يجوز في " مَنْ " الوجهان الجائزان في " مَنْ " قبلها ، والفاء في " فَلاَ إِثْمَ " هي جوابُ شرطٍ ، أو الدَّاخلة في الخبر .
و " مِنْ مُوصٍ " يجوز فيها ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون متعلِّقة ب " خَافَ " على أنها لابتداء الغاية .
الثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حال من " جَنَفاً " ، قدمت عليه ؛ لأنها كانت في الأصل صفةً له ، فلما تقدَّمت ، نُصِبَتْ حالاً ، ونظيره : " أَخَذْت مِنْ زَيْدٍ مَالاً " ، إنْ شئت ، علَّقت " مِنْ زَيْدٍ " ب " أَخَذْتُ " ، وإن شئت ، جعلته حالاً من " مالاً " ؛ لأنه صفته في الأصل .
الثالث : أن تكون لبيان جنس الجانفين ، وتتعلَّق أيضاً ب " خَافَ " فعلى القولين الأولين : لا يكون الجانف من الموصين ، بل غيرهم ، وعلى الثالث : يكون من الموصين ، وقرأ أبو بكر{[2506]} ، وحمزة والكسائي ، ويعقوب " مُوصٍّ " بتشديد الصَّاد ؛ كقوله : { مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً } [ الشورى : 13 ] و { وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ } [ لقمان : 14 ] والباقون يتخفيفها ، وهما لغتان ؛ من " أَوْصَى " ، و " وَصَّى " ؛ كما قدَّمنا ، إلا أن حمزة ، والكسائيَّ ، وأبا بكر من جملة من قرأ { وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ } [ البقرة : 132 ] ونافعاً ، وابن عامرٍ يقرءان " أَوْصَى " بالهمزة ، فلو لم تكن القراءة سُنَّةً متبعة لا تجوز بالرَّأي ، لكان قياس قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، وحفص هناك : " وَوَصَّى " بالتضعيف - أن يقرءوا هنا " مُوَصٍّ " بالتَّضعيف أيضاً ، وأمَّا نافع ، وابن عامر ، فإنهما قرءا هنا : " مُوصٍ " مخفَّفاً ؛ على قياس قِراءتهما هناك ، و " أَوْصَى " على " أَفْعَلَ " وكذلك حمزة ، والكسائيُّ ، وأبو بكر قرءوا : " وَوَصَّى " - هناك بالتضعيف ؛ على القياس .
و " الخَوْفُ " هنا بمعنى الخشية ، وهو الأصل .
فإن قيل : الخوف إنما يصحُّ في أمر سيصير ، والوصيَّة وقعت ، فكيف يمكن تعليقها بالخوف ؟ !
أحدها : أن المراد منه أن المصلح ، إذا شاهد الموصي ، يوصي ، وظهر منه أمارة الحيف ، عن طريق الحقِّ مع ضرب من الجهالة ، أو مع التأويل ، أو شاهد من التَّعمُّد في الميل ، فعند ظهور الأمارة تحقيق الوصيَّة ، يأخذ في الإصلاح ؛ لأنَّ إصلاح الأمر عند ظهور أمارات فساده ، وقبل تقرير فساده يكون أسهل ؛ فلذلك علَّقه - تعالى - بالخوف دون العلم .
الثاني : الموصي له الرجوع عن الوصيَّة ، وفسخها ، وتغييرها بالزِّيادة والنُّقصان ، ما لم يمت ، وإذا كان كذلك ، لم يصر الجنف والإثم معلومين ؛ فلذلك علَّقه بالخوف .
الثالث : يجوز أن يصلح الورثة والموصى له بعد الموت على ترك الميل والجنف ، وإذا كان ذلك منتظراً ، لم يكن الجنف ، والإثم مستقرّاً ؛ فصحَّ تعليقه بالخوف .
وقيل : [ الخَوْفُ ] بمعنى العلم ، وهو مجازٌ ، والعلاقة بينهما هو أنَّ الإنسان لا يخاف شيئاً ؛ حتى يعلم أنه ممَّا يُخاف منه ، فهو من باب التعبير عن السَّبب بالمسبِّب ؛ ومن مجيء الخوف بمعنى العلم قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } [ البقرة : 229 ] ، وقول أبي محجن الثقفيَّ : [ الطويل ]
923 - إذَا مُتُّ فَادْفِنِّي إلى جَنْبِ كَرْمَةٍ *** تُرَوِّي عِظَامِي في المَمَاتِ عُرُوقَهُا
وَلاَ تَدْفِنَنِّي في الفَلاَةِ فَإِنَّنِي *** أَخَافُ إذَا مَا مُتُّ أَنْ لاَ أَذُوقُهَا{[2507]}
فعلى هذا يكون معنى الآية الكريمة أن الميِّت إذا أخطأ في وصيَّته ، أو جنف فيها متعمِّداً ، فلا حرج على من علم ذلك أن يغيِّره ، بعد موته ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والرَّبيع{[2508]} ، وأصل " خَافَ " " خَوَفَ " تحرَّكت الواو وانفتح ما قبلها ؛ فقلبت ألفاً ، وأهل الكوفة يميلون هذه الألف .
أحدهما : الميل ؛ قال الأعشى : [ الطويل ]
924 - تَجَانَفُ عَنْ حُجْرِ اليمَامَةِ نَاقَتِي *** وَمَا قَصَدَتْ مِنْ أَهْلِهَا لِسوَائِكَا{[2509]}
925 - هُمُ المَوْلَى وَإِنْ جَنَفُوا عَلَيْنَا *** وَإِنَّا مِنْ لِقَائِهِمُ لَزُورُ{[2510]}
قال أبو عبيدة : المولى هاهنا في موضع الموالي ، أي : ابن العمِّ ؛ لقوله تعالى : { ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [ غافر : 67 ] ، وقيل : هو الجسور .
926 - إنِّي امْرُؤٌ مَنَعَتْ أَرُومَةَ عَامِرٍ *** ضَيْمِي وَقَدْ جَنَفَتْ عَلَيَّ خُصُوم{[2511]}
يقال : جَنِفَ بِكَسْر النُّون ، يَجْنَفُ ، بفتحها ، فهو جَنِفٌ ، وجَانِفٌ ، وأَجْنَفَ : جاء بالجَنَفِ ، ك " أَلأَمَ " أي : أتى بما يلام عليه .
والفرق بين الجنف والإثم : أن الجنف هو الميل مع الخطأ ، والإثم : هو العمد .
فصل في سوء الخاتمة بالمضارة في الوصيَّة
روي عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنَّ الرَّجُلَ ، أو المَرْأَةَ ، لَيَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ سَبْعِينَ سَنَةً ، ثُمَّ يَحضُرُهُمَا المَوْتُ ، فَيُضَارَّانِ في الوَصِيَّةِ ؛ فتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ{[2512]} " ، ثم قرأ أبو هريرة :
{ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةًً }
والضمير في " بَيْنَهُمْ " عائدٌ على الموصي ، والورثة ، أو على الموصى لهم ، أو على الورثة والموصى لهم ، والظاهر عوده على الموصى لهم ، إذ يدلُّ على ذلك لفظ " الموصي " ، وهو نظير " وأَدَاءٌ إلَيْهِ " في أنَّ الضَّمير يعود للعافي ؛ لاستلزام " عُفِيَ " له ؛ ومثله ما أنشد الفراء : [ الوافر ]
927 - وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضاً- *** -أُرِيدُ الخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي{[2513]}
فالضمير في " أيُّهما " يعود على الخير والشَّرِّ ، وإن لم يجر ذلك الشَّرِّ ، لدلالة ضده عليه ، والضمير في " عَلَيْهِ " وفي " خَافَ " وفي " أَصْلَحَ " يعود على " مَنْ " .
هذا المصلح [ من هو ؟ ] الظاهر أنه الوصي ، وقد يدخل تحته الشاهد ، وقد يكون المراد منه من يتولَّى ذلك بعد موته ؛ من والٍ ، أو وليٍّ أو وصيّ ، أو من يأمر بمعروف ، فلا وجه للتخصيص ، بل الوصيُّ أو الشاهد أولى بالدُّخول ؛ لأن تعلقهم أشدُّ ، وكيفيَّة الإصلاح أن يزيل ما وقع فيه الجنف ، ويردَّ كلَّ حَقٍّ إلى مستحقه .
قال القُرْطُبِيُّ{[2514]} : الخطاب في قوله : { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ } لجميع المسلمين ، أي : إن خفتم من موص جنفاً ، أي : ميلاً في الوصيَّة ، وعدولاً عن الحقِّ ، ووقوعاً في إثم ، ولم يخرجها بالمعروف بأن يوصي بالمال إلى زوج ابنته ، أو لولد ابنته ؛ لينصرف المال إلى ابنته [ أو إلى ابن ابنه ، والغرض أن ينصرف المال إلى ابنِهِ ، أو أوصى لبعيدٍ ] ، وترك القريب ؛ فبادروا إلى السَّعي في الإصلاح بينهم ، فإذا وقع الصُّلح ، سقط الإثم عن المصلح ، والإصلاح فرض على الكفاية ، إذا قام أحدهم به ، سقط عن الباقين ، وإن لم يفعلوا ، أثم الكل .
فإن قيل : هذا الإصلاح طاعةٌ عظيمةٌ ، ويستحقُّ الثَّواب عليه ، فكيف عبَّر عنه بقوله : { فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } ؟
أحدها : أنه تعالى ، لما ذكر إثم المبدِّل في أوَّل الآية وهذا أيضاً من التَّبديل ، بيَّن مخالفته للأوَّل ، وأنه لا إثم عليه ؛ لأنَّه ردَّ الوصيَّة إلى العدل .
وثانيها : أنه إذا أنقص الوصايا ، فذلك يصعب على الموصى لهم ، ويوهم أن فيه إثماً ، فأزال ذلك الوهم ، فقال : { فَلاَ إِثْمَ عَلَيَهِ } .
وثالثها : أن مخالفة الموصي في وصيَّته ، وصرفها عمن أحبَّ إلى من كره ؛ فإن ذلك يوهم القبح فبيَّن تعالى أن ذلك حسنٌ ؛ بقوله : { فَلاَ إِثْمَ عَلَيَهِ } .
ورابعها : أن الإصلاح بين جماعةٍ يحتاج إلى إكثارٍ من القول ، ويخاف أن يتخلَّله بعض ما لا ينبغي من القول والفعل ؛ فبيَّن تعالى أنَّه لا ثم عليه في هذا الجنس ، إذا كان قصده في الإصلاح جميلاً .
فإن قيل : قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } إنما يليق بمن فعل فعلاً لا يجوز ، وهذا الإصلاح من جملة الطَّاعات ، فكيف يليق به هذا الكلام ؟
أحدها : أن هذا من باب التَّنبيه بالأدنى على الأعلى ، فكأنه قال : أنا الذي أغفر للذُّنوب ، ثم أرحم المذنب ؛ فبأن أوصل رحمتي وثوابي إليك ، مع أنك تحمَّلت المحن الكثيرة في إصلاح هذا المهمِّ كان أولى .
وثانيها : يحتمل أن يكون المراد : أن ذلك الموصي الذي أقدم على الجنف والإثم ، متى أصلحت وصيَّته ؛ فإن الله غفور رحيم يغفر له ، ويرحمه بفضله .
وثالثها : أن المصلح ، ربما احتاج في الإصلاح إلى أفعال وأقوال ، كان الأولى تركها ، فإذا علم الله تعالى منه أنَّه ليس غرضه إلا الإصلاح ، فإنه لا يؤاخذه بها ؛لأنه غفور رحيم .
فصل في أفضلية الصدقة حال الصحة
قال القرطبيُّ{[2515]} رحمه الله تعالى : والصَّدقة في حال الصِّحَّة أفضل منها عند الموت ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - وقد سئل : أيُّ الصدقة أفضل ؟ فقال : " أن تَصَّدَّقَ ، وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ{[2516]} "
وقال - عليه الصلاة والسلام - : " لأنْ يَتَصَدَّقَ المَرْءُ في حَيَاتِهِ بِدِرْهِم خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ عِنْدَ مَوْتِهِ بِمَائَةٍ{[2517]} " وقال - عليه السلام - : " مَثَلُ الَّذِي يُنْفِقُ ، وَيَتَصَدَّقُ عِنْدَ مَوْتِهِ مَثَلُ الَّذِي يُهْدِي بَعْدَ مَا يَشْبَعُ{[2518]} " .
ومن لم يضر في وصيته ، كانت كفارة لما ترك من زكاته ؛ لقوله-- عليه الصلاة والسلام- : " مَنْ حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ ، فَأَوْصَى ، فَكَانَتْ وَصِيَّتُهُ عَلَى كتَابِ اللهِ ؛ كَانَتْ كَفَّارَةً لما تَرَكَ مِنْ زَكَاتِهِ{[2519]} " وقال - عليه الصلاة والسلام- : " الإِضْرَارُ في الوَصِيَّةِ مِنَ الكَبَائِرِ{[2520]} " وقال - عليه الصلاة والسلام - : " إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ أو المَرْأَةَ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً ، ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا المَوْتُ ، فيُضارَّان في الوَصِيَّةِ ، فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ{[2521]} " وروى عمران بن حصين ، أن رجلاً أعتق ستة مملوكين عند موته ، لم يكن له مال غيرهم ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب من ذلك ، وقال : لقد هممت ألاَّ أصلي عليه [ ثم دعى مملوكيه ] ، فجَزَّأهم ثلاثاً ، وأقرع بينهم ، وأعتق اثنين ، وأرقَّ أربعة{[2522]} .