأ ابن عامر{[1661]} : " نُنْسِخْ " بضم النون ، وكسر السين من " أنسخ " .
قال أبو حاتم : " هو غلط " وهذه جُرْأة منه على عادته .
وقال أبو علي : " ليست لغة " ؛ لأنه لا يقال : نسخ وأنسخ بمعنى ، ولا هي للتعدية ؛ لأن المعنى يجيء : ما نكتب من آية ، وما ننزل من آية ، فيجيء القرآن كله على هذا منسوخاً ، وليس الأمر كذلك ، فلم يبق إلا أن يكون المعنى : ما نَجِدْه منسوخاً كما يقال : أحمدته وأبخلته ، أي : وجدته كذلك ، ثم قال : " وليس نجده منسوخاً إلاّ بأن ننسخه ، فتتفق القراءتان في المعنى ، وإن اختلفتا في اللفظ " .
فالهمزة عنده ليست للتعدية . وجعل الزمخشري ، وابن عطية الهمزة للتعدية ، إلا أنهما اختلفا في تقدير المفعول الأول المحذوف ، وفي معنى الإنساخ ، فجعل الزمخشري المفعول المحذوف جبريل عليه السّلام ، والإنساخ هو الأمر بنسخها ، أي : الإعلام به .
وجعل ابن عطية المفعول ضمير النبي عليه السلام ، والإنساخ إباحة النَّسْخ لنبيه ، كأنه لما نسخها أباح له تركها ، فسمى تلك الإباحة إنساخاً .
وخرج ابن عطية القراءة{[1662]} على كون الهمزة للتعدية من وجه آخر ، وهو من نسخ الكتاب ، وهو نقله من غير إزالة له .
قال : ويكون المعنى : ما نكتب وننزل من اللَّوح المحفوظ ، أو ما نؤخر فيه ، ونتركه فلا ننزله ، أي ذلك فعلنا فإنا{[1663]} نأتي بخير من المؤخر المتروك أو بمثله ، فيجيء الضميران في " منها " و " بمثلها " عائدين على الضمير في " نَنسَأْهَا " .
قال أبو حيان{[1664]} : وذهل عن القاعدة ، وهي أنه لا بد من ضمير يعود من الجزاء على اسم الشرط ، و " ما " في قوله : " ما ننسخ " شرطية ، وقوله : " أو ننسأها " عائد على الآية ، وإن كان المعنى ليس عائداً عليها من حيث اللفظ والمعنى ، بل إنما يعود عليها من حيث اللفظ فقط نحو : عندي درهم ونصفه ، فهو في الحقيقة على إضمار " ما " الشرطية ، التقدير : أو ما ننسأ من آية ضرورة أن المنسوخ غير المنسوء ، ولكن يبقى قوله : ما ننسخ من آية مفلتاً من الجواب ؛ إذ لا رابط يعود منه إليه ، فبطل هذا المعنى الذي قاله .
والنسخ في اللغة{[1665]} هو الإزالة من غير بدل يعقبه ، يقال : نسخت الرِّيح الأثر ، والشمسُ الظِّلَّ ، وقال القَفَّال : " إنه للنقل والتحويل " ، ومنه : نسخت الكتاب : إذا نقلته ، وتناسخ الأرواح ، وتناسخت القرون .
وتناسخ المواريث إنما هو التحول من واحد إلى آخر بدلاً من الأول .
دليل الأول أنه إذا نسخ الأثر والظّل ، فهو إعدامه ؛ لأنه قد لا يحصل الظل في مكان آخر حتى يظن أنه انتقل إليه .
وقال تعالى : { فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } [ الحج : 52 ] أي : فيزيله ويبطله ، والأصل في الكلام الحقيقة . وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في الإبطال وجب ألاَّ يكون حقيقة في النقل دفعاً للاشتراك .
فإن قيل : الريح والشمس ليسا مزيلين للأثر والظل في الحقيقة ، وإنما المزيل في الحقيقة هو الله تعالى وإذا كان ذلك مجازاً امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة في مدلوله ، ثم نعارض ما ذكرتموه ، [ ويقال ]{[1666]} : بل النسخ هو النقل والتحويل ، [ ومنه نسخ الكتاب إلى كتاب آخر ، كأنه ينقله إليه ، أو ينقل حكايته ]{[1667]} كما قلنا في نسخ الكتاب والأرواح والقُرون والمواريث ، فإنه تحويل من واحد إلى آخر .
وإذا كان كذلك فيكون حقيقة في النقل مَجَاز في الإبطال دفعاً للاشتراك .
[ وأجيب ]{[1668]} عن الأول من وجهين :
أحدهما : أنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى هو الناسخ لذلك من حيث إنه فعل الشمس والريح المؤثرتين في تلك الإزالة ، ويكونان ناسخين لكونهما مختصين بذلك التأثير .
والثاني : أن أهل اللغة إنما أخطئوا في إضافة النسخ إلى الشمس والريح ، فَهَبْ أنه كذلك ، لكن تمسكنا بإطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة لإسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس .
وعن الثاني : أن النقل أخصّ من الإبطال ، لأنه حيث وجد النقل ، فقد عدمت صفة ، وحصل عقيبها صفة أخرى ، فإن مطلق العدم أهم من عدم يحصل عقيبه شيء آخر ، وإذا دار اللَّفظ بين الخاص والعام كان جعله حقيقة في العام أولى . وقال آخر{[1669]} : [ والنسخ : الإزالة ، وهو في اللغة على ضربين :
ضرب فيه إزالة شيء وإقامة غيره مقامه نحو : نسخت الشمس الظل ، إذا أزالته وقامت مقامه .
والثاني : أن يزيله كما تزيل الريح الأثر ]{[1670]} .
قوله : " مِنْ آيَةٍ " " من " للتبعيض ، فهي متعلقة بمحذوف ؛ لأنها صفة لاسم الشرط ، ويضعف جعلها حالاً ، والمعنى : أي شيء ننسخ من الآيات ، ف " آية " مفرد وقع موقع الجمع ، وكذلك تخريج كل ما جاء من هذا التركيب : { مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } [ فاطر : 2 ] { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } [ النحل : 53 ] ، وهذا المجرور هو المخصص والمبين لاسم الشرط ؛ وذلك أن فيه إبْهَاماً من جهة عمومه ، ألا ترى أنك لو قلت : " من يكرم أكرم " {[1671]} تناول النساء والرجال . فإذا قلت : " من الرجال " بيّنت وخصّصت ما تناوله اسم الشرط .
وأجاز أبو البقاء رحمه الله تعالى فيها وجهين آخرين :
أحدهما : أنها في موضع نصب على التمييز ، والمُمَيَّز " ما " والتقدير : أيَّ شيء ننسخ ، قال : ولا يحسن أن تقدر : أي آية ننسخ ، لأنك لا تجمع بين " آية " ، وبين المميز بآية ، لا تقول : أي آية ننسخ من آية ، يعني أنك لو قدرت ذلك لاستغنيت عن التمييز .
والثاني : أنها زائدة و " آية " حال ، والمعنى : أي شيء ننسخ قليلاً أو كثيراً ، وقد جاءت " آية " حالاً في قوله : { هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً } [ الأعراف : 73 ] أي : " علامة " وهذا فاسد ؛ لأن الحال لا تجر ب " من " ، وقد تقدم أنها مفعول بها ، و " من " زائدة على القول بجعل " ما " واقعة موقع المصدر ، فهذه أربعة أوجه .
قوله تعالى : " أوْ نُنْسِهَا " " أو " [ هنا للتقسيم ] ، و " نُنْسِهَا " مجزوم عطفاً على فعل الشرط قبله .
وفيها ثلاث{[1672]} عشرة قراءة : " نَنْسَأَهَا " بفتح حرف المضارعة ، ن وسكون النون ، وفتح السين مع الهمزة ، وبها قرأ أبو عمرو وابن كثير .
الثانية : كذلك إلا أنه بغير همز ، ذكرها أبو عبيد البكري{[1673]} عن سعد بن أبي وَقّاص رضي الله عنه .
قال ابن عطية : " وأراه وهم " .
الثالثة : " تَنْسَها " بفتح التاء التي للخطاب ، بعدها نون ساكنة وسين مفتوحة من غير همز ، وهي قراءة الحسن ، وتروى عن ابن أبي وقاص ، فقيل لسعد بن أبي وقاص : " إن سعيد بن المسيب يقرؤها بنون أولى مضمومة وسين مكسورة فقال : إن القرآن لم ينزل على المسيب ، ولا على ابن المسيب " وتلا : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى } [ الأعلى : 6 ] { وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [ الكهف : 24 ] يعني سعد بذلك أن نسبة النسيان إليه عليه الصلاة والسلام موجودة في كتاب الله ، فهذا مثله .
الرابعة : كذلك إلا أنه بالهمز .
الخامسة : كذلك إلا أنه بضم التاء ، وهي قراءة أبي حيوة .
السادسة : كذلك إلا أنه بغير همز ، وهي قراءة سعيد بن المسيب .
السابعة : " نُنْسِهَا " بضم حرف المضارعة وسكون النون وكسر السين من غير همز ، وهي قراءة باقي السبعة .
الثامنة : كذلك إلا أنه بالهمزة .
التاسعة : نُنَسِّها بضم حرف المضارعة وفتح النون وكسر السين [ مشددة ، وهي قراءة الضَّحاك ، وأبي رجاء{[1674]} .
العاشرة : " نُنْسِك " ، بضمّ حرف المضارعة ، وسكون النون ، وكسر السين ، وكاف بعدها للخطاب .
الحادية عشرة : ]{[1675]} كذلك إلا أنه بفتح النون الثانية ، وتشديد السين مكسورة ، وتروى عن الضحاك ، وأبي رجاء أيضاً .
الثانية عشرة : كذلك إلاَّ أنه بزيادة ضمير الآية بعد الكاف " نُنَسِّكَها " وهي قراءة حذيفة ، وكذلك هي في مصحف سالم مولاه .
الثالثة عشرة : " ما نُنْسِك من آية أو نَنْسَخْها فَجِئ بمثلها " وهي قراءة الأعمش ، وهكذا ثبت في مصحف عبد الله .
فأما قراءة الهَمْز على اختلاف وجوهها ، فمعناها التأخير من قولهم : نَسأَ الله ، وأنسأ الله في أَجَلك أي : أَخَّرَهُ ، وبِعْتُه نَسِيئَةً أي متأخراً .
وتقول العرب : نَسَأْت الإبل عن الحوض أنْسَؤُهَا نَسْئاً ، وأنسأ الإبل : إذا أخرها عن ورودها يومين فأكثر ، فمعنى الآية على هذا فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : نؤخر نسخها ، ونزولها ، وهو قول عطاء .
الثاني : نمحها لفظاً وحكماً ، وهو قول ابن زيد .
الثالث : نُمضها فلا نَنْسَخْها ، وهو قول أبي عبيد ، [ قال الشاعر : [ الطويل ]
727- أَمُونٍ كَألوَاحِ الإِرَانِ نَسَأْتُهَا *** عَلَى لاَحِبٍ كَأَنَّهُ ظَهْرُ{[1676]} ]{[1677]}
وهو ضعيف لقوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } ؛ لأن ما أُمْضِي وأُقِرَّ لا يقال فيه : فَأْت بخير منه .
وأما قراءة غير الهمز على اختلاف وجوهها أيضاً ففيها احتمالان :
أظهرهما : أنها من النِّسْيَان ، وحينئذ يحتمل أن يكون المراد به في بعض القراءات ضدّ الذكر ، وفي بعضها الترك .
فإن قيل : وقوع هذا النسيان [ يتمنع ]{[1678]} عقلاً ونقلاً .
أما العقل فلأن القرآن لا بدّ من انتقاله إلى أهل التواتر ، والنسيان على أهل التواتر بأجمعهم ممتنع .
وأما النقل فلقوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
الأول : أن النسيان يصح بأن يأمر الله تعالى بطرحه من القرآن ، وإخراجه من جملة ما يتلى ، ويؤتى به في الصَّلاة ويحتج به ، فإذا زال حكم التعبُّد به قال : العهد نسي ، وإن ذكر فعلى طريق ما يذكر خبر الواحد ، فيصير لهذا الوجه منسياً من الصدور ، وأيضاً روي : أنهم كانوا يقرءون السورة ، فيصبحون وقد نسوها . وعن الثاني أنه معارض بقوله تعالى : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ } [ الأعلى : 6 7 ] وبقوله : { وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [ الكهف : 24 ] .
والثاني : أن أصله الهمز من النَّسِيء ، وهو التأخير ، إلا أنه أبدل من الهمزة ألف فحينئذ تتحد القراءتان .
ثم من قرأ من القراء : " ننساها " من الثلاثي فواضح .
وأما من قرأ منهم من " أَفْعَل " ، وهم نافع وابن عامر والكوفيون ، فمعناه عندهم : " نُنْسِكها " ، أي : نجعلك ناسياً لها ، أو يكون المعنى نأمر بتركها ، يقال : أنسيته الشيء ، أي : أمرته بتركه ، ونَسِيتُهُ : تَرَكْتُهُ ؛ وأنشدوا : [ الرجز ]
728- إنَّ عَلَيَّ عُقْبَةً أَقْضِيهَا *** لَسْتُ بِنَاسِيهَا وَلاَ مُنْسِيهَا{[1679]}
أي : لا تاركها ولا آمراً بتركها .
وقال الزجاج : " هذه القراءة لا يتوجّه فيها معنى الترك ، لا يقال : أنسى بمعنى ترك " .
قال الفارسي وغيره : " ذلك متّجه ؛ لأنه بمعنى نجعلك تتركها " ، وضعف الزجاج أيضاً أن تحمل الآية على معنى النسيان ضد الذكر ، ن وقال : إن هذا لم يكن له عليه السلام ولا نسي قرآناً .
[ بدليل ]{[1680]} قوله تعالى : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } [ الإسراء : 86 ] ، أي : لم نفعل شيئاً من ذلك .
وأجاب الفارسي بأن معناه لم نذهب بالجميع .
قوله تعالى : " نَأْتِ " هو جواب الشرط ، وجاء فعل الشرط والجزاء مضارعين ، وهذا التركيب أفصح التراكيب ، أعني : مجيئهما مضارعين .
قوله : " بِخَيْرٍ مِنْهَا " متعلّق ب " نَأْتِ " ، وفي " خير " هنا قولان :
الظاهر منهما : أنها على بابها من كونها للتفضيل ، وذلك أن الآتي به إن كان أخفّ من المنسوخ ، أو المنسوء ، فخيرته بالنسبة إلى سقوط أعباء التكليف ، وإن كان أثقل فخيرته بالنسبة إلى زيادة الثواب . وقوله تعالى : " أو مثلها " أي : في التكليف والثواب ، وهذا واضح .
والثاني : أن " خيراً " هنا مصدراً ، وليس من التفضيل في شيء ، وإنما هو خير من الخُيُور ، كخير في قوله : { أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ }
[ البقرة : 105 ] و " من " لابتداء الغاية ، والجار والمجرور صفة لقوله " خير " أي : خير صادر من جهتها ، والمعنى عند هؤلاء : ما ننسخ من آية أو نؤخّرها نَأْت بخير من الخيور من جهة المَنْسوخ أو المنسوء .
وهذا بعيد جدّاً لقوله بعد ذلك : " أوْ مِثْلِهَا " فإنه لا يصح عطفه على " بخير " على هذا المعنى ، اللَّهم إلا أن يقصد بالخير عدم التكليف ، فيكون المعنى : نأت بخير من الخُيُور ، وهو عدم التكليف ، أو نأت بمثل المنسوخ أو المنسوء . وأما عطف " مثلها " على الضمير في " منها " ، فلا يجوز إلاَّ عند الكوفيين لعدم إعادة الخافض . وقوله : " مَا نَنْسَخْ " فيه التفات من غَيْبة إلى تكلم ، ألا ترى أن قبله " وَاللهُ يَخْتَصُّ " " واللهُ ذُو الفَضْلِ " .
قال ابن الخطيب{[1681]} : الناسخ عبارة عن طريق شرعي يدلّ على إزالة الحكم الذي كان ثابتاً بطريق شرعي .
والنسخ جائز عقلاً واقع سمعاً ، ومن اليهود من أنكره عقلاً ، ومنهم من جَوّزه عقلاً ، ومنع منه سمعاً .
ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ .
واحتج الجمهور من المسلمين على جواز النسخ ووقوعه ؛ لأن الدلائل دلّت على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته لا تصحّ إلا مع القول بنسخ شرع من قبله ، فوجب القطع بالنَّسْخِ .
الأول : جاء في التوراة أن الله تعالى قال لنوح عليه الصلاة والسلام ، عند خروجه من الفلك : " إني جعلت كل دابة مأكلاً لك ، ولذريتك ، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب وما خلا الدّم فلا تأكلوه " .
ثم إنه تعالى حرم على موسى ، وعلى بني إسرائيل كثيراً من الحيوان .
الثاني : كان آدم عليه الصلاة والسلام يزوج الأخت من الأخ ، وقد حرمه بعد ذلك على موسى عليه الصلاة والسلام وعلى غيره .
قال منكرو النَّسخ : لا نسلم أن نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لا تصح إلاَّ مع القول بالنسخ ، لأن من الجائز أن يقال : إن موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام [ أمر الناس بشرعهما إلى زمان ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام ثم بعد ذلك أمر النَّاس باتّباع محمد عليه الصلاة السلام ، فعند ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام زال التكليف بشرعهما ، وحصل التكليف بشرع محمد عليه الصلاة السلام لكنه ]{[1682]} لا يكون ذلك نَسْخاً ، بل جارياً مجرى قوله تعالى : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ } [ البقرة : 187 ] ومن أنكر وقوع النسخ من المسلمين بنوا مذهبهم على هذا الحرف ، وقالوا : قد ثبت في القرآن أن موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام قد بشرا في التَّوْرَاة والإنجيل بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام وأن عند ظهوره يجب الرُّجُوع إلى شرعه ، وإذا كان الأمر كذلك فمع قيام هذا الاحتمال امتنع الجزم بوقوع النسخ .
احتج منكرو النَّسْخ بأن قالوا : إن الله تعالى لما بيّن شرع عيسى عليه الصلاة والسلام ، فاللفظ الدال على تلك الشريعة ، إما أن يقال : إنها دالة على دوامها ، أو لا يدل على دوامها ، أو [ لم يكن ]{[1683]} فيها دلالة على الدوام ، ولا على [ عدم الدوام ]{[1684]} ، فإن بيّن فيها ثبوتها على الدوام ، ثم تبين أنها ما دامت كان الخبر الأول كذباً ؛ لأنه غير جائز على الشرع ، وأيضاً فلو جوزنا ذلك لم يكن لنا طريق إلى العلم بأن شرعنا لا يصير منسوخاً في شرع موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام مع أنهما لم يدوما ، زال الوثوق عنه في كل الصور .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : ذكر اللفظ الدَّال على الدوام ، ثم قرن به ما يدلّ على أنه سينسخه أو ما قرن به إلا أنه نصّ على ذلك ، إلا أنه لم ينقل إلينا في الجملة ؟
أحدها : أن التنصيص على اللفظ الدال على الدوام مع التنصيص على أنه لا يدوم جمع بين كلامين متناقضين .
وثانيها : على هذا التقدير قد بين الله تعالى أن شرعهما سيصير منسوخاً ، فإذا نقل شرعه وجب أن ينقل هذه الكيفية أيضاً ؛ لأنه لو جاز أن ينقل أصل الشرع بدون هذه الكيفية لجاز مثله في شرعنا أيضاً ، وحينئذ لا يكون لنا طريق إلى القطع بأن شرعنا غير منسوخ ؛ لأن ذلك من الوقائع العظيمة التي تتوفّر فيها الدواعي على نقله ، وما كان كذلك وجب اشتهاره ، وبلوغه إلى حَدّ التواتر ، وإلا فلعلّ القرآن عورض ، ولم تنقل معارضته ، ولعلّ محمداً صلى الله عليه وسلم غير هذا الشرع عن هذا الوضع ، ولم ينقل ، [ وإذا كان ذلك غير جائز وجب ]{[1685]} أن تنقل هذه الكيفية على سبيل التواتر ، فنقول : لو أن الله تعالى نصّ في زمان موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام على أن شرعيهما سيصيران منسوخين لكان ذلك مشهوراً لأهل التواتر ، وكان معلوماً لهم بالضرورة ، ولو كان كذلك لاستحال مُنَازعة الجمع العظيم فيه ، فحيث رأينا اليهود والنصارى مطبقين على إنكار ذلك علمنا أنه لم يوجد التنصيص على أن شرعيهما يصيران منسوخين .
وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : [ إن الله تعالى نص على شرع موسى عليه الصلاة والسلام وقرن به ما يدل به على أنه منقطع غير دائم ]{[1686]} .
فهذا باطل لما ثبت أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون ذلك معلوماً بالضرورة لأهل التواتر .
وأيضاً فبتقدير صحته لا يكون ذلك نسخاً ، بل يكون ذلك انتهاء للغاية .
وأما القسم الثالث : وهو أنه [ - تعالى نص على شرع موسى عليه الصلاة والسلام ولم يبيّن فيه كونه دائماً ، أو كونه غير دائم ]{[1687]} فنقول : إنه ثبت في أصول الفقه أن مجرد الأمر لا يفيد التكرار{[1688]} ، وإنما يفيد المرة الواحدة ، فإذا أتى المكلف بالمرة الواحدة ، فقد خرج عن عُهْدة الأمر ، فورود أمر آخر بعد ذلك لا يكون نَسْخاً للأمر الأول ، فثبت بهذا التقسيم أن القول بالنسخ مُحَال .
فصل في تحرير محلّ الاستدلال بالآية
قال ابن الخطيب{[1689]} : والاستدلال بهذه الآية على وقوع النَّسخ ضعيف ؛ لأن " ما " هاهنا تفيد الشرط والجزاء ، وكما أن قولك : " من جاءك فأكرمه " لا يدل على حصول المجيء ، بل على أنه متى جاء وَجَبَ الإكرام ، ، فكذا هذه الآية لا تدلّ على حصول النسخ ، بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه ، فالأقوى أن تعوّل في الإثبات على قوله تعالى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ } [ النحل : 101 ] وقوله :
{ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } [ الرعد : 39 ] .
قال القرطبي رحمه الله تعالى : معرفة هذا الباب أكيدةٌ عظيمة ، لا يستغني عن معرفته العلماء ، ولا ينكره إلا الجَهَلة ؛ لما يترتب عليه من الأحكام ، ومعرفة الحلال من الحرام . روى أبو البختري قال : دخل علي رضي الله عنه المسجد ، فإذا رجل يخوف الناس ؛ فقال : ما هذا ؟ قالوا : رجل يذكر الناس ؛ فقال : ليس برجل يذكر الناس ! لكنه يقول : أنا فلان ابن فلان فاعرفوني ، فأرسل إليه فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ ! فقال : لا ؛ قال : فاخرج من مسجدنا ولا تُذكِّر فيه .
وفي رواية أخرى : أَعَلِمْتَ الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا ؛ قال : قد هلكت وأهلكت ! .
ومثله عن ابن عباس رضي الله عنهما .
فصل في أن للناسخ حقيقة هو الله
اعلم أن الناسخ في الحقيقة هو الله تعالى ، وسمي الخطاب الشرعي ناسخاً تجوزاً .
واحتجوا على وقوع النسخ في القرآن بوجوه :
الأول : أن المراد بالآيات المنسوخة هي الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل ، كالسَّبْت ، والصلاة إلى المشرق والمغرب مما وضعه الله تعالى وتعبّدنا بغيره ، فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون : لا تأمنوا إلا لمن تبع دينكم ، فأبطل الله عليهم ذلك بهذه الآية .
الوجه الثاني : المراد من النسخ نَقْلهُ من اللوح المحفوظ ، [ وتحويله عنه ]{[1690]} إلى سائر الكتب وهو كما يقال : نسخت الكتاب .
الوجه الثالث : أنا بينا أن هذه الآية لا تدلّ على وقوع النسخ ، بل على أنه لو وقع النسخ لوقع إلى خير .
[ ومن الناس من أجاب عن الاعتراض ]{[1691]} الأول بأن الآية إذا أطلقت ، فالمراد بها آيات القرآن ؛ لأنه هو المعهود عندنا .
وعن الثاني بأن نقل القرآن من اللوح المحفوظ لا يختصّ ببعض القرآن ، وهذا النسخ مختص ببعضه .
ولقائل أن يقول على الأول : لا نسلم أن لفظ الآية مختص بالقرآن ، بل هو عام في جميع الدلائل .
وعلى الثاني لا نسلم أن النسخ المذكور في الآية مختص ببعض القرآن ، بل التقدير والله أعلم : ما ننسخ من اللوح المحفوظ ، فإنا نأتي بعده بما هو خير منه .
الحجة الثانية : [ للقائلين بوقوع النسخ في القرآن ]{[1692]} أن الله تعالى أمر المرأة المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولاً كاملاً ، وذلك في قوله :
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَِزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ }
[ البقرة : 240 ] ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر ، كما قال { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً }
قال أبو مسلم : الاعتداد بالحَوْل ما زال بالكلية ؛ لأنها لو كانت حاملاً ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولاً كاملاً ، وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصاً لا ناسخاً .
والجواب أن مدة عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل ، سواء حصل وضع الحمل بِسَنَةٍ أو أقل أو أكثر ، فجعل السّنة العدة يكون زائلاً بالكلية .
الحجة الثالثة : أمر الله بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول بقوله تعالى
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً }
[ المجادلة : 12 ] ، ثم نسخ ذلك .
قال أبو مسلم : إنما زال ذلك لزوال سببه ؛ لأن سبب التعبّد بها أن يمتاز المنافقون من حيث إنهم لا يتصدقون عن المؤمنين ، فلما حصل هذا العرض سقط التعبد .
والجواب : لو كان كذلك لكان من لم يتصدق منافقاً وهو باطل ؛ لأنه روي أنه لم يتصدق غير علي رضي الله عنه ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } [ المجادلة : 13 ] .
الحجة الرابعة : أنه تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة بقوله تعالى :
{ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } [ الأنفال : 65 ] ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : { الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } [ الأنفال : 66 ] .
الحجة الخامسة : قوله تعالى : { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ] ثم أزالهم عنها بقوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [ البقرة : 144 ] قال أبو مسلم : " حكم تلك القبلة ما زال بالكلية جواز التوجيه إليها عند الإشكال ، أو مع العلم إذا كان هناك عذر " .
الجواب : أن على ما ذكرته لا فرق بين " بيت المقدس " ، وسائر الجهات ، فالخصوصية التي امتاز بها " بيت المقدس " عن سائر الجهات قد زالت بالكلية ، فكان نسخاً .
الحجة السادسة : قوله تعالى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ } [ النحل : 101 ] والتبديل يشتمل على رفع إثبات ، والمرفوع : إما التلاوة ، وإما الحكم فكيف كان فهو رفع ونسخ .
واحتجّ أبو مسلم بأن الله تعالى وصف كتابه بأنه { لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } [ فصلت : 42 ] فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل .
والجواب : أن المراد أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله ما يبطله ، ولا يأتيه من بعده أيضاً ما يبطله .
فصل في أنواع النسخ{[1693]}
تارة ينسخ الحكم ، وتارة التلاوة ، وتارة هما معاً ، فأما نسخ الحكم دون التلاوة فكهذه الآيات .
وأما نسخ التلاوة دون الحكم ، فكما يروى عن عمر - رضي الله عنه قال : كنا نقرأ " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيا فَارُجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالاً مِنَ اللهِ واللهُ عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ " .
وروي : " لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ واديَان مِنْ مالٍ لاَبْتَغَى إِلَيْهِمَا ثَالِثاً ، وَلاَ يَمْلاًُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ ، وَيتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ " .
وأما نسخ الحكم والتلاوة معاً ، فكما روت عائشة رضي الله عنها قالت : " أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات فنُسِخْن بخمس معلومات " ، فالعشر مرفوع التلاوة والحكم جميعاً ، والخمس مرفوع التلاوة ثابت الحكم .
ويروى أيضاً أن سورة " الأحزاب " كانت بمنزلة السبع الطوال ، أو أزيد ، ثم انتقص منها .
[ وروى ابن شهاب ، قال : حدثني أبو أمامة في مجلس سعيد بن المسيب
" أن رجلاً قام من الليل ليقرأ سورة من القرآن ، فلم يقدر على شيء منها ، وقام آخر فلم يقدر على شيء منها فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أحدهم : قمت الليل يا رسول الله لأقرأ سورة من القرآن فلم أقدر على شيء ، فقام الآخر ، فقال : وأنا كذلك يا رسول الله ، فقال الآخر : فإنا والله كذلك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّهَا مِمَّا نَسَخَ اللهُ البَارِحَةَ "
وسعيد بن المسيّب يسمع ما يحدث به أبو أمامة ، فلا ينكره .
فصل في بيان أنه ليس شرطاً البدل في النسخ
قال قوم : لا يجوز نسخ الحكم إلاَّ إلى بدل واحتجوا بهذه الآية .
وأجيبوا بأن نفي الحكم ، وإسقاط التعبُّد به خير من ثبوته في ذلك الوقت ، وقد نُسِخَ تقديم الصدقة بين يدي الرسول لا إلى بدل ] .
قال قوم : لا يجوز نسخ الشيء إلى ما هو أثقل منه ، واحتجوا بأن قوله : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ينافي كونه أثقل ؛ لأن الأثقل لا يكون خيراً منه ولا مثله .
وأجيب : بأن المراد بالخير ما يكون أكثر ثواباً في الآخرة ، ثم إن الذي يدلّ على وقوعه أن الله سبحانه نسخ في حقّ الزناة الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم ، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان ، وكانت الصَّلاة ركعتين عند قوم ، فنخست بأربع في الحضر .
وأما نسخه إلى الأخف ، فكنسخ العدّة من حَوْل إلى أربعة أشهر وعشرة ، وكنسخ صلاة اللَّيل إلى التخيير فيها .
وأما نسخ الشيء إلى المثل فتحويل القِبْلَة .
فصل : الكتاب لا ينسخ بالسُّنَّة المتواترة
قال الشافعي رضي الله عنه : الكتاب لا ينسخ بالسُّنة المتواترة ، واستدل بهذه الآية قال : لأنه قوله تعالى : { فأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } يفيد أنه يأتي بما هو من جنسه خير منه ، كما إذا قال الإنسان : ما أخذ منك من ثواب آتيك بخير منه ، وجنس القرآن قرآن ، وأيضاً المنفرد بالإتيان بذلك الخير ، وهو القرآن الذي هو كلام الله تَعَالى .
وأيضاً فإن [ السُّنة لا تكون خيراً من القرآن ] .
وروى الدَّارقطني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " القُرْآنُ يَنْسَخُ حَدِيْثِي وحَدِيْثِي لا يَنْسَخُ القُرْآنَ " .
وأجيب عن قوله تعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى }
[ النجم : 3-4 ] وقوله : { وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ } [ الحشر : 7 ] وإذا ثبت أن الكل من عند الله ، فالناسخ في الحقيقة هو الله تعالى [ أقصى ما فيه أنَّ الوحي ينقسم إلى قسمين متلوّ ، وغير متلو ] وقد نسخت الوصية للأقربين ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " لاَ وَصِيَّة لِوَارِثٍ " .
ونسخ حبس الزَّاني في البيوت بخبر الرجم .
والجواب : استدل به الشافعي رضي الله عنه من الآية ، وأما الوصية فإنها نسخت بآية المواريث قاله عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأشار النبي - صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله :
إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلاَ وَصِيَّة لِوَارِثٍ " .
وأما حبس الزاني ، فإنما هو أمر بإمساكهن إلى غاية ، وهي إلى { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } [ النساء : 15 ] فبيّن صلى الله عليه وسلم ما هو وليس بنسخ .
وروي أيضاً أن قوله : " الشَّيخ والشيخة إذا زينا ، فارجموهما ألبتة " {[1694]} كان قرآناً ، فلعل النسخ إنما وقع به .
فصل هل يدخل النسخ في الأخبار ؟
اختلفوا في الأخبار هل يدخلها النسخ{[1695]} ؟
فالجمهور على أن النسخ لا يدخل الخبر ، لاستحالة الكذب على الله تعالى .
وقيل : إن الخبر إذا تضمّن حكماً شرعيّاً جاز نسخه ، كقوله تعالى : { وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً } [ النحل : 67 ] .
فصل هل يجوز حمل الجنب للقرآن الكريم ؟
القرآن المنسوخ التلاوة يجوز للجنب حمله ، ولو صلى به لم تصح صلاته .
فصل في استدلال المعتزلة بهذه الآية على خلق القرآن
استدلت المعتزلة بهذه الآية على [ خلق القرآن ]{[1696]} من وجوه :
أحدها : أن كلام الله تعالى لو كان قديماً لكان الناسخ والمنسوخ قديمين وذلك مُحَال ؛ لأن الناسخ يجب أن يكون متأخراً عن المَنْسُوخ ، والمتأخر يستحيل قدمه ، والمنسوخ يجب زواله وارتفاعه ، وما ثبت زواله استحال قدمه .
وثانيها : أن الآية دلّت على أن بعض الآيات خير من بعض ، وما كان كذلك لا يكون قديماً .
وثالثها : قوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } يدل على أنه القادر على نسخ بعضها ، وإتيانه بشيء آخر بدلاً من الأول ، وما كان داخلاً تحت القدرة ، وكان فعلاً كان محدثاً .
وأجيب عنه : بأن كونه ناسخاً ومنسوخاً إنما هو من عوارض الأَلْفَاظ ، ولا نزاع في حدوثها ، فلما قلتم : إن المعنى الحقيقي الذي هو مدلول العبارات والاصطلاحات محدث بها .
قالت المعتزلة : لا شكّ أن تعلقه الأول قد زال ، وحدث له تعلق آخر ، فالتعلق الأول محدث ؛ لأنه زال ، والقديم لا يزول ، والتعلق الثاني حادث ، لأنه حصل بعد أن لم يكن ، والكلام الحقيقي لا ينفك عن هذه التعلقات ، وما لا ينفك [ عن الحدث ]{[1697]} محدث .
والجواب : أن قدرة الله تعالى كانت في الأَزَلِ متعلّقة بإيجاد العالم ، فعند دخول العالم في الوجود ، هل يبقى ذلك التعلّق أو لم يبق ؟
فإن بقي يلزم أن يكون القادر قادراً على إيجاد الموجود وهو محال ، وإن لم يبق فقد زال ذلك التعلق ، فألزمكم حدوث قدرة الله تعالى على ما ذكرتم ، وكذلك علم الله تعالى كان متعلقاً بأن العالم سيوجد ، فعند دخول هذا العالم في الوجود إن بقي التعلّق الأول كان جَهْلاً ، وإن لم يَبْقَ يلزمكم كون التعلق الأول حادثاً ؛ لأنه لو كان قديماً لما زال ، وكون التعلّق الذي حصل بعد ذلك حادثاً فإِذاً عالمية الله تعالى لا تنفكّ عن التعلّقات الحادثة ، وما لا ينفك عن المحدث [ محدث ]{[1698]} فعالمية الله محدثة ، فكل ما تجعلونه جواباً عن العالمية والقادرية هو جوابنا عن الكلام .
قوله : " أَلَم تَعْلَمْ " هذا استفهام معناه التقرير ، فلذلك لم يحتج إلى معادل يعطف عليه ب " أم " ، و " أم " في قوله : { أَمْ تُرِيْدُونَ } منقطعة هذا هو الصحيح في الآية . قال ابن عطية{[1699]} : ظاهره الاستفهام المَحْضُ ، فالمعادل هنا على قول جماعة : " أم تريدون " ، وقال قوم : " أم " منقطعة ، فالمعادل محذوف تقديره : أم علمتم ، هذا إذا أريد بالخطاب أمته عليه السلام .
أما إذا أريد هو به ، فالمعادل محذوف لا غير ، وكلا القولين مروي انتهى .
وهذا فيه نظر ؛ لما مرَّ أن المراد به التقرير ، فهو كقوله : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] .
والاستفهام بمعنى التقرير كثير جدّاً لا سيما إذا دخل على نفي كما مثلته لك .
وفي قوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ } التفاتان .
أحدهما : خروج من خطاب جماعة ، وهو " خير من ربكم " .
والثاني : خروج من ضمير المتكلّم المعظم نفسه إلى الغيبة بالاسم الظاهر ، فلم يقل : ألم تعلموا أننا ، وذلك لما لا يخفى من التعظيم والتَّفخْيم .
و { أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } " أن " وما في حَيِّزها ، إما سادة مسدّ مفعولين كما هو مذهب الجمهور ، أو واحد ، والثاني محذوف كما هو مذهب الأخفش .