أحدهما : قول سيبويه وهو أن " اللام " هي الموطّئة للقسم المحذوف ، و " إن " شرطية ، فقد اجتمع شرط وقسم ، وسبق القسم فالجواب له إذ لم يتقدمهما ذو خبر{[1873]} ، فلذلك جاء الجواب للقسم ب " ما " النافية وما بعدها ، وحذف جواب الشرط لسدّ جواب القسم مسده ، ولذلك جاء فعل الشرط ماضياً ؛ لأنه متى حذف الجواب وجب مضيّ فعل الشرط إلا في ضرورة ، و " تَبِعُوا " وإن كان ماضياً لفظاً فهو مستقبل معنى أي : ما يتبعون لأن الشرط قيد في الجملة والشرط مستقبل ، فوجب أن يكون مضمون الجملة مستقبلاً ضرورة أن المستقبل لا يكون شرطاً في الماضي .
الثاني : وهو قول الفراء{[1874]} ، وينقل أيضاً عن الأخفش{[1875]} والزجاج{[1876]} أن " إن " بمعنى " لو " ، ولذلك كانت " ما " في الجواب ، وجعل " ما تَبِعُوا " جواباً ل " إن " لأنها بمعنى " لو " .
أما إذا لم تكن بمعناها ، فلا تجاب ب " ما " وحدها ، بل لا بد من الفاء ، تقول : إن تزرني فما أزورك .
ولا يجيز الفراء : " ما أزورك " بغير فاء .
وقال ابن عطية{[1877]} : وجاء جواب " لئن " كجواب " لو " ، وهي ضدها في أنَّ " لو " تطلب المضي والوقوع ، و " إنْ " تطلب الاستقبال ؛ لأنهما جميعاً يترتب قبلهما القسم ، فالجواب إنما هو للقسم ؛ لأن أحد الحرفين يقع موضع الآخر هذا قول سيبويه .
قال أبو حيان{[1878]} : هذا فيه تثبيج ، وعدم نصّ على المراد ؛ لأن أوله يقتضي أن الجواب ل " إن " ، وقوله بعد : الجواب للقسم يدل على أنه ليس ل " إن " ، وتعليله بقوله : لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر لا يصلح علة لكون " ما تَبِعُوا " جواباً للقسم ، بل لكونه جواباً ل " إن " .
وقوله : " قول سيبويه " ليس في كتاب سيبويه ذلك ، إنما فيه أن " ما تبعوا " جواب القَسَم ، ووقع فيه الماضي موقع المستقبل .
قال سيبويه وقالوا : لئن فعلت ما فعل ، يريد معنى ما هو فاعل وما يفعل .
وتلّخص مما تقدم أن قوله : " مَا تَبِعُوا " فيه قولان :
أحدهما : أنه جواب للقسم سادّ مسدّ جواب الشرط ، ولذلك لم يقترن بالفاء .
والثاني : أنه جواب ل " إن " إجراء لها مجرى " لو " .
وقال أبو البقاء : " ما تَبِعُوا " أي : لا يتبعوا فهو ماض في معنى المستقبل ، ودخلت " ما " حملاً على لفظ الماضي ، وحذفت الفاء في الجواب ؛ لأن فعل الشرط ماض .
وقال الفراء : " إِنْ " هنا بمعنى " لو " .
وهذا من أبي البقاء يؤذن أن الجواب للشرط وإنما حذفت الفاء لكون فعل الشرط ماضياً ، وهذا منه غير مُرْضٍ ؛ لأنه خالف البصريين والكوفيين بهذه المَقَالَة .
قال الأصم : المراد من الآية علماؤهم الذين أخبر عنهم في الآية الكريمة المتقدمة بقوله تعالى : { وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } [ البقرة : 144 ] ؛ لأن الآية الكريمة لا تتناول العوام ، ولو كان المراد الكل لامتنع الكِتْمان ؛ لأن الجمع العظيم لا يجوز عليهم الكِتْمَان ، ولأنا لو حملناه على العموم لصارت الآية كذباً ؛ لأن كثيراً من أهل الكتاب آمن بمحمد - عليه الصلاة والسلام - وتبع قبلته .
وقال آخرون : بل المراد جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى ؛ لأن الذين أوتوا الكتاب صيغة عموم ، فيتناول الكل .
" الآية " : وزنها " فَعَلَة " أصلها : " أَيَيَة " ، فاستثقلوا التشديد في الآية فأبدلوا من الياء الأولى ألفاً لانفتاح ما قبلها .
والآية : الحُجّة والعلامة ، وآية الرجل : شخصه ، وخرج القول بآيتهم أي : جماعتهم .
وسميت آية القرآن بذلك ؛ لأنها جماعة حروف . وقيل : لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي بعدها .
وقيل : لأنها دالة على انقطاعها عن المخلوقين ، وأنها ليست إلا من كلام الله تعالى .
روي أن يهود " المدينة " ، ونصارى " نجران " قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم : ائتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قال ابن الخطيب : " والأقرب أن هذه الآية ما نزلت في واقعة مبتدأة ، بل هي من بقية أحكام تحويل القبلة " .
قوله : { وَمَا أَنْتَ بِتَابِعِ قِبْلَتَهُمْ } .
" ما " تحتمل الوجهين أعني : كونها حجازية ، أو تميمية : فعلى الأول يكون " أنت " مرفوعاً بها ، و " بتابع " في محلّ نصب .
وعلى الثاني يكون مرفوعاً بالابتداء ، و " بتابع " في محلّ رفع ، وهذه الجملة معطوفة على جملة الشرط ، وجوابه لا على الجواب وحده ، إذ لا يحل محله ؛ لأن نفس تبعيتهم لقبلته مقيد بشرط لا يصح أن يكون قيداً في نفي تبعيته قبلتهم ، وهذه الجملة أبلغ في النفي من قوله : { مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } من وجوه :
أحدها : كونها اسمية متكررة فيها الاسم ، مؤكد نفيها بالباء .
ووحّد القبلة وإن كانت مثناة : لأن لليهود قبلة ، وللنصارى قبلة أخرى لأحد وجهين :
إما لاشتراكهما في البطلان صارا قبلة واحدة ، وإما لأجل المقابلة في اللفظ ؛ لأن قبله : { مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } .
وقرئ : { بِتَابِعٍ قِبْلَتِهِمْ } بالإضافة تخفيفاً ؛ لأن اسم الفاعل المستكمل لشروط العمل يجوز فيه الوجهان .
واختلف في هذه الجملة : هل المراد بها النهي أي : لا تتبع قبلتهم ، ومعناه : الدوام على ما أنت عليه ؛ لأنه معصوم من اتباع قبلتهم ، أو الإخبار المَحْض بنفي الأتبّاع ، والمعنى أن هذه القبلة لا تصير مَنْسوخة ، أو قطع رجاء أهل الكتاب أن يعود إلى قبلتهم ؟ قولان مشهوران .
قوله : { وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } .
قال القفال : هذا يمكن حمله على الحال وعلى الاستقبال .
الأول : أنهم ليسوا مجتمعين على قِبْلَةٍ واحدة حتى يمكن إرضاؤهم باتباعها .
الثاني : أن اليهود والنصارى مع اتفاقهم على تكذيبك متباينون في القبلة ، فكيف يدعونك إلى ترك قبلتك ، مع أنهم فيما بينهما مختلفون .
الثالث : أن هذا إبطال لقولهم : إنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب ؛ لأنه إذا جاز أن تختلف قبلتاهما للمصلحة جاز أن تكون المصلحة في ثالث .
وأما حمل الآية على الاستقبال ففيه إشكال وهو أن قوله : { وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } ينفي أن يكون أحد منهم قد اتبع قبلة الآخر ، لكن ذلك قد وقع فيفضي إلى الخلف ، وجوابه أنا إن حملنا أهل الكتاب على علمائهم الذين كانوا في ذلك الزمان ، فلم يثبت عندنا أن أحداً منهم تبع قبلة الآخر ، فالخلف غير لازم .
وإن حملناه على الكل قلنا : إنه عامّ دخله التخصيص .
قوله تعالى : { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ } [ البقرة : 120 ] كقوله : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ } .
وقوله : " إِنَّكَ " جواب القسم ، وجواب الشرط محذوف كما تقدم في نظيره .
قال أبو حيان : لا يقال : إنه يكون جواباً لهما لامتناع ذلك لفظاً ومعنى .
أما المعنى فلأن الاقتضاء مختلف ، فاقتضاء القسم على أنه لا عمل له فيه ؛ لأن القَسَم إنما جيء به توكيداً للجملة المقسم عليها ، وما جاء على سبيل التوكيد لا يناسب أن يكون عاملاً ، واقتضاء الشرط على أنه عامل فيه ، فتكون الجملة في موضع جزم ، وعمل الشرط لقوة طلبه له .
وأما اللفظ فإن هذه الجملة إذا كانت جواب قسم لم تحتج إلى مزيد رابط ، فإذا كانت جواب شرط احتاجت إلى مزيد رابط وهو الفاء ، ولا يجوز أن تكون خالية من الفاء موجودة فيها ، فلذلك امتنع أن تكون جواباً لهما معاً .
الهوى المقصور : هو ما يميل إليه الطبع [ وقيل : هو شهوة نتجت عن شبهة ، والممدود هو الجو ]{[1879]} . ؟
اختلفوا في المخاطب بهذا الخطاب .
وقال آخرون : بل غيره ؛ لأنه - تعالى - عرف أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لا يفعل ذلك ، فلا يجوز أن يخصّه بهذا الخطاب ، وهذا خطأ من وجوه :
أحدها : أنه لو كان كل ما علم الله أنه لا يفعله وجب ألا ينهاه عنه ، لكان ما علم أن يفعله وجب ألا يأمره به ، وذلك يقتضي ألا يكون النبي مأموراً بشيء ، ولا منهيّاً عن شيء ، وإنه بالاتفاق باطل .
وثانيها : لولا تقدم النهي والتحذير لما احترز النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه فلما كان ذلك الاحتراز مشروطاً بذلك النهي والتحذير ، فكيف يجعل ذلك الاحتراز منافياً للنهي والتحذير .
وثالثها : أن يكون الغرض من النهي والوعيد أن يتأكد قبح ذاك في العقل ، فيكون الغرض منه التأكيد ، ولما حسن من الله التنبيه على أنواع الدلائل الدالة على التوحيد بعدما قرّرها في العقول والغرض منه تأكيد العقل بالنقل ، فأي بعد في مثل هذا الغرض هاهنا .
ورابعها : قوله تعالى في حق الملائكة : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 29 ] مع أنه - تعالى - أخبر عن عصمتهم في قوله : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ النحل : 50 ] وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلم :
{ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] .
والإجماع على أنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك ، وما مال إليه ، وقال { يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ }
[ الأحزاب : 1 ] وقال : { بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } [ المائدة : 67 ] ، وقوله : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ }
فثبت بما قلنا أنه - عليه الصلاة والسلام - مَنْهي عن ذلك وأن غيره أيضاً منهي عنه ؛ لأن النهي عن هذه الأشياء ليس من خواصّ الرسول عليه الصلاة والسلام .
بقي أن يقال : فلم خصه بالنهي دون غيره ؟
أحدها : أن كل من كان نعم الله عليه أكثر ، كان صدور الذنب منه أقبح ، فكان أَوْلَى بالتخصيص .
وثانيها : أن مزيد الحبّ يقتضي التخصيص بمزيد التحذير .
وثالثها : أن الرجل الحازم إذا أقبل على أكبر أولاده وأصلحهم ، فزجره عن أمر بحضرة جماعه أولاده ، فإنه يكون منبهاً بذلك على عظم ذلك الفعل إن ارتكبوه ، فهذه قاعدة مقررة في أمثال هذه الآية .
القول الثاني : أن قوله : { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ } [ البقرة : 120 ] ليس المراد منه إن اتبع أهواءهم في كل الأمور ، فلعله - عليه الصلاة والسلام - كان في بعض الأمور يتبع أهواءهم ، مثل ترك المُخَاشنة في القول والغِلْظَة في الكلام ، طمعاً منه - عليه الصلاة والسلام - في استمالتهم ، فنهاه الله - تعالى - عن ذلك القدر أيضاً ، وآيَسَهُ منهم بالكلية على ما قال : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً } [ الإسراء : 74 ] .
القول الثالث : أن ظاهر الخطاب وإن كان مع الرسول إلا أن المراد منه غيره ، وهذا كما أنك إذا عاتبت [ إنساناً أساء عبده إلى عبدك فتقول له : لو فعلت مرة أخرى مثل ]{[1880]} هذا الفعل لعاقبتك عليه عقاباً شديداً ، فكان الغرض منه زجر العبد .
قوله تعالى : { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } .
إنه - تعالى - لم يرد بذلك أنه نفس العلم ، بل المراد الدَّلائل والآيات والمعجزات ؛ لأن ذلك من طرق العلم ، فيكون ذلك من باب إطلاق اسم الأثر على المؤثّر ، والغرض من هذا الاستعارة هو المبالغة [ والتعظيم في ]{[1881]} أمر النبوات والمعجزات بأنه سمّاها باسم العلم ، وذلك ينبّهك على أن العلم أعظم المخلوقات شرفاً ومرتبة ، ودلّت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجّهه على غيرهم .
قوله تعالى : { إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } أي إِنّك لو فعلت ذلك لكنت بمنزلة القوم في كفرهم ، وظلمهم أنفسهم ]{[1882]} .
و " إذاً " حرف جواب وجزاء بنص سيبويه ، وتنصب المضارع بثلاثة شروط :
أن تكون صدراً ، وألا يفصل بينها وبين الفعل بغير الظرف والقسم ، وألا يكون الفعل حالاً ، ودخلت هنا بين اسم " إن " وخبرها لتقرير النسبة بينهما وكان حدها أن تتقدم أو تتأخر ، فلم تتقدم ، لأنه سبق قسم وشرط والجواب هو للقسم ، فلو تقدمت لتوهّم أنها لتقرير النسبة التي بين الشرط والجواب المحذوف ، ولم تتأخر لئلا تفوت مناسبة الفواصل رؤوس الآي .
قال أبو حيان : وتحرير معنى " إذاً " صعب اضطرب الناس في معناها ، وفي فهم كلام سيبويه فيها ، وهو أن معناها الجواب والجزاء .
قال : والذي تحصل فيها أنها لا تقع ابتداء كلام ، بل لا بد أن يسبقها كلام لفظاً أو تقديراً ، وما بعدها في اللفظ أو التقدير ، وإن كان متسبباً عما قبلها فهي في ذلك على وجهين :
أحدهما : أن تدلّ على إنشاء الارتباط والشرط ، بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها ، مثال ذلك : أزورك فتقول : إذاً أزورك ، فإنما تريد الآن أن تجعل فعله شرطاً لفعلك ، وإنشاء السببية في ثاني حال من ضرورته أن يكون في الجواب ، وبالفعلية في زمان مستقبل ، وفي هذا الوجه تكون عاملة ، ولعملها شروط مذكورة في النحو .
الوجه الثاني : أن تكون مؤكّدة لجواب ارتبط بمقدم ، أو منبّهة على مسبب حصل في الحال ، وهي في الحالين غير عاملة ؛ لأن المؤكدات لا يعتمد عليها والعامل يعتمد عليه ، وذلك ، نحو : " إن تأتني إِذَاً آتك " ، و " والله إِذاً لأفعلن " فلو أسقطت " إِذاً " لفهم الارتباط ، ولما كانت في هذا الوجه غير معتمد عليها جاز دخولها على الجملة الاسمية الصريحة نحو : " أزورك " فتقول : " إِذاً أنا أكرمك " ، وجاز توسطها نحو : " أنا إِذاً أكرمك " وتأخرها ، وإذا تقرر هذا فجاءت " إذاً " في الآية مؤكدة للجواب المرتبط بما تقدم ، وإنما قررت معناها هنا ؛ لأنها كثيرة الدور في القرآن ، فتحمل في كل موضع على ما يناسب من هذا الذي قررناه انتهى كلامه .
واعلم أنها إذا تقدمها عاطف جاز إعمالها وإهمالها ، وهو الأكثر ، وهي مركبة من " همزة وذال ونون " ، وقد شبهت العرب نونها بتنوين المنصوب قلبوها في الوقف ألفاً ، وكتبوها في الكتاب على ذلك ، وهذا نهاية القول فيها .
وجاء في هذا المكان " مِنْ بِعْدِ مَا جَاءَكَ " وقال قبل هذا :
{ بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ } [ البقرة : 120 ] وفي " الرعد " : { بَعْدَ مَا جَآءَكَ }
[ الرعد : 37 ] فلم يأت ب " من " الجارة إلا هنا ، واختص موضعاً ب " الذي " ، وموضعين ب " ما " ، فما الحكمة في ذلك ؟
والجواب : ما ذكره بعضهم وهو أن " الذي " أخص و " ما " أشد إبهاماً ، فحيث أتي ب " الذي " أشير به إلى العلم بصحّة الدين الذي هو الإسلام المانع من ملّتي اليهود والنصارى ، فكان اللفظ الأخص الأشهر أولى فيه ؛ لأنه علم بكل أصول الدين ، وحيث أتي بلفظ " ما " أشير به إلى العلم [ بركنين ]{[1883]} من أركان الدين ، أحدهما : القبلة ، والآخر : بعض الكتاب ؛ لأنه أشار إلى قوله :
{ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } [ الرعد : 36 ] .
قال : وأما دخول " :من " ففائدته ظاهرة ، وهي بيان أول الوقت الذي وجب عليه - عليه السلام - أن يخالف أهل الكتاب في قبلتهم ، والذي يقال في هذا : إنه من باب التنوع من البلاغة .